نجح الرئيس الاميركي بيل كلينتون في وقف الخطط الاثيوبية الرامية الى الاستمرار في قصف العاصمة الاريترية اسمرا، وذلك إثر تدخله شخصياً واتصاله برئيس الحكومة الاثيوبية ملس زيناوي والرئيس الاريتري أسياس أفورقي. وأضحت عاصمتا البلدين قبلة لعدد من الوسطاء الدوليين والاقليميين، غيرأن مساعي السلام تتحطم أمام طلب أديس أبابا انسحاباً اريترياً من المناطق المتنازع عليها قبل الدخول في مفاوضات، بينما تنادي أسمرا بوقف شامل للنار على كل الجبهات المفتوحة حالياً، وإخلاء المناطق الحدودية من القوات العسكرية تمهيداً لمحادثات سلام مباشرة. وتقول السلطات الاثيوبية إنها مستعدة للدخول في محادثات سلام مع جارتها، غير أنها تشترط لحصول ذلك أن تسحب اريتريا قواتها من مناطق النزاع التي تعتبرها اثيوبيا أراضي تابعة لها. ومع أنها أوقفت غاراتها الجوية على العاصمة الاريترية استجابة لنداء الرئيس كلينتون، إلا أنها مضت في تكثيف استعداداتها لاحتمالات بدء معارك على نطاق أوسع. وواصلت في الوقت نفسه ارسال موفدين الى الدول العربية، خصوصاً الخليجية، لشرح وجهات نظرها حيال مستقبل النزاع. وكان لافتاً أن وفداً اثيوبياً رفيعاً زار صنعاء للمرة الثانية في غضون أقل من اسبوع. فيما قام عبد المجيد حسين وزير النقل والاتصالات الاثيوبي بجولة سلم خلالها قادة الدول العربية الخليجية رسائل من زيناوي تتعلق بالنزاع. وتمثل المبادرة الاميركية-الرواندية للسلام حجر الزاوية في المساعي الحالية. غير أن البلدين مختلفان إزاء بنودها وسبل تطبيقها. وحدا ذلك باثيوبيا الى التمسك بأنها وافقت عليها من دون شروط، لكنها مضطرة للاستمرار في الحرب بدعوى أن اريتريا لم تقبلها. ولم تجد زيارات مكوكية قام بها وفد اميركي برئاسة سوزان رايس مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون افريقيا، ووفد رواندي قاده بول كيغامي نائب الرئيس الذي يعد الرجل الاقوى في بلاده، في تفعيل المبادرة. وإزاء ذلك تقرر أن يقوم رئيسا بوركينا فاسو الرئيس الحالي لمنظمة الوحدة الافريقية ورواندا ورئيس وزراء زيمبابوي رئيس الدورة السابقة للمنظمة الافريقية بزيارة لاديس ابابا واسمرا في محاولة أخيرة لتفعيل مبادرة السلام. وتوجه اسماعيل جيلي وزير شؤون الرئاسة ومسؤول الامن والدفاع في جيبوتي الى القاهرة لحض السلطات المصرية على توظيف طاقاتها لتسوية النزاع. وتحدثت "الوسط" الى مسؤول اثيوبي كبير في شأن تعدد محاولات الوساطة، فقال إن بلاده أكدت مراراً قبولها ببنود المبادرة الاميركية-الرواندية، ومع تقديرها لكل الدول المنادية باحلال السلام فإنها لا ترى داعياً لمبادرات أخرى. وأشار الى أن وفد الترويكا الافريقية سيسعى الى توفير غطاء اقليمي للمبادرة المتعثرة. وقال ديبلوماسي في منظمة الوحدة الافريقية ل "الوسط" إن الوفد الرئاسي الافريقي يسعى الى البحث عن مخرج يزيل تحفظات الرئيس الاريتري افورقي عن المبادرة. وتدعو المبادرة الى سحب القوات الاريترية الى خط ما قبل 6 أيار مايو، تاريخ اندلاع النزاع الحالي، ونشر مراقبين في المنطقة الحدودية، وإجراء مفاوضات، وفي حال عدم توصل المفاوضات الى اتفاق يصار الى إحالة الخلاف الى تحكيم دولي. وأضاف الديبلوماسي الافريقي إن أجواء الحرب لا تزال تخيم على المنطقة، ومع أن الرئيس الاميركي نجح في انتزاع موافقة اديس ابابا على وقف الغارات الجوية، إلا أن واشنطن غير قادرة عملياً على وقف الحرب البرية. وأشار الى أن المراسلين الذين زاروا الجبهات الحدودية أكدوا أن الطرفين مستمران في نشر مزيد من الحشود العسكرية والآليات الثقيلة، خصوصاً في منقطة مثلث باديمي وشيرارو. ويعتقد المسؤولون الاثيوبيون بأن رئيس الوزراء الاثيوبي ضمن مساندة القوميات الاثيوبية لجبهة التيغراي الحاكمة بزعامته في حال استمرار الحرب. ويضيفون أن المواجهة مع اريتريا زادت شعبية زيناوي باعتباره انه قادر على رد أي عدوان على اراضي البلاد. وأكدوا ل "الوسط" أن الموقف التمويني "مطمئن للغاية". وقال مدير النقل والمواصلات الاثيوبي إن بلاده تستقبل يومياً 200 شاحنة محملة بالسلع التموينية والوقود من ميناء جيبوتي الذي لجأت اليه البلاد بعد تخليها عن مرفأي عصب ومصوع الاريتريين، وذلك الى جانب البضائع التي تصل بواسطة القطارات على خط السكة الحديد بين اثيوبياوجيبوتي. وعلى الصعيد الاريتري اتصلت "الوسط"، بحامد حمد مدير دائرة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاريترية وسألته عن موقف بلاده من المبادرة الاميركية-الرواندية، فقال: نحن لم نرفض المبادرة كما تشيع اثيوبيا. مبدأنا أننا نرفض حل الخلافات بالقوة، ونرى أننا في هذه المسألة الحدودية يمكننا أن نحصل على حقوقنا فيها من خلال الوسائل الديبلوماسية وعبر آليات القانون الدولي. ونعتقد بأننا باعلان الحرب بين بلدينا نهدر طاقات الشعبين الاثيوبي والاريتري، لكننا في الوقت نفسه نؤكد لأثيوبيا أنها مهما لجأت الى القوة فهي لن تحقق شيئاً". وكشف المسؤول الاريتري أن اثيوبيا بدأت تحتل أراضي اريتريا قبل عام من اندلاع الاشتباكات الحدودية الاخيرة مطلع الشهر الماضي، وتحديداً في اقليم جنوبالبحر الاحمر تسميه اثيوبيا اقليم العقر وعلى الحدود الاريترية مع اقليم تيغراي الاثيوبي. واتهم الاثيوبيين بأنهم انطلقوا في "عدوانهم" على بلاده من خطة طموحة لاختصار الطريق بين اثيوبيا وميناء عصب الاريتري من 71 الى 51 كيلومتراً. وذكر حمد أن الاثيوبيين طلبوا من الجيش الارتيري العام الماضي أن يسمح لهم بمطاردة عناصر زعموا أنها مناوئة لحكومتهم إنها تتسلل الى الاراضي الاريترية في اقليم البحر الاحمر. وفي إطار الصداقة بين البلدين منحوا الاذن المطلوب، ففوجئت اريتريا بأنهم طردوا الادارة الاريترية من تلك المناطق وأقاموا فيها إدارات محلية اثيوبية بدعوى أنها أراض اثيوبية. وأضاف أن أديس ابابا رسمت خريطة جديدة لحدودها المتاخمة لاقليم القاش بركة الاريتري، واتهم منظمة GTZ الانسانية بتمويل رسم الخريطة وطبعها في ألمانيا، وقال إن اسمرا حصلت على هذه الخريطة غير القانونية. ولكن لماذا هذه النزاعات الحدودية ما دامت اثيوبيا وافقت في الأساس على منح اريتريا خيار الاستقلال بعد سقوط نظام الرئيس مانغستو هايلي مريام؟ يقول حمد: "الحدود بين اريتريا واثيوبيا مرسومة أصلاً منذ نحو 100 عام، وهي مبنية على خط وهمي مستقيم من موقع على نهر القاش الى موقع أحد فروع نهر أتبره الذي يسمى في اريتريا نهر ستيت. ولم يبق أمامنا سوى وضع العلامات الحدودية. لكن اثيوبيا أهملت تلك المعاهدة الدولية وبدأت تنقل لاجئين من السودان لتوطينهم هناك". وسألته "الوسط" عن الحادث الذي أدى - على وجه التحديد - الى تفجر النزاع، فأجاب: "أرسلنا الى اثيوبيا 6 ضباط ليجتمعوا مع نظراء اثيوبيين في لجنة مشتركة كلفت درس مسألة العلامات الحدودية، لكن اثيوبيا غدرت بهم وقتلت ثلاثة منهم وفر الباقون. ولم يكن أمام اريتريا إلا أن ترد على هذا العدوان. واعتبر المسؤول الاريتري أن اديس ابابا عاقدة العزم على الاستمرار في المواجهات، مشيراً الى أن اسمرا قلقة للغاية من اعلان وزير الخارجية الاثيوبي سيوم ميسفين أن بلاده تعتبر الحدود الاثيوبية-الاريترية "ميتة". وقال إن اسمرا تفسر ذلك باعتباره عدم اعتراف اثيوبي بالحدود المشتركة، واعلان حرب على جارتها. وأشار الى المبادرة الاميركية-الرواندية قائلاً إنها ليست اميركية كما تبادر لكثيرين، "وإنما كانت مجرد محاولة لاستقراء وجهات نظر الطرفين المتنازعين. وإذا رجعنا الى البيان الذي أصدره مجلس الوزراء الاريتري عقب الاشتباكات الاولى الشهر الماضي، فسنجد أنه تضمن البنود الاربعة التي تقوم عليها المبادرة، فهي أساساً من بنات أفكارنا ولم تساهم أثيوبيا بأي شيء في محاولة حل النزاع". ولكن ما هي حقيقة الموقف الاريتري من المبادرة؟ ولماذا التمنع ما دامت اسمرا تعتبرها وليداً لها؟ يقول حمد: "مشكلة المبادرة تتمثل في أنها طرحت في مرحلة معينة وتجاوزتها الاحداث بعد ذلك، ونعني أنها لم تعد مجدية بشكلها الاصلي بعدما اعتدت اثيوبيا علينا. لذلك قلنا إن الحل الامثل ينبغي أن يشمل وقفاً فورياً للقتال على كل الجبهات، وضرورة إخلاء المنطقة على امتداد الحدود المشتركة من أي وجود عسكري للطرفين، والدخول في مفاوضات مباشرة يمكن أن يحضرها طرف ثالث لتقريب وجهات النظر". وأقر المسؤول الاريتري بأن الخلافات بين البلدين ليست وليدة الأمس، "لأن هناك نظامين وعقليتين مختلفتين، لكن ما لم يكن عقلانياً هو أن تسوى الخلافات بهذا الاسلوب. لقد ساهم معنا الاثيوبيون في تحرير بلادنا. ونحن ساهمنا معهم في ازالة النظام السابق. علاقاتنا تعمدت بالدم، ولا يمكن فصل الأواصر الوطيدة بين الشعبين مهما كان العداء بين حكومتي البلدين. لكن لا يجوز في كل حال التردي بالعلاقات الى هذا المنحدر". وأضاف أن أقصر طريق لحل الخلافات هو في لقاء مباشر بين مسؤولي الدولتين. واتهم السلطات الاثيوبية بالتهرب من اللقاء المباشر، وقال: "كان بيننا خط اتصال مباشر على أرفع المستويات لكنهم قطعوه، فماذا نفعل؟ هل ننتظرهم حتى يوصلوه من جديد؟" ورفض التفكير الذي يذهب الى أن اثيوبيا لا يمكن أن تفكر في ضم اراض اريترية وهي التي منحت اريتريا خيار الاستقلال. وقال في هذا الشأن: "استقلالنا انتزعناه انتزاعاً ولم تقدمه الينا اثيوبيا على طبق من ذهب. لقد فرضناه عليهم فرضاً، بعدما ألحقنا بجيشهم هزيمة نكراء في اراضينا، وحاربنا معهم حتى ساهمنا في اسقاط نظامهم السابق. وقد اضطرت القوى والقوميات الاخرى الى قبول استقلال اريتريا باعتباره أمراً واقعاً. لكننا مع ذلك نرى أن القوة ليست الحل الأمثل للخلاف بين بلدينا". وأضاف أن الادعاء بأن اثيوبيا ليست طامعة في الاراضي الاريترية ينم عن نظرة سطحية للصراعات في القرن الافريقي، وقال: "نحن دولة صغيرة ناشئة ويهمنا أن نمضي في ترسيخ أقدامنا بعد الحرب الطويلة التي خضناها، وهناك جهات تسعى الى التحرش بنا ولا بد لنا من مواجهتها". وسألته "الوسط": الملاحظ أن هذا هو رابع نزاع حدودي تخوضه اريتريا مع دول الجوار. فهل حدث ذلك مصادفة؟ فأجاب: "إن قصدت خلافنا مع اليمن فقد بدأته صنعاء، وهي بالنسبة الينا دولة كبيرة لا قبل لنا بها. أما النظام السوداني فقد عادى العالم كله، ولم يقل إن اريتريا مستثناة من مشروعه الحضاري الذي أعلن تطبيقه في افريقيا. والواقع أننا كنا أول ضحايا المشروع السوداني. ونحن نقدر للشعب السوداني وقوفه معنا طوال سنوات التحرير، لكن نظامه الحالي جاء ليسرق الشعب السوداني في الظلام ونحن لن نقف معه، بل سنظل منحازين الى الشعب السوداني حتى يقرر ما يريده. إذن نحن ننطلق من ضرورة الدفاع عن أنفسنا ضد أي محاولة التهام أو تحقير من دول الجوار".