وضعت زيارة وفد اريتري رسمي لصنعاء اخيراً وتسليمه الرئيس علي عبدالله صالح رسالة من الرئيس اسياس افورقي تتضمن استعداداً اريترياً لاعادة العلاقات بين البلدين الى مجراها الطبيعي، حداً للتوتر الذي خيم على هذه العلاقات منذ العام 1995، عندما احتلت قوات اريترية جزيرة حنيش الكبرى، ثم حنيش الصغرى التي اضطرت للانسحاب منها بعد ضغوط عربية ودولية. ويأخذ هذا التطور في العلاقات بين اسمرا وصنعاء اهمية خاصة لأن الحكومة اليمنية رفضت في السابق عقد اي لقاءات مع مسؤولين اريتريين، خصوصاً على مستوى القمة، ما لم تنسحب القوات الاريترية من جزيرة حنيش. فهل سيطوي البلدان بالفعل صفحة المواجهة ويتجهان الى التفاهم على مسألة حنيش وغيرها من القضايا الثانوية العالقة بينهما؟ وهل يتوجان هذا التفاهم بترسيم الحدود البحرية المشتركة بينهما؟ للاجابة عن هذه الاسئلة لا بد من العودة الى ملف النزاع على حنيش، وبالتحديد الى مداولات المحكمة الدولية الخاصة التي شكلها الطرفان واستمعت الى حججهما في جلسات مطولة انعقدت أواخر شباط فبراير الماضي، ونظرت في وثائق وشهادات قدمها ممثلون عن البلدين لأثبات ادعاءاتهما بالسيادة على أرخبيل حنيش كله وليس فقط على الجزيرة المحتلة. وتفسّر التطورات التي دارت في قاعة المحكمة الأسباب الحقيقية للانفراج الذي يلوح في أفق العلاقات اليمنية الاريترية، ليس فقط لأن ما دار في القاعة المغلقة تميز باحترام الطرفين لتعهداتهما وخلو المداولات من أي حادث خطير، وانما ايضاً لأن المداولات نفسها عكست اتجاه الحكم الذي سيصدر في هذه القضية، وهو حكم يرجح ان يكون لمصلحة اليمن، الأمر الذي ادركه الاريتريون بأنفسهم، وربما من خلال المحامين الدوليين الذين ترافعوا لمصلحتهم في المحكمة، ما يشير الى ان اريتريا التي قطعت الطريق قبل 3 سنوات على المساعي الديبلوماسية لحل الخلاف واحتلت الجزيرة بالقوة تبادر اليوم الى استباق الحكم القضائي في الخلاف وتسعى الى طي صفحته قبل الاعلان عن قرارات المحكمة الدولية. ويتيح النظر في محضر المداولات التي جرت في لندن، الوقوف على اتجاه الحكم الذي ستصدره المحكمة خلال الاسابيع وربما الايام المقبلة، وهو حكم غير قابل للطعن أو الاستئناف واعادة النظر، لأن المحكمة التي ستصدره تتألف من 4 محكّمين اختارهما الطرفان المتنازعان بالتساوي واختار المحكمون رئيساً للمحكمة، ما يعني ان الحكم الذي سيصدر قاطع وملزم قانونياً للطرفين ويحظى بتغطية دولية. اما محضر المداولات فيضم الحجج والقرائن الآتية: 1- في باب الوثائق والخرائط، قدم الجانب اليمني 167 خريطة من مختلف العهود والمصادر تثبت سيادة اليمن على حنيش. ومن ضمنها خرائط اريترية، احداهما خريطة الاستقلال التي لا أثر فيها للجزيرة في الأراضي الاريترية، وخرائط اثيوبية وأميركية ودولية فضلاً عن الخرائط اليمنية، وجميعها تؤكد سيادة اليمن على أرخبيل حنيش. وفي المقابل قدم الاريتريون 7 خرائط معظمها جديد ومعدل واثنتان منها وضعتا بعد احتلال الجزيرة وما تبقى يُشكل حجة لمصلحة اليمن لأنه يتناول الفترة العثمانية التي ترجح أولوية اليمنيين بالسيادة. كما سيتبين لاحقاً. 2- في باب المعاهدات والاتفاقات الاستعمارية، تقدم الاريتريون بحجة اساسية تتصل بالاستعمار الايطالي وسيطرته على اثيوبيا وأريتريا، وبالتالي اعتبار البلدين وريثين للاستعمار الايطالي وان هذه الوراثة تشمل أرخبيل حنيش، وتقدموا بحجة تتصل بالسيطرة العثمانية على الجزر، واعتبروا انهم ايضاً يرثون العثمانيين كما ترثهم صنعاء. الامام يحيى والباب العالي في المقابل تقدم الجانب اليمني باتفاقية رسمية موقعة في العام 1918 بين الأمام يحيى حميد الدين والباب العالي في الاستانة، تعتبر الأمام يحيى وريثاً للسلطنة في كل الأراضي اليمنية بما فيها أرخبيل حنيش الذي ورد ذكره بالاسم، في حين لا توجد اي اتفاقية بين اريتريا والدولة العثمانية، لأنها لم تنشأ كدولة مستقلة الا في العام 1952 ولفترة قصيرة، ولا يوجد نص عثماني على خضوع الأرخبيل لأثيوبيا التي كانت تسيطر على اريتريا. واذا كانت الحجة العثمانية مشتركة بين الطرفين فانها تميل لمصلحة صنعاء التي تملك نص معاهدة رسمية في وراثة الدولة العثمانية. وفي السياق نفسه تقدم اليمنيون بنص معاهدة موقعة في العام 1926 بين الامام يحيى وايطاليا تنص صراحة على سيادة اليمن على أرخبيل حنيش، وهي أول اتفاقية يوقعها امام اليمن مع دولة اجنبية. وعليه يتبين ان حجة وراثة الاستعمار الايطالي والحدود الاستعمارية، تستثنى منها الجزر في نص المعاهدة الصريح. وفي هذا الباب ايضاً تقدم اليمنيون بوثائق ومعاهدات. متعددة الجنسية ترجح حقهم بالسيادة على أرخبيل وبما يتجاوز الحجتين العثمانية والايطالية وهمها أساس الادعاء الاريتري بملكية الجزر. 3- وفي المجال الجغرافي وضمن الاتفاقيات البحرية وقانون البحار تقدم اليمن ببيانات ورسوم ايضاحية ونصوص قانونية تؤكد قرب الجزر من المجال القاري اليمني وبعدها عن المجال القاري الاريتري، ولا يكسر هذا الحق الجغرافي الا حق السيادة المكتسبة أو المنصوص عليها في اتفاقات ومعاهدات وهذا الأمر لم يثبته الاريتريون في دعاواهم الا في الحجتين الايطالية والعثمانية المشار اليهما، وبما ان سند الحجتين ضعيف، فان البرهان الجغرافي يعزز الحق اليمني بالسيادة على الجزر. شهادات السمك 4- في باب ممارسة السيادة على الجزر خلال السنوات الماضية، تقدم الاريتريون بشهادات ووثائق من صيادين مواطنين أكدوا انهم يمارسون الصيد في حنيش منذ فترات طويلة واقتصرت حججهم على معلومات واحصاءات اريترية كلها حديثة. اما اليمنيون فقدموا شهادات لصيادين يمنيين يمارسون مهنة الصيد في الجزر ويملكون اثباتات وبراهين على مواقع في حنيش تعودوا اللجوء اليها وكميات السمك والانواع التي يصطادونها. ولم يقتصر الأمر على الشهادات المحلية، فقد تقدم الوفد اليمني باحصاءات دولية تابعة للأمم المتحدة تُبين حجم مساهمة أرخبيل حنيش في الاقتصاد اليمني وفي العمالة اليمنية والصيد البحري اليمني، ولا يوجد ما يوازيها خلال فترة السيطرة الاثيوبية على اريتريا أو خلال استقلال هذا البلد عن اثيوبيا. وتتضمن الوثائق والشهادات اليمنية في هذا المجال اثباتات عن بناء المنارات في الجزر بوسائل وأموال يمنية وادارة هذه المنارات من طرف هيئة الموانئ اليمنية وبيانات صادرة عن شركات دولية كانت تتصل باليمن وتنسق مع اليمنيين في هذا الشأن. وهنا ايضاً لم يتقدم الجانب الاريتري بمعلومات مضادة ووثائق تثبت ممارسة العكس ويلاحظ في هذا المجال ان الاريتريين لم يستعينوا حتى بالوثائق الاثيوبية. وتتضمن المحاضر بعض المداخلات الطريفة، فقد أكد الوفد اليمني خلال حديثه عن السيادة الطويلة على الجزر ان تسميات بعض المواقع فيها عربية وتستخدم هذه التسميات حتى من طرف الاريتريين وفي الصياغات الدولية ومن ضمن التسميات، واحدة تتصل بأحد الاولياء اليمنيين وهو مدفون في الجزيرة، وتحوّل ضريحه الى مزار. وأشار الوفد اليمني الى ان وجود هذا الضريح يؤكد انتماء جزيرة حنيش لليمن والا كيف يُدفن يمني في أرض غير يمنية. وأثارت هذه الحجة، محامية الطرف الاريتري التي ردت عليها بالقول ان اليمنيين يهاجرون في مختلف انحاء العالم وبعضهم يموت في المهاجر، فهل كلما مات يمني في أرض معينة تصبح هذه الأرض يمنية، واعتبرت ان على اليمنيين ان يوسعوا ادعاءاتهم باتساع وتعدد موتاهم فيسيطرون على أراضٍ واسعة في العالم. وتدخل محامي الطرف اليمني واعتبر ان اليمنيين تقدموا بهذه الحجة ضمن حجج تاريخية ودولية وقانونية. وهي حجة مكملة وتأتي في سياق حجج السيادة الاساسية ولا تنوب عنها وانه من الطبيعي ان يدفن يمني في أرض يمنية عندما يفارق الحياة، وان الضرائح اليمنية في حنيش لا توازيها ضرائح اريترية وليست بين ضرائح غير يمنية حتى يقال انها تتضمن ادعاء بالسيادة على أرض الغير، خصوصاً ان هذا الغير لا اثر لحياته ولمظاهر هذه الحياة في الجزر. واستنتج ان الطرف الاريتري لم يبرهن على وجود مظاهر حياة اجتماعية واقتصادية اريترية في حنيش وان الجزيرة تبدو خالية اذا ما نظر اليها من منظار اريتري، في حين تبدو عامرة اذا ما نظر اليها من منظار يمني، وهناك فارق اساسي بين المنظارين هو بالضبط الفارق بين السيادة الحقيقية والمتوارثة والسيادة الطارئة المبنية على الادعاء وحده. ويتضح من سياق المرافعات التي تقدم بها محامو الطرفين، ان المحامين المكلفين من اريتريا لجأوا الى نصوص وقوانين وحجج دولية وبرهنوا عن خبرة كبيرة في تعويض النقص في الوثائق الاريترية وضعفها، بمطالعات قانونية مهمة في محاولة للنفاذ داخل البراهين اليمنية وتفكيكها والاستعانة بالتاريخ والمعاهدات الدولية، الأمر الذي حمل المحامين المكلفين من طرف اليمن، على اعتماد خطة مضادة تقوم على اثبات شرعية وصلاحية الوثائق وحمايتها من الطعن، ومن ثم تثبيتها في اطار القوانين والمواثيق الدولية ولفت انتباه القضاة الى ان العودة الى التاريخ مطلب يمني وان صنعاء لن تتضرر من البحث في الحق التاريخي لأنه ينعطف بقوة على الحق القانوني في سيادتها على ارخبيل حنيش. ويلاحظ هنا ان حداثة الادارة الاريترية وضعف الامكانات الاريترية اظهر نقصاً كبيراً في الخبرة، خصوصاً في طرائق عمل المؤسسات الدولية الأمر الذي اربك احياناً هيئة المحكمين التي ترافعت لمصلحة اريتريا، ففي احدى الجلسات طلب محامو الطرف الاريتري السماح لموكلهم اريتريا بتقديم أجوبة خطية في اليوم التالي عن احدى نقاط الخلاف وبالتالي عدم الاكتفاء بالأجوبة الشفهية الضعيفة، وكان المحامون يرغبون في تفادي تسجيل تلك الاجوبة في محاضر الجلسة واستبدالها بأجوبة خطية اكثر قوة واقناعاً ووافق رئيس المحكمة، لكن الوفد الاريتري لم ير ضرورة للتأجيل وفضل الاجابة الفورية على الاسئلة المطروحة مرة اخرى. ويلاحظ ايضاً ان هيئة المحامين المذكورة بذلت جهوداً كبيرة وبرهنت على مقدرة مهنية عالية عندما تمسكت بقوة بقرارات صادرة عن بريطانيا خلال فترة استعمارها لجزء من اليمن وهو استعمار لم يحظ يوماً بموافقة السلطة الامامية ولا بموافقة السلطنة العثمانية، واعتبر محامو الطرف الاريتري ان البرهان الانكليزي يعوّض اي برهان آخر، فسأل رئيس المحكمة: لنفترض ان بريطانيا قالت ان الارجنتين فرنسية فهل تصبح فرنسية؟ فرد المحامون عن اريتريا بالقول: نعم تصبح فرنسية، ما أثار ابتسامات في القاعة، خصوصاً ان هذه الحجة تبدو منطقية شكلاً غير انها ضعيفة كسندٍ قانوني، لأنها لا تندرج في معاهدة أو اتفاقية أو تعاقد بين طرفين يتمتعان بسيادة وتتناقض مع معاهدات واتفاقات موقعة وتقتصر فقط على اجراء من طرف واحد ولفترة موقتة، فالاستعمار البريطاني خلّف وثائق اكثر اهمية حصل عليها اليمنيون وضموها الى ملف القضية. وتجدر الاشارة الى ان هيئة المحامين التي اختارها الطرفان، تتألف بمعظمها من محامين اميركيين دوليين ومعروفين بخبرتهم في النزاعات الدولية واشتراكهم في مرافعات وخلافات بين الدول، ويعمل هؤلاء بالساعة وتقدر خدمتهم بآلاف الدولارات، الأمر الذي يوحي بأن مداولات يوم واحد تُقدر بعشرات آلاف الدولارات، وان كلفة القضية برمتها تقدر بملايين الدولارات التي يتوجب على الطرفين دفعها للمحامين وحدهم. ومن جهة ثانية لوحظ ان رئيسة هيئة المحامين المكلفين من اريتريا بارعة جداً وتتمتع بنفوذ في الولاياتالمتحدة في حين استند اليمنيون الى مجموعة من المحامين، من بينهم محام مصري ذو سمعة عالمية. ويعكس سياق المداولات التي شهدتها محكمة لندن، اتجاه الحكم الذي ستصدره المحكمة والذي يرّجح بأن يكون لمصلحة اليمن التي قد تستعيد سيادتها على جزيرة حنيش الكبرى خلال العام الجاري، وذلك في اطار ترسيم نهائي للحدود البحرية مع اريتريا، ولعل ثقة اليمنيين بصدور حكم لمصلحتهم هي التي جعلتهم يرفضون كل المحاولات التي جرت خلال الاعوام الثلاثة الماضية للتوسط في نزاعهم مع اريتريا. فهم كانوا يؤكدون للوسطاء انهم يريدون استعادة حنيش من خلال حكم دولي قانوني وليس من خلال تسوية، ومفاوضات تتضمن تشكيكاً في حقهم الشرعي في جزيرتهم، اكدوا مراراً للوسطاء ومن بينهم الفرنسيون واطراف عربية ان التسوية كانت ممكنة قبل الاحتلال العسكري الاريتري للجزيرة وانهم حاولوا تجنب ما حصل عبر الاتصالات المكثفة والعلاقات الجيدة مع الاريتريين الذين "بادروا الى القيام بعمل عدائي مفاجئ، لا يمكن ازالته الا بالوسائل القانونية الصريحة".