استدعت الأزمة اليمنية - الاريترية حول أرخبيل حنيش، مجموعة من الوساطات التي بدأتها اثيوبيا ثم مصر ثم الأممالمتحدة وأخيراً فرنسا، من أجل التوصل الى حل سلمي للنزاع. ودارت على هامش هذه الوساطات مشاورات اقليمية ودولية شاركت فيها الولاياتالمتحدة ودول عربية مشاطئة للبحر الأحمر، من دون أن تكلل الوساطات والمشاورات، حتى الآن على الأقل، بالنجاح المرتقب. والراجح أن تعثر الوساطات لن يقود بالضرورة الى حل الخلاف بالقوة لأن البلدين المعنيين، عبرا عن تصميم صريح باستبعاد الحل العسكري. وتعتقد مصادر رفيعة المستوى في باريس، التقتها "الوسط" بأن استبعاد الحل العسكري للخلاف وعدم توصل الطرفين الى حسم النزاع بالمفاوضات والوسائل السلمية، من شأنه أن يفتح الباب أمام حل من النوع الثالث يقضي بتثبيت الأمر الواقع على الأرض والاتفاق على آلية عرض الخلاف على الهيئات الدولية، ولعل هذا الحل هو ما تعمل على بلورته الوساطة الفرنسية. تطبيع الوضع وترى المصادر نفسها ان المخرج المحتمل للأزمة ينطلق من النقاط الآتية: 1- بقاء الاريتريين حيث هم في جزيرة حنيش الكبرى 68 كلم2. 2- بقاء اليمنيين في جبل زقر 122 كلم2. 3- يعرض الطرفان النزاع على التحكيم الدولي ويقبلان بنتيجة التحكيم. وإذا ما تم الاتفاق على هذا المخرج ستكون صنعاء وأسمرا تراجعتا عن شروطهما السابقة، اذ يتراجع الاريتريون عن مطالبتهم بانسحاب عسكري متبادل من حنيش الكبرى وحنيش الصغرى وجبل زقر، ويتراجع اليمنيون عن مطالبتهم بانسحاب أريتري فوري من حنيش الكبرى. والراهن ان هذا المخرج يعود الى عجز الطرفين عن السيطرة على الموقف بالوسائل العسكرية. فأريتريا ليست قادرة على احتلال "جبل زقر" بفضل التمركز العسكري اليمني المعزز ووسائل الامدادات المتوافرة، وبسبب الاجماع العربي على ادانة احتلال الجزر اليمنية بالقوة، وايضاً بسبب الأجواء الدولية المناهضة لحل النزاعات بالقوة. ومن جهة ثانية ليس بوسع اليمن حالياً استعادة حنيش الكبرى بالوسائل العسكرية بسبب النقص الكبير في الزوارق الحربية وسفن نقل الجنود. وألقى مسؤول يمني كبير مسؤولية ذلك على الانفصاليين الذين دمروا قبل انسحابهم من عدن صيف العام 1994 كل الزوارق والقطع البحرية سواء في ميناء المدينة أم قبالة ساحل حضرموت وعلى مقربة من السواحل الجيبوتية والعمانية". وأضاف قائلاً ل "الوسط": "ان العقدة الأكبر التي واجهتنا خلال الاشتباكات في حنيش هي ناقلة الجنود البحرية. فنحن كنا نموّن وحداتنا بالطائرات المروحية" ناهيك عن أن القوة البحرية اليمنية كانت في الأصل متواضعة وقد ضعفت كثيراً خلال حرب كانون الثاني يناير 1986 بين جماعة الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد وخصومه، ثم تلقت ضربة قاصمة خلال حرب صيف العام 1994. والراجح ان الاريتريين كانوا يعرفون هذه التفاصيل عندما هاجموا الجزيرة. تغيير الخرائط ويستدرك المسؤول اليمني قائلاً: "في حقيقة الأمر لم نكن نخشى الجانب الاريتري وبالتالي لم نكن مضطرين لاتخاذ اجراءات عسكرية استثنائية، ولم تكن لدينا أية أسباب لاتخاذ مثل هذه الاجراءات والا كان بامكاننا أن نحصن الجزيرة وندافع عنها من الداخل. وما جعلنا نطمئن الى النيات الاريترية هو أننا بادرنا في العام 1993 الى المطالبة بتخطيط الحدود البحرية فقيل لنا أن هذه المسألة يمكن حلها بالتفاهم وبعد تأسيس الدولة الاريترية. وعندما أعطينا ترخيصاً للمستثمر اليمني من آل الزبيري حصل ذلك في شهر تموز يوليو من العام الماضي ولم يعلق الاريتريون الذين علموا بالتصريح وانتظروا شهر تشرين الثاني نوفمبر للتظاهر بالخلاف". ويوضح المصدر نفسه: "لقد استخدم الاريتريون تكتيكاً يقوم على الغدر، فخرائطهم الرسمية لا تتضمن أي أثر للجزر، وعندما فاوضناهم في أسمرا وسألناهم عن سبب الاعتداء على حنيش قالوا لنا أنتم اعتديتم علينا. قلنا كيف نعتدي عليكم وخرائطكم تقول ان الجزر يمنية. قالوا سنغير الخرائط. وبالفعل طبعوا خرائط جديدة منذ شهرين في سويسرا تتضمن الجزر المذكورة". ويضيف قائلاً: "... مؤشرات عدة اثبتت لنا انهم كانوا يحضرون منذ شهور لهذه العملية. فقبل الاعتداء على حنيش الكبرى، كان وزير الثروة السمكية اليمني يشترك مع نظيره الاريتري في مؤتمر في اليابان عندما بادره الأخير بقوله: سندقكم في حنيش، فرد وزيرنا: كيف تدقوننا ووفدنا يتأهب للتفاوض معكم في أسمرا؟ فأجاب: بالرغم من ذلك سندقكم. لكن وزيرنا اعتبر الأمر مزحة. يضاف الى ذلك أن جنودنا الأسرى أخبرونا ان الاريتريين كانوا يسيرون بهم ليلاً في الجزيرة سالكين طرقات وشعابا ضيقة لم نكن نعلم بها من قبل. ذلك أن الجزيرة ذات طبيعة صعبة للغاية وصخورها بركانية قاحلة. وقد علمنا في ما بعد أنهم خزّنوا منذ شهور أسلحة وذخائر ومواد تموينية في كهوف الجزيرة استعداداً للهجوم على قواتنا الرمزية المتواجدة فيها". هكذا يبدو أن امتناع الطرفين عن حل النزاع بالوسائل العسكرية سيفرض مخرجاً موقتاً يقضي بتجميد الخلاف فيما ينصرف كل طرف الى تجميع أوراقه لاستخدامها في المرحلة الثانية لدى عرض الموضوع على التحكيم الدولي. في هذا الصدد يمكن القول أن الخلاف سيدور على الوثائق والخرائط الاجنبية والمحلية، ويتضح من تصريحات الطرفين ان اليمن يستند في تأكيد سيادته على الجزر الى وثائق متعددة الجهات، في حين تستند أسمرا الى الوثائق الايطالية وحدها. سبب الحياد الاميركي ويروي مصدر يمني مطلع على ملف النزاع ل "الوسط" ان بلاده متأكدة من كسب القضية في المحافل الدولية بالاستناد الى العناصر الآتية: 1- الخرائط الحديثة اليمنية والاريترية والاميركية والبريطانية والايطالية، كلها تؤكد يمنية الجزر، سواء مباشرة أو بصورة غير مباشرة، بمعنى تأكيدها سيادة الاستعمار البريطاني على الجزر، واليمن وريث بريطانيا في السيادة على أراضيه. وعندما لا تتحدث الخرائط عن السيادة اليمنية أو البريطانية فانها تعتبر الجزر منطقة غير محددة السيادة راجع الوثيقة الايطالية المنشورة. ويلفت المصدر اليمني الى خريطة اميركية أصدرتها وكالة الاستخبارات المركزية عام 1991 وتعتبر فيها الجزر يمنية. ويقول ان هذا الأمر يفسر سبب الحياد الأميركي في النزاع "حيث لا يمكن لواشنطن أن تكذّب خرائطها"، وهي تشعر ب "حرج كبير". 2- الوثائق الصادرة في الفترة الاستعمارية، وهنا تؤكد الوثائق البريطانية حق اليمن في السيادة على الجزر واعتبارها يمنية وبالتالي يصعب على الجانب الاريتري الافادة من هذه الوثائق لتأكيد دعاواه بالسيادة على الجزر. 3- يستند الجانب الاريتري الى الوثائق الايطالية وحدها، ويتضح من مضمون هذه الوثائق ان لا شيء فيها يشير الى السيادة الايطالية الصريحة عليها وبالتالي يسقط الحجج الاريترية. ويعتقد المصدر اليمني ان معرفة أسمرا بهذه الوثائق هي التي حملتها على طبع الخرائط التي لا تضم الجزر المذكورة. 4- تقع حنيش الكبرى وحنيش الصغرى وجبل زقر في نطاق المياه الاقليمية اليمنية بالاستناد الى قانون البحار الدولي واتفاقات السيادة البحرية التي وقعتها اليمن ولم توقعها اريتريا، ما يعني، بنظر المصدر اليمني السابق، ان أوراق اليمن في النزاع أهم بكثير من الأوراق الاريترية، وان صنعاء لا تخشى التحكيم الدولي لعلمها انها قادرة على تثبيت حقها بالسيادة على الجزر. وبانتظار الانتقال الى التحكيم الدولي وبالتالي الاتفاق على تجميد النزاع العسكري في حدوده الراهنة، يبدو أن الطرفين يدافعان عن مواقعهما العسكرية على الأرض، فصنعاء استفادت من الأخطاء السابقة وعززت وجودها في جبل زقر المطل على حنيش وباتت قادرة على تحريك صواريخها باتجاه الجزيرة المذكورة إذا ما غامر الطرف الآخر بتجاوز الخطوط المرسومة منذ وقف النار. هكذا تستعد صنعاء وأسمرا للدخول في مرحلة تفاوضية، وبالتالي حل النزاع بالطرق السلمية. وحسب عدد من المسؤولين اليمنيين المشرفين على النزاع فإن صنعاء تسعى بصورة جدية الى حل سلمي للخلاف لأنها "مدركة أن فخاً كبيراً نصب لها وأن اريتريا هي الطُعم الذي استخدم في الفخ". أما عن الشارع اليمني والعربي الذي يطالب باستعادة الجزر بالقوة فإن المسؤولين اليمنيين يردون بالقول ان ما يهمهم في المقام الأول هو سيادتهم على الجزر، وانهم يعرفون ان هذه السيادة ستعود في الوقت المناسب.