سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حين كان ويتمان وريتسوس ورامبو ونيرودا يتنزهون في الصالحية ويرتادون مقهى القنديل ... عودة إلى حالة متفردة في تاريخ الثقافة السورية : جيل السبعينات ، أو الومضة التي سبقت الظلام المديد
هل كان بمقدور جيل السبعينات أن ينجو بنفسه من مصير محتوم أشبه بمصائر أبطال التراجيديا الأغريقية؟ السؤال ما زال مطروحاً على الساحة الشعريّة في سوريّة، بعد مرور 15 عاماً على موت رياض الصالح الحسين الذي اعتبر رحيله العبثي تعبيراً مجازيّاً عن انتهاء تلك المرحلة الذهبيّة. الوسط" اقتفت أثر حفنة من أولئك الشعراء الذين نقلوا قصيدة النثر من مرحلة إلى أخرى مكمّلين تجربة الماغوط، وخاضوا تجارب راديكاليّة وضعتهم على حافة الخطر، لكن لم يبق من انجازاتهم سوى طعم الفشل واليأس إذ أصبحت القصيدة بعدهم "عزلاء ومستوحشة وجرداء كشجرة يابسة". برحيل رياض الصالح الحسين قبل خمسة عشر عاماً وهو في السابعة والعشرين، انطوت صفحة أساسيّة من تاريخ الشعر في سوريّة. فوفاة الشاعر السوري وهو في ريعان الشباب، لم تكن إلا اعلان وفاة جيل شعريّ كامل عرف ب "جيل السبعينات". وتسمية "جيل السبعينات" أطلقت على مجموعة من الشعراء السوريين الذين نقلوا قصيدة النثر من مرحلة إلى أخرى، من دون اتفاق مسبق في ما بينهم. فبعدما كانت تلك القصيدة حالة مجرّدة، وترفاً جماليّاً يستكين إلى برجه العاجي، نقلتها شلّة من الشعراء الشباب إلى التداول اليومي، وشرّعتها على التجربة الحياتيّة والمعاناة المباشرة. وأبرز هؤلاء نزيه أبو عفش الذي ينتمي من ناحية السنّ إلى جيل الستينات، وبندر عبدالحميد، ومنذر مصري، وعادل محمود، ورياض الصالح الحسين، ومرام مصري. وقد تعدّدت الاتجاهات لدى هذا الجيل فضمت تجارب استلهمت الصوفية والغنائية والتجريبية المسرفة في شكلانيتها. في السبعينات كان الهواء نظيفاً الى آخر الرئتين، لم يفسد بعد في الغرف الضيقة للايديولوجيا. صحيح أن ثقافة السبعينات نتاج الايديولوجيا الصارمة، لكنها كانت خارجة عن السياق الرسمي. ويجمع النقّاد والدارسون على أن حقبة السبعينات كانت المرحلة المتفردة في تاريخ الثقافة السورية. فقد صنعتها أسماء وأصوات وتيارات نفضت عن كاهلها سطوة النص القديم المكرر، نحو نص جديد مفتوح على الثقافة العالمية. وصار ويتمان وريتسوس ورامبو ونيرودا يتنزهون في شوارع الصالحية، وويرتادون مقهى القنديل، فيما كان المتنبي وصحبه يستريحون في غبار المكتبات، أو يحتلون زوايا ضيقة في الصحف والمجلات كنوع من اعتراف خجول بثقافة الأقدمين. يومها شرّع "ملحق الثورة الثقافي" صفحاته للتجارب الجديدة، وفي طليعتها قصيدة النثر. ونفض زكريا تامر الغبار عن مجلة "الموقف الأدبي"، ثم "المعرفة"، مفسحاً المجال لأسماء جديدة وأصوات تبحث عن ذاتها خارج الركام، حسب تعبير الشاعر خليل صويلح. رجل من القمر هكذا لم يكن ظهور شعراء تلك الحقبة حدثاً طارئاً، إذ هم عبّروا عن حالة الفوران العامة، وكانوا جزءاً من خصوبة المرحلة. ولم تلبث أن تعدّدت محاولات التجاهل والتغييب، الساعية إلى التقليل من أهميّة تلك الظاهرة الخلاقة ذات الملامح الريادية. ثم تضافرت مجموعة من العناصر لتغرق هؤلاء في قاع الذاكرة. فأين هو هذا الجيل اليوم؟ وماذا بقي من تلك التجربة التي لم ولن تتكرّر؟ "لقد أعاد جيل السبعينات النظر جذرياً بمعنى الشعر ووظيفته وأدواته كما صاغتهما حركة "مجلة شعر" والفضاء الحداثي المحيط بها في أواخر الخمسينات والستينات". هذا ما يراه الناقد السوري محمد جمال باروت الذي كان أول من صاغ نظرياً مفهوم "جيل السبعينات"، من خلال متابعته للظواهر الجديدة، حتى بدا وكأنه ناقدها الأوحد. ويتابع باروت: "لهؤلاء يعود الفضل في إعادة النظر بمفهوم الحداثة الشعرية، تمهيداً لاطلاق مفهوم جديد للقصيدة. وهذا المفهوم تواتر تنميطه، في حمى البحث والأسئلة والجدل حول ما يقترحه جيل السبعينات في سورية، تحت أسماء القصيدة الشفوية والقصيدة اليومية وقصيدة التفاصيل، وهي برمتها دلالات على اقتراب الشعر مع هذا الجيل من جماليات نثر الحياة اليومية". وبين رواد هذا الاتجاه الشعري السبعيني في سورية، يتوقّف باروت عند نزيه أبو عفش وبندر عبدالحميد ومنذر مصري ورياض الصالح الحسين وعادل محمود : "بدا بعض هؤلاء كأنه يواصل خط الماغوط في القصيدة الشفوية أو اليومية، مع أن فضاء تلك القصيدة كان قد اتسع ليشمل سعدي يوسف وشوقي أبي شقرا... هناك مفهوم جديد للشعر، مختلف عن المفهوم الذي أفرزته "مجلة شعر"، لم تتم صياغته المنظومية الا لاحقاً في السبعينات، تحت تأثير أفراد هذا الجيل. فهؤلاء، وإن صمت بعضهم - يتابع باروت - تركوا بصماتهم على الحركة الشعريّة، ولا تزال مفاهيمهم مهيمنة على تجارب الشعر الحديث التي جاءت بعد "شعر". منذر مصري الذي يعتبر من أبرز رواد جيل السبعينات سرد ل "الوسط" قصته مع الشعر: "عندما اندلعت حرب تشرين كنت في الخدمة العسكرية على الجبهة. وفي حفرة فردية على تل صغير، كتبت حينها ما يمكن أن يكون السبب الذي يجعل الآخرين، ومنهم أنا، يظنونني شاعراً. كانت أوّل مرة أرسل قصائدي إلى دورية أدبية هي "الموقف الأدبي" التي كان يرأس تحريرها زكريا تامر. نشرت "رحلات شقائق النعمان" فبدوت أشبه بضيف أجنبي، حسب أحد الأصدقاء، وأضاف آخر: كأنك هابط من القمر! بعدها تابعت النشر في "المعرفة"، "الموقف الأدبي"، "ملحق الثورة الثقافي"، فذاع اسمي وصرت معروفاً، وصار لي أصدقاء من الشعراء كبندر عبدالحميد ونزيه أبو عفش وعادل محمود. ومع هؤلاء وغيرهم شكّلنا من دون سابق تنسيق طبعاً، ما عرف لاحقاً بشعراء السبعينات". يا له من موت! "كانت هناك محاولات واتجاهات أخرى يتابع مصري لكنّ أسباباً عدّة، كانت وراء الهالة التي أحاطت بنا، وبرياض الصالح الحسين الذي انضمّ إلينا، أهمها اننا كنا نكتب قصيدة النثر. منذر مصري يعيش الآن "منفياً" في مدينة اللاذقية. فقد ابتعد عن كل شيء الا اليأس، خصوصاً بعدما صار يعاني من مصاعب متزايدة في النشر : "أشعر باليأس، ليس السبب المباشر أن مجموعتي "داكن" لم تصدر، وأن "آمال شاقة" لاقت المصير نفسه، فقصائدي منشورة هنا وهناك. لكن يأسي نابع من انني انا الذي جنّ وتقدد، أنا الذي تعفن، أنا الذي ما عدت عوداً أخضر اذا كسرته يخرج منه حليب". يشبه مصير منذر مصري، بشيء من التفاوت، مصائر كثيرين من أبناء جيله. فإذا كان الصمت يعني موت الشاعر بشكل من الأشكال، فإن الموت الفعلي أسكت اثنين من أبرز أصوات السبعينات، ولكن يا له من موت! رياض الصالح الحسين، توفي مطلع الثمانينات في مشفى حكومي نتيجة فشل كلوي، ما هو إلا نتيجة متأخرة لفشل معنوي وفشل عاطفي. له أربع مجموعات هي "خراب الدورة الدموية"، "أساطير يومية"، "بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس"، "وعل في الغابة". وما زال ذكر اسمه يثير حزناً دفيناً لدى كل من عرفه عن قرب، فقد استطاع ان يخلق حالات من التواصل الشاعري مع الآخرين رغم صمته التام. أما دعد حداد، صاحبة الصوت المتفرد، والموهبة المتدفقة، فقد قتلتها الوحدة وجحود الأصدقاء، حيث عثر على جثتها بعد أيام من موتها في غرفتها الكئيبة بين أوراقها المبللة. يتذكّر الشاعر حسان عزت تلك المرحلة، وكأنه يقف على الأطلال: "أين هم، أين نتاجاتهم الآن؟ لقد غابوا، أو غيبوا في المنافي أو تحت التراب، كأنهم آخر صورة في المشهد الجمعي المبدد. ألا يشكل تمردهم وبروزهم بين أواسط السبعينات وأواسط الثمانينات الومضة المشعة التي تسبق الانطفاء". ويسأل عزت: "لا يمكن لأحد أن يغيّب أو يقلل من قيمة ما قدمته هذه الأسماء ابداعياً وفنياً، فأشعار سليم بركات ورياض الصالح الحسين ودعد حداد ما زالت فاعلة ومؤثرة في الأجيال التالية. لكن هل كان بمقدور جيل السبعينات أن ينجو بنفسه من مصير محتوم أشبه بمصائر أبطال التراجيديا الأغريقية؟". ابراهيم الجرادي أحد الأصوات السبعينية القليلة التي ما زالت فاعلة في الحياة الثقافية، على رغم مغادرته البلاد منذ بداية التسعينات، ما زال يكتب ويجرب في "ريبورتاجاته الشعرية" هذا الشكل الذي ابتكره محاولاً تخليص القصيدة من نمطيتها. غرفة بندر يقول الجرادي محاولاً النظر إلى حقبة السبعينات بعين حيادية: "ما سمّي بجيل السبعينات كحركة أدبية، لم يستطع لأسباب خارجة عن قدراته أن يشكل حالة خاصة، بحكم الظروف وخضوع القرار الأدبي لجماعات معادية في الذائقة والتوجه وصياغة الأفكار. ومع ذلك فقد استطاعت حركة السبعينات أن تقدم للشعر العربي تجارب مميزة كأعمال سليم بركات ونزيه أبو عفش، وهما اضافتان مهمتان ساهمتا في اتساع الذائقة الجديدة، وقبول الحركة الشعرية والقراء لما هو مخالف، وخارج عن النسق، ولا ينسجم مع الاطار العام لهذا الكم الهائل من التشابه والتكرار". ويواصل الجرادي معللاً أسباب الغبن الذي لحق بجيل السبعينات: "لا ينبغي أن ننسى أن معظم مرجعيات قصيدة السبعينات تتعارض مع السائد. والسائد، كما هومعروف، يحتمي برموزه الثقافية. فدخول هذه "اللكنة" الجديدة على الشعر السوري، أظهر الفرق واضحاً بين ذائقتين ونمطي تفكير ومسلكين ثقافيين على الصعيد العملي". لا يصحّ الحديث عن حقبة السبعينات، من دون المرور على غرفة الشاعر بندر عبدالحميد، الصامت منذ سنوات. فغرفته الحميمة، القائمة في مركز المدينة، تشهد على تلك الحقبة وعلى مبدعيها وحواراتهم العنيفة حيناً والمشاكسة أحياناً أخرى. وقد ورد ذكر "غرفة بندر" في العديد من القصائد والشهادات الشعرية التي تناولت تلك المرحلة. يتذكر عبدالحميد تلك الأيام، ويقول كأنه يستجمع ذاكرته، ويلملم أشلاء صورة مبددة: "يبدو أن شعراء السبعينات هم آخر موجة من الشعراء الذين يحملون تقاليدهم وأرضيتهم الثقافية الخاصة. فالأجيال التي أتت بعدهم، لا تحمل في غالبيتها الساحقة أية تقاليد خاصة، وهي منسجمة مع ايقاع المؤسسات التي تعمل أحياناً على طريقة مزارع الدواجن". ربما حملت عبارات بندر عبدالحميد قسوة غير مقصودة بحق الأجيال التي أعقبت السبعينات. فهؤلاء ذهبوا أيضاً ضحية المنابر والنقد. يقول الشاعر خليل صويلح, أحد أبرز الأصوات الشعرية التي ظهرت في الثمانينات: "لم أكن جزءاً من ذلك المشهد الاحتفالي، لكنني كنت أقف على تخومه أتلمس صوتي وسط تلك التجارب التي أخذت مداها حضوراً ومتابعة نقدية سواء في القصة أو الشعر. وحين أستعيد تلك الحقبة، أراها نافرة في المشهد الابداعي السوري بكل ما تحمله من دهشة وغيوم جديدة هطلت فوق أرض لم تكن محروثة قبلاً، سوى بالنبرة العالية والرطانة والنشيج السياسي". خليل صويلح الذي أصدر كتبه في الثمانينات، وصمت هو الآخر لأسباب شتى، يعتبر أن جيل الثمانينات الذي ألحقت به الأصوات الجديدة "عاثر الحظ ومحروم من المنابر". "لا يمكننا أن نقيّم حقبة السبعينات بما لها وعليها - يقول - الا حين نطل الآن على ذلك المشهد ونقارنه بالراهن الفقير إلى حد العدم، وتسوّل الموهبة، سواء في الصفحات الثقافية التي أصبحت أقرب الى جرائد الحائط المملوءة بالانشاء، أو في الدوريات الثقافية الرسمية. وكأن الأمر أقرب إلى توزيع الغنائم على محاربين ليس من أهمية لهم، أو فضيلة، سوى انهم ينتمون إلى المؤسسة". هكذا رحلت أسماء، وصمتت أسماء، وهاجرت أسماء مثل نوري الجرّاح الذي شهدت تلك الحقبة انطلاقته، وانقضى جيل السبعينات تاركاً الساحة، بتعبير صويلح نفسه، "إلى أصحاب المواهب المرتبكة بأمراضها الشخصية، وقلة الزخم الابداعي والمعرفي. يكفي أن نقارن ملحق الثورة الثقافي قبل عقدين بوريثه الحالي لنكتشف الفراغ الهائل الذي تركه جيل السبعينات". يصمت خليل صويلح قليلاً ثم يتابع بلهجة مليئة بالمرارة: "كل شيء في الثقافة الآن يستدعي الرثاء: إننا نعيش حالة "الفعل الماضي الناقص"، على رغم بعض المحاولات الفردية الخارجة على النسق في الآداب والفنون، لدرجة تجعلنا نصرخ بوجه هذه الثقافة: كم هي عزلاء ومستوحشة وجرداء كشجرة يابسة".