"نحن جيل بلا نقّاد"، لم تكن هذه الصيحة، التي أطلقها الشاعر السوري حسين درويش، مبرمجةً لتكون الجملة الأخيرة، المعلنة عن انتهاء ملتقى الشعر العربي المعاصر الذي شهدته دمشق قبل أيام. لكن هذا"التزامن العفوي"جاء في محله، فالصيحة تلك تكاد تكون لسان حال معظم الشعراء في العالم العربي، وهي تختزل المشهد الشعري، وتعبر عن الحال الذي بلغه: أسماء كثيرة تنتسب إلى أسرة الشعر سالكة طريق"الصفحات الثقافية"السهلة، دواوين، ومختارات شعرية تصدر بالمئات، حفلات توقيع، جوائز، مسابقات، ومهرجانات شعرية... بيد أن هذا النشاط الدؤوب يمر من دون أثر، وكأن"ديوان العرب"، الذي يغري الكثيرين بالتدوين في صفحاته، لم يعد يستوقف الناقد الحصيف. فوسط هذا الفيض الشعري المضطرب، نادراً ما نعثر على قصيدة قادرة على تحريك بحيرة الشعر الراكدة، على رغم ما يظهر على سطحها من غليان وصخب، واندفاع... وهو ما يعيدنا إلى الجملة الأولى التي أذنت بانطلاقة الملتقى، وجاءت، هذه المرة، على لسان منظمه الروائي السوري خليل صويلح بالتعاون مع مؤسسة العويس الثقافية دبي، إذ قال:"ما أكثر المهرجانات الشعرية، وما أقل الشعر"، في إشارة إلى أن هذا الملتقى سيكون استثنائياً ومغايراً، قياساً إلى أمثاله العربية. الملتقى، الذي جاء ثمرة التعاون بين الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة، ومؤسسة سلطان العويس الإماراتية، استقطب أسماء شعرية، يكاد لا يجمع بينها سوى هذا الملتقى: محمد بنيس، سيف الرحبي، طاهر رياض، شوقي عبد الأمير، علي جعفر العلاق، عماد أبو صالح، جيهان عمر، حمزة عبود، اسكندر حبش، إبراهيم الجرادي، حازم العظمة، راسم المدهون، طه خليل، رشا عمران، عابد إسماعيل... تناوب هؤلاء على اعتلاء منصة قاعة رضا سعيد للمؤتمرات، التي احتضنت الملتقى، فاختلفت القصيدة باختلاف الأجيال، والمرجعيات، والجغرافيات. أصغى الجمهور إلى أصوات شعرية شديدة التباين، وهذا التباين الحاد فرض تنوعاً في الرؤى والاهتمامات، والمواضيع مثلما أظهر اختلافاً في طرق التعبير، وفي الأسلوب، وبناء القصيدة... غير أن هذا التفاوت في المستويات الشعرية، أحدث، كذلك، انقساماً في ذائقة الجمهور الذي راح يصوِّت على نحو صامت من خلال وجوده داخل القاعة أو خارجها. فبعض الأسماء شكّل فرصة للجمهور كي يخرج من القاعة ليستريح في مدخلها عبر حوار جانبي، أو التحدث عبر الموبايل. كان الجمهور سعيداً بثرثرته أمام باب القاعة الزجاجي، الذي يتيح له الرؤية من دون السمع، أكثر من سعادته وهو يستمع إلى القصائد، وكان عدد الجمهور خارج القاعة يوازي تقريباً العدد الذي يجلس داخل القاعة، باستمرار، مع الإشارة إلى أن الجمهور ذاته كان يتبادل الأدوار بين الضفتين، وذلك تبعاً لمكانة الشاعر الذي يحتل المنبر حيناً، أو وفقاً لمعايير"الصداقة، والمجاملة، والديبلوماسية"، حيناً آخر. وكان هذا الانتقال بين الضفتين السمة الرئيسة للملتقى حتى أن المنظمين كانوا يجدون صعوبة بالغة في إعادة الحضور إلى القاعة بعد كل استراحة. وإذ تساءل الجمهور باستغراب عن غياب أدونيس"الجدير بالمشاركة في ملتقى عن الشعر المعاصر يقام في دمشق، فهو وعبر تجربة تجاوزت نصف القرن يملك الكثير لإغناء ملتقى مماثل، لكن هذا الغياب، الذي فسره أحد المنظمين بأن"أدونيس لا يشارك في مهرجان ذي طابع رسمي"، لم يكن سوى بالجسد، فقد كان صاحب"الثابت والمتحول"حاضراً في النقاشات، بل كان موضع جدل، واختلاف. الناشر اللبناني رياض الريس شن هجوماً على ادونيس، إذ اتهمه بأنه أدى"دوراً تخريبياً"من خلال مجلة"شعر"، على عكس ما يشاع من انه كان بوصلة ل"الحداثة والمغايرة". ولم تسلم مجلة"شعر"ذاتها من انتقاد الريس الذي وجد فيها ظاهرة عادية، بالغ الكثيرون في مدحها على نحو لا تستحقه. لكن الريس أقر بأهمية"شعر"بصفتها منبراً ليبرالياً مبكراً في الصحافة الأدبية العربية التي كانت عند صدور"شعر"1957، أسيرة"التعصب والانغلاق". ويخالف عابد إسماعيل ما ذهب إليه الريس بحيث قال إن مجلة"شعر""أحدثت صدمة شعرية في الذائقة العربية المعاصرة على صعيد خلخلة مفاهيم ثابتة ومستقرّة، جماليّة وشعرية ومعرفية". وأثنى على الإسهام النقدي البارز لأدونيس، معتبراً إياه"الموجّه الأول"للمجلة من طريق"الدعوة إلى تخطّي التراث، والقفز فوق مسلّماته وأصوله". بعيداً من هذا السجال، وفي مناسبة مختلفة تزامنت مع الملتقى، أرادت الممثلة اللبنانية القديرة نضال الأشقر أن تحتفي بذكرى مجلة"شعر"على طريقتها الخاصة، إذ اختارت نصوصاً لأبرز فرسانها: أدونيس، يوسف الخال، بدر شاكر السياب، أنسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، فؤاد رفقة، وراحت تلقي القصائد بطريقة مؤثرة انتزعت إعجاب الجمهور الذي غصت به صالة الحمراء في دمشق. استعانت الأشقر بعازف العود خالد العبدالله، والبزق عبد قبيسي، وكانت لصوت جاهدة وهبي نبرة شجية، أضفت على القصائد المغناة مذاقاً محبباً. حوار الشعر بين وهبي والأشقر بدا متداخلاً ومتناغماً، إذ جمع هذا العرض، الذي سمته الأشقر"موسيقى الصوت الشعري"، بين الموسيقى، والشعر، والمسرح، واستثمر الإيقاعات، والموسيقى الداخلية لكل قصيدة، ورفدها بألحان تناغمت مع المفردات والجمل الشعرية، فشكل حالة طارئة، مبتكرة سرعان ما تفاعل معها الحضور الذي قاطع العرض، مرات عدة، بالتصفيق. أما جلسات النقاش الثلاث التي جرت خلال الملتقى فلم تضف جديداً، وأعادت إنتاج الأسئلة ذاتها التي تطرح حول الشعر وهمومه وقضاياه. تحدث المشاركون في الجلسة الأولى عن المجلات الشعرية، وسعوا إلى الكشف عن أسباب تراجع مثل هذه الدوريات، بينما تناولت الجلسة الثانية مسألة الشعر والتلقي، في حين قدم بعض الشعراء شهادات حول تجربتهم الشعرية في الجلسة الثالثة التي طغى عليها الجانب الوجداني الذاتي، فنالت الاستحسان. في شهادته المعنونة ب"قمح في الصحراء"ركز حسين درويش، الذي نشأ في مدينة حلب، على مفارقة أعاقت بداياته الشعرية، وتمثلت في كيفية الجهر بكتابة قصيدة النثر في مدينة عرفت بالقدود، ويردد كل من فيها، وبإيقاع موزون،"قل للمليحة"!، وفي حين استعاد سيف الرحبي بعضاً من ذكرياته الأولى في مدينة دمشق التي فتحت الباب واسعاً أمام ترحال طويل في الجغرافيا أنضج قصيدته، خاض اسكندر حبش في متاهة الهويات الملتبسة التي صاغت وجدانه، وصقلت تجربته. الشاعر السوري عادل محمود باح بالمكابدات التي تنتابه لدى الشروع في كتابة المسودة الأولى لقصيدة ستستغرق وقتاً طويلاً، وجهداً مضنياً قبل أن تهتدي إلى بلاغتها المنشودة، بينما وصف الأردني زياد العناني، الشاعر ب"كشاش حمام"، يطلق مخياله في الفضاء ليصطاد صورة. أسماء كثيرة ذُكرت في برنامج الملتقى، لكنها غابت لعل أبرزها جابر عصفور، وفخري صالح، فضلاً عن السوريين منذر المصري، ومحمد فؤاد، والعراقي محمد مظلوم، والإماراتي محمد حسين أحمد. ومثلما تساءل البعض عن غياب أدونيس تساءل آخرون عن سبب غياب نزيه أبو عفش، ولا نعلم إلى أي مدى يصح، هنا، تعليق أحد الزملاء حين قال:"هذه التساؤلات عن غياب بعض الشعراء، وعن حضور بعضهم، وعن تخلف بعضهم عن الحضور على رغم الدعوة، تشير إلى أهمية الملتقى أولاً، وثانياً إلى أن الشعر لا يزال قادراً على إثارة الجدل". نشر في العدد: 16676 ت.م: 30-11-2008 ص: 36 ط: الرياض