تزامن في باريس أخيراً عرض ثلاث مسرحيّات جزائريّة هي: "جرجراسيك - بلاد" فلاق، و"موقف إلزامي" بن قطّّاف/ الزياني، و"الأجواد" أرزقي/ علولة التي يربط بينها وجع خفيّ واحد. هنا تقديم لأعمال تتضافر لتمثيل المسرح الطليعي الجزائري الذي يعيش وينمو اليوم بين المنافي. يعود المسرح إلى الظهور ببطء في الجزائر، من خلال فرق وأسماء شابة، تجمع بين الهواية والاحتراف، وتحاول أن تحتلّ موقعها، وتدلي بشهادتها ورغباتها في هذا الزمن الصعب. لكنّ التجارب المسرحيّة الفعليّة تبرز في المنفى بشكل أساسي، وفي باريس تحديداً حيث التجأ جيل الطليعة في انتظار أيّام أفضل. فقد شهدت العاصمة الفرنسيّة في الآونة الأخيرة ثلاثة أعمال لمحمد فلاق، وثنائي "مسرح القلعة"، وأرزقي الذي أعاد قراءة مسرحيّة علّولة الشهيرة "الأجواد". ونلاحظ كيف تتقاطع الشخصيّات والأحداث بين تلك العروض، وكيف تلتقي المواقف والمفارقات، على الرغم من اختلاف الأساليب والمشاغل الجماليّة، لتقول وجعاً واحداً، وتعبّّر عن حالة التمزّق والعبث واللامعقول. جرجراسيك - بلاد قدم محمد فلاق على خشبة "المسرح الدولي للغة الفرنسية" في باريس، طيلة شهر رمضان، مسرحيّة "جرجراسيك - بلاد"، في حلة جديدة تكاد تجعل منها عملاً مغايراً تماماً للعرض الأصلي كما قدم للمرّة الأولى، قبل عامين، على خشبة "المركز الثقافي الجزائري" في باريس. تروي المسرحيّة سيرة "عمي بوعلام" المحارب السابق في ثورة التحرير الذي يجد نفسه مهمشاً، بعد الاستقلال، ويتفرج بحسرة على شباب الجزائر، وهم يدفنون خيباتهم في الإدمان على الكحول والمخدرات، خلال السبعينات والثمانينات، ثم يرتمون في أحضان الحركات الأصولية المتطرفة في التسعينات. وينتهي الأمر بعمي بوعلام إلى الطرد من البيت، لأن أبناءه يجدون أنّه "غير متدين". واذا به في الشارع، حيث يتقاطع مصيره الشخصي مع مصير مجتمع بأكمله ممزق بين معسكرين متناحرين، على غرار كمال ونورالدين، صديقي الطفولة اللذين غابا عن بعضهما طويلاً، وحين التقيا مجدداً، مع بداية أحداث العنف، وجدا نفسيهما وجهاً لوجه، كل واحد في معسكر معادٍ للآخر، تفصل بينهما... رصاصة! موقف إلزامي أما "موقف إلزامي" لثنائي مسرح "القلعة" محمد بن قطاف والزياني شريف عياد، فتغوص في الخواء الهائل الذي يخيّم على البلاد وأهلها، وتلتقي مع عمل فلاق في محاولة قول عبثيّة الحالة الجزائريّة. والعمل الذي سبق أن تناولناه فوق هذه الصفحات الوسط 24/2/97، مقتبس من عرض أصلي بعنوان "آخر المساجين" كان من المفروض ان يقدم في الجزائر أواخر سنة 1991، لكن انفجار أحداث العنف دفع به إلى المنفى... تروي المسرحية قصة عبدالقادر المحكوم عليه بالسجن المؤبد بتهمة سياسية، وسجانه مسعود الذي يرتبط معه بعلاقة حميمة، تكاد تكون صداقة لولا إطار السجن الذي فرض على احدهما دور الضحية وعلى الآخر دور الجلاد... لكنّ كل هذه الفروق تختفي فجأة مع اعلان الديموقراطية في البلاد، واغلاق جميع السجون. وبعد رحلة طويلة مشياً على الأقدام، يلتقي عبدالقادر ومسعود عند موقف حافلة في الريف، كتب عليه "موقف إلزامي"، لكن أية حافلة لا تتوقف به ولا تمر عليه أصلاً. وسرعان ما يخيب ظنّ الصديقين اللدودين، وتتلاشى فرحتهما القصيرة بالحرية الموعودة ليكتشفا أن السجون أغلقت بالفعل، لكن الوطن تحول سجناً كبيراً! الأجواد أما العرض الجزائري - الباريسي الثالث، فهو "الأجواد" الذي اقتبسه السعيد أرزقي عن مسرحية شهيرة للراحل عبد القادر علولة تحمل العنوان ذاته. والطريف أن السينمائي الجزائري الذي يخوض هنا مجال الاخراج المسرحي، أسند أدوار هذا العمل المسرحي المتميز والطموح إلى الثنائي نفسه: محمد بن قطاف والزياني شريف عيّاد، بعد أن ألغى دور المغني - المدّاح في المسرحية، وخفض عدد الممثلين من عشرة إلى ممثلين اثنين. يتناوب بن قطّاف والزياني على تجسيد شخصيات متقاطعة في "لعبة مرايا مبهرة"، ويتحرّكان ضمن اطار سينوغرافي مستوحى من "كتاب الطواسين" للحلاج. وأهم ميزات هذا العمل، الذي قوبل في البداية بكثير من التحفظ من قبل بعض المقرّبين من مؤلّّف العرض والجمعية الثقافية التي تحمل اسمه، أنه يشكل بداية عهد جديد في التعامل مع عبدالقادر علولة كمؤلف، لا كرمز أو كصنم يجري تقليد أو استنساج تجاربه بشكل حرفي. أما الممثلان الآتيان أصلاً من مدرسة أخرى موازية لمدرسة علّولة، ومساجلة لها، في جزائر الثمانينات، فأبدعا في تقمص شخصيات "الأجواد" إلى حد أن أرملة الراحل علولة ورفيقة دربه، لم تخف تأثرها العميق، وأعلنت ل "الوسط" أنها المرة الأولى التي ترضى مئة في المئة عن كيفية تقمّص شخصية حبيب الربوحي على الخشبة. فمؤسسة "تعاونيّة أوّل مايو المسرحيّة" كان دائماً يبدي تحفّظه عن كيفية ظهور هذه الشخصية العميقة والمعقدة في العرض الأصلي الذي قام بإخراجه، وقدم على خشبة "مسرح وهران الجهوي". بل انّه فكّر مراراً، حسب شهادة أرملته، في حذف المشهد الخاص بهذه الشخصية الصعبة لعدم رضاه كليّاً عن كيفية تجسيدها، على الرغم من اسناد دورها إلى الممثل الكبير محمد آدار الذي اشتهر بتجسيده الزعيم الفيتنامي هوشي منه على الخشبة، في مسرحية كاتب ياسين الشهيرة "الرجل ذو النعل المطاطي"