لم ينشرح كثيراً رئيس الجمهورية الياس الهراوي عندما اخبره وزير الخارجية فارس بويز ان وزير خارجية سورية فاروق الشرع سيقوم بزيارة رسمية للبنان على رأس وفد من معاونيه للبحث في الوضع الاقليمي، في ضوء استمرار إسرائيل في ابداء استعدادها لتنفيذ القرار الرقم 425، وفي تصوير لبنان على أنه يرفض تحرير أراضيه المحتلة بضغط من سورية. وخشي الهراوي أن تؤدي زيارة الشرع إلى إلغاء مبرر القمة اللبنانية - السورية التي اقترح الهراوي عقدها في اتصال هاتفي مع المسؤولين السوريين، وكان ينتظر تحديد موعد لها. كما خشي تحديداً ان تؤخر الزيارة فرصة مفاتحة الرئيس حافظ الاسد بقضايا عدة تشغله كثيراً، منها استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية وما يتفرع عنه، مثل التمديد ثانية له او انتخاب رئيس جديد، وتقديم موعد هذا الاستحقاق او ابقائه على حاله، والتعديلات الدستورية اللازمة سواء لتقديم موعد الانتخاب أو للتمديد أو للسماح لكبار الموظفين بالترشيح لرئاسة الجمهورية المحظور عليهم قانوناً قبل انقضاء سنتين على تركهم الخدمة الرسمية، ومنها أيضاً العلاقة بينه وبين رئيس الحكومة رفيق الحريري التي شهدت في الآونة الاخيرة تردياً كاد ان يقترب من القطيعة بسبب الموقف السلبي للحريري من التمديد ورفضه مشروع قانون الزواج المدني الاختياري الذي اقترحه الهراوي على مجلس الوزراء. لكن مخاوف الرئيس الهراوي المبررة لم تكن في محلها، لأن دمشق أبلغت بيروت بموعد القمة، ومع ذلك فإن انشراح الهراوي لم يكن كاملاً لأن الرئيس السوري حدد موعداً لقمة موسعة تضم اعضاء "الترويكا الرئاسية" الحاكمة، الهراوي ونبيه بري والحريري، إضافة الى وزير الخارجية فارس بويز، ولأنه يعرف انه لا يستطيع ان يطرح في المناقشات القضايا الخاصة او بالأحرى القضايا اللبنانية التي تعقدت فتسببت بخلافات حادة بين الرؤساء. إذ سيكون مضطراً للاكتفاء بالوضع الاقليمي موضوعاً للمناقشة في ضوء الموقف الجديد لاسرائيل من القرار 425 وتحديداً الموقف الذي يجب على لبنان ان يتخذه منه بدعم من سورية تلافياً لتحوله محط نقد من المجتمع الدولي لعدم تجاوبه مع موقف طالما طالب باتخاذه. هذا الانشراح غير الكامل، يقول المطلعون على تفاصيل القمة اللبنانية - السورية الموسعة، كان السبب في اللقاء المنفرد الذي عقده الرئيسان الهراوي والاسد بعد انتهاء اعمال القمة الرسمية التي استأثر بها الموضوع الاقليمي، وكان كذلك السبب للقاء الذي عقده كل من الرئيسين بري والحريري مع الرئيس السوري. ماذا أراد الرئيس اللبناني ان يقول للرئيس السوري في لقاء قصير على هامش القمة الموسعة؟ يقول العارفون ان الرئيس الهراوي طامح الى تمديد ولايته مرة ثانية، بل أن بعضهم يقول انه طامح بولاية كاملة من ست سنوات. ويضيفون ايضاً ان الموقف السلبي للحريري من التمديد والصمت المطبق للرئيس بري حيال هذا الموضوع مع ابدائه التشجيع لتعديل المادة 49 من الدستور التي تسمح بالتمديد وفي الوقت نفسه بانتخاب موظف رسمي رئيساً للجمهورية، اثارا قلق الهراوي ودفعاه إلى معرفة رأي سورية في الامر كونها الناخب الاول لا بل الاوحد لرئيس جمهورية لبنان على الاقل في هذه المرحلة. ويقولون اخيراً انه اغتنم فرصة اللقاء المنفرد بالاسد وطرح عليه استحقاق الانتخابات الرئاسية ولكن بطريقة يستطيع ان يفهم فيها مدى حظوظه في التمديد. ومما قاله الهراوي ان الوضع اللبناني صعب جداً، خصوصاً من الناحية الاقتصادية، وان استحقاق انتخابات الرئاسة قد يدفع بالوضع الاقتصادي والنقدي والاجتماعي الى الانفجار، وان مصلحة سورية ولبنان تقضي بحسم هذا الموضوع منذ اليوم. فاذا ارتأت سورية ان التمديد ضروري يتم التحضير له بطريقة جدية مثلما حصل في التمديد الاول 1995 بين بعبدا ودمشق ومع سائر المرجعيات والفاعليات اللبنانية، واذا ارتأت ضرورة وجود رئيس جديد يمكن التفاهم منذ الآن على طريقة ترتيب الموضوع واخراجه. وتحدث الرئيس الأسد في الموضوع الرئاسي، بعد استفاضة الهراوي. لكن الرئيس اللبناني لم يستطع الحصول على كلمة السر التي سمعها العام 1995 وقبل أشهر من الموعد الدستوري لانتخابات الرئاسة. كما ان ما سمعه جعله يقتنع او على الاقل يعتقد بأن خيار التمديد عند الرئيس الاسد اما ضعيف واما غير موجود، إذ بعدما أشاد الأسد بمواقف الهراوي الوطنية والتاريخية وبالصداقة العميقة التي تربطه به، أكد له أنه سيبحث معه في الوقت المناسب في الاستحقاق وفي "الاشخاص" المؤهلين لقيادة البلاد في هذه المرحلة، الأمر الذي اعطى انطباعاً بأن هناك بدائل عدة لدى دمشق من التمديد. لكن ماذا اراد كل من بري والحريري من لقائه الرئيس السوري على انفراد؟ لقد أراد رئيس الحكومة اطلاع الرئيس الاسد على تفاصيل الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي وعلى انعكاسات انفجاره على الوضع النقدي وتالياً على الوضع السياسي، لا بل على الاستقرار السياسي الهش اساساً وكذلك على الاستقرار الامني الثابت بسبب قوة المؤسسة العسكرية وجديتها، وفي الوقت نفسه بسبب الوجود العسكري السوري في لبنان و"الدعم" الذي يقدمه لها في مجال الامن عموماً. وأراد الحريري من خلال ذلك اقناع الرئيس السوري بأمرين: الأول، التخلي عن فكرة التمديد مرة ثانية للرئيس الهراوي - إذا كانت واردة - والعمل لاجراء انتخابات رئاسية تأتي برئيس يوحي الثقة للبنانيين ولسورية ويعطي الأمل بأن هناك عهداً رئاسياً جديداً، يمكنه أن ينجح في الحؤول دون الانفجار المرتقب أو يقلل اثاره. ومع ان الحريري لم يسئ إلى الهراوي، بل أشاد بمنجزاته وبمواقفه الوطنية والتاريخية، إلا أنه قال إن اللبنانيين يحرصون على الديموقراطية ويحبون التغيير. أما الأمر الثاني فهو تقديم موعد الانتخابات لأن حرارة المعركة الانتخابية سواء بين التمديد وخصومه او بين الطامحين الى الرئاسة الاولى، ستنعكس بلبلة سياسية وعدم استقرار وزيادة في عدم الثقة في الأوضاع العامة، وطبيعي ان يزيد ذلك في الطلب على الدولار الاميركي وان يؤدي الى انخفاض سريع للعملة الوطنية لان مصرف لبنان لا يستطيع ان يواجه الطلب المتزايد على الدولار وتالياً ابقاء سعر الليرة على حاله بإغراق السوق بالدولارات. فاحتياطه الفعلي الآن يقارب المليار وستمئة مليون دولار، وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة أبلغ المسؤولين أنه سيدافع عن الليرة طالما ان احتياطه من العملات الاجنبية يتجاوز المليار دولار. لكن عندما يبلغ الاحتياط هذا الرقم سيمتنع مصرف لبنان عن التدخل، لأن المليار المتبقي هو من اجل تسيير عجلة الدولة. كما أبلغهم ان فترة دفاعه قد لا تتعدى الشهرين اذا كان معدل الضخ اليومي في السوق عشرة ملايين دولار. طبعاً لم يسمع الرئيس الحريري موقفاً رسمياً او غير رسمي من الرئيس الاسد في الموضوع الرئاسي. لكنه سمع اسئلة استفهامية اجاب عنها كلها. اما رئيس المجلس نبيه بري الاكثر وثوقاً داخل "الترويكا الرئاسية" الحاكمة من سورية والرافض الاجتهاد في الاستحقاق الرئاسي بعد الاجتهاد الخاطئ فيه الذي مارسه اثناء الاستحقاق الماضي 1995 فلم يرشح شيء عما دار بينه وبين الرئيس الأسد. لكن موقفه معروف على حد قول العارفين وهو الصمت والانتظار الى حين حصوله على كلمة السر وقد يكون اول من يحصل عليها. وعندها يبدأ العمل لتنفيذها. ماذا سيكون موقف سورية من الاستحقاق الرئاسي في لبنان؟ العارفون يقولون إن سورية كانت تفضل لو ان اللبنانيين، تحديداً مسؤوليهم، تلافوا فتح معركة انتخابات الرئاسة قبل ثمانية او تسعة أشهر من موعدها الدستوري، ذلك انها عودت الجميع اعتماد المناورة من اجل الحصول على اقصى ما تستطيع من مكاسب من الناخبين الرئاسيين السابقين. لكن هؤلاء المسؤولين، سواء عن قصد أم عن غير قصد، فتحوا المعركة مبكرة وبات لا بد من ادارتها بطريقة تزيل أي ضرر عن سورية وعن لبنان، خصوصاً في هذه المرحلة الاقليمية الصعبة. وتقضي هذه الطريقة باعتماد أمرين: الاول، المناورة كما العادة، وان من خلال وقت اقل اتساعاً من السابق للحصول من الجهات المعنية بلبنان والمنطقة، لا سيما الولاياتالمتحدة، على شيء ما في مقابل رئاسة معينة للبنان، واستمرار خيار التمديد، وإن تكتيكياً لأن الاميركيين لا يفضلونه. وتقضي ايضاً بفتح خيار انتخاب موظف للرئاسة. ويقضي اخيراً بإبقاء خيار انتخاب مرشح "تقليدي". وقد تستمر هذه المناورة مدة أقصاها شهران يتخللها تعديل للدستور بمادة او بمادتين. أما الأمر الثاني فهو تحديد الخيار الرئاسي الاسلم للبنان خلال هذه المدة والذي يرجح ان لا يكون التمديد من ضمنه عندما تقرر سورية حسم الموضوع. لقد كانت سورية، إلى ما قبل الربيع ضد اجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لكن هشاشة الوضع اللبناني واقترابه من حافة الانفجار السريع وموافقة معظم المرجعيات السياسية عليها جعلها تعدل موقفها فباتت اكثر ميلاً الى تقديم موعد هذه الإنتخابات. ويرشح العارفون ان يكون للبنان رئيس جديد في أواخر شهر أيار مايو المقبل. لكن السؤال الذي بدأ يطرحه اللبنانيون اليوم هو: هل يكفي انتخاب رئيس جديد وانتظاره اشهراً ليتسلم مهماته الدستورية أي انتظار نهاية ولاية الرئيس الحالي لإزالة اجواء الانفجار في البلاد؟ الكثيرون من اللبنانيين، خصوصاً من المسؤولين، يعتقدون بأن الانتخاب وحده لا يكفي. وان الانتظار في ظل استمرار تردي الاوضاع قد يقضي على بريق الرئيس الجديد، أي رئيس جديد، وعلى الأمل في نجاحه في تحسين الاوضاع. ويعتقدون ايضاً بأن الرئيس الجديد قد لا يقبل ان "يحترق" قبل ان يتسلم مهماته او قد لا يقبل ان يتسلم وضعاً متفجراً من الصعب إعادة ترميمه .