حين شرع محمّد فلاّق، أواخر الثمانينات، في تقديم عروضه الفردية مونودراما، ساعياً من خلالها إلى تطبيق بعض مبادئ مسرح "الحلقة"، اعتبر أغلب اقرانه من رجال المسرح ان الرهان شبه مستحيل. لكن هذا المسرحي الجزائري الذي يعيش في المنفى منذ أشهر نجح، عرضاً تلو الآخر، في اعادة "الحلقة" إلى جذورها الشعبية القائمة على السرد، كاسراً الحواجز التي يضعها المسرح الطليعي عادةً بين مسرح "الحلقة" والترفيه. هذا النجاح يبدو جليّاً في "جرجرا - سيك بارك"، آخر أعمال الممثّل والمخرج المتميّز، كما قُدّم في باريس أخيراً، حيث حظي بتحيّة النقاد واقبال الجمهور. وترافق الحدث مع قرار التلفزيون الجزائري رفع الحظر المفروض على اشهر مسرحياته، "كوكتيل خوروطوف"، التي بثّت أخيراً بعد رقابة استمرّت ست سنوات. يحتلّ محمد فلاّق مكانة متميّزة في الحركة المسرحية الجزائرية. فهو بدأ حياته الفنية مُغترباً في مقاطعة كيبيك الكندية، قبل ان يعود إلى بلاده، مطلع الثمانينات، ليلتحق بفرقة "المسرح الوطني الجزائري". وهنا شارك بإدارة زياني شريف عيّاد في مسرحيات عدّة أبرزها "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" الجائزة الكبرى ل "أيام قرطاج المسرحيّة"، 1987. إلا أن العوائق البيروقراطية سرعان ما وضعت حدّاً لنشاط الفنّانين المتحلّقين حول زيّاني، فغادر أغلبهم مسرح القطاع العام. وكانت ولادة احدى أوّل الفرق المستقلّة في تاريخ المسرح الجزائري الحديث، مع "مسرح القلعة". لكن محمد فلاّق فضّل أن يواصل الطريق منفرداً، فانطلق في خوض تجربة مغايرة، سرعان ما وجدت في "المسرح الصغير" ل "مُرَكّب رياض الفتح الثقافي" في العاصمة الجزائرية اطاراً ملائماً لها... وفي فضاء من الحرية النسبية، تمكّن من تحقيق حلمه المسرحي القديم، ألا وهو تقديم عروض مونودرامية من تأليفه وتمثيله. ولكن هل يعني هذا انقطاع محمّد فلاق عن التجربة المهمة التي خاضها مع زياني شريف، لصالح مسرح أكثر جماهيرية بالمعنى الاستهلاكي؟ أم أنّه استفاد من جماليات "الحلقة"، وطبّقها بمهارة في عروض مسرحه الفردي؟ في البداية، كان الرهان يبدو شبه مستحيل. فأغلب اقطاب مسرح "الحلقة"، وفي مقدمهم المسرحي الراحل عبدالقادر علولة الذي كان خاض مجال المونودراما بمسرحية "حمق سليم"، كانوا يميلون إلى الاعتقاد بأن الاحتفالية لا يمكن ان تتجسّد على الخشبة في عرض مسرحي فردي. ولم تشذ حينها عن تلك القاعدة، سوى تجربة يتيمة خاضها مسرحي شاب، هو حميدة عيّاشي. فالمونودراما التي شجّعه على تقديمها الراحل كاتب ياسين، لقيت رواجاً واسعاً في أواخر السبعينات، وكانت بعنوان "قدور لبلاندي". تنبّه عياشي ذلك الوقت إلى نقطة هامة هي أن "الحلقة" التقليدية، كما عُرفت في الأسواق الشعبية في المغرب العربي، هي بخلاف "الكورس" الاغريقي الذي كثيراً ما تُقارن به، تستند أساساً على "المدّاح" الذي هو "الرّاوي". أما بقية العناصر التي تشكل "الفرجة" -، ومنها الفضاء الذي يحتضن اداء "الراوي"، والناس الذين يتحلقون حوله في الأسواق - فليست سوى عناصر ثانوية وعارضة. ذلك أن الفضاء يتغيّر باستمرار، من سوق إلى سوق، والناس الذين يشكّلون "الحلقة" يأتون ويمضون بحرية، من دون أن يؤثّر ذلك على سير "الفرجة" القائمة على "المدّاح" وحده. وانضم إلى هذا الرأي، ولو في وقت متأخّر نسبياً، المسرحي محمد بن قطاف، رفيق درب زياني شريف ومؤلف اغلب مسرحياته. وكان أن قدّم الثنائي المذكور، ضمن فرقة "القلعة"، أول عرض فردي نسوي في تاريخ المسرح المغاربي هو "فاطمة" 1990، من أداء الممثلة صونيا. ولكن قبل "فاطمة"، عرفت عروض فلاّق المونودراميّة في "المسرح الصغير" لرياض الفتح رواجاً كبيراً. وأثبت نجاحها صحة هذه المقاربة المغايرة لمفهوم "الحلقة"، باعادتها إلى جذورها الشعبية الأولى القائمة على السرد، ومصالحتها مع عنصر الترفيه. فالاضحاك في المسرح - حسب محمد فلاّق - "لا يعني بالضرورة البذاءة او السوقية. الضحك هو تجاوب انفعالي مع موقف او فكرة او كلمة، واذا كانت في الموقف او الفكرة او الكلمة لمسة ذكاء، فلا بد أن يأتي الضحك امتداداً للمسة الذكاء هذه...". أول مونودراما قدّمها فلاق كانت "بابور استراليا" 1988، وهي أفلتت من رقابة الحزب الواحد آنذاك بصعوبة بالغة. وسرعان ما تجاوب معها آلاف المشاهدين، ومعظمهم من الجيل الشاب الذي كان بدأ ينسحق تحت وطأة البطالة والأوضاع المعيشية المتأزمة، فلا يجد من عزاء سوى "الحلم بالهجرة إلى استراليا". وخلال هذا العرض ابتكر فلاّق مصطلح "الحيطيست" من حائط، فأصبح يُطلق في الجزائر على الشبّان العاطلين عن العمل الذين يمضون نهاراتهم الرتيبة في اسناد الظهور إلى الجدران! وانتشرت التسمية الساخرة، فصارت تستعمل في الشعارات المناوئة للنظام التي كانت ترفع في ملاعب كرة القدم، ثم خلال انتفاضة الخامس من اكتوبر 1988. بعد الانتفاضة المذكورة، والاصلاحات السياسية التي تلتها، قدّم محمد فلاّق، عرضه المنفرد الثاني "كوكتيل خوروطوف" 1989. لكنّ هذه المسرحية التي تعدّ أنضج وأشهر أعماله، لم تجد طريقها إلى الشاشة الصغيرة إلا في الأمس القريب! أما عنوان العرض، فهو تنويع على تسمية "كوكتيل مولوتوف"، بعد أن أدخل عليها جزء من كلمة "خورطي" العامية التي تعني "الكذب المبالغ فيه". يُذكّر العرض، إلى حدّ ما، بمسرحية مشهورة لكاتب ياسين، هي "غُبرة الفهامة" مسحوق الذكاء. إذ يستعير فلاّق أسلوب الرواة والمداحين، وأجواء الملاحم الشعبية، وبشكل خاص ألف ليلة وليلة التي استفاد كثيراً من بنيتها العنقودية. فالقصص تتشعّب والشخصيات تتقاطع، ولا يبقى من رابط يتحكمّ فيها ويجمع بينها سوى شخصية الراوي الذي يحيي الاحتفال. وفي "جرجرا - سيك بارك"، يعود فلاق إلى أسلوب وتقنية "كوكتيل خوروطوف"، بعد سنوات عديدة من الانقطاع عن المسرح. فتحت ضغط التوترات الأمنية المتزايدة، توقف نشاط "المسرح الصغير"، فعرف فلاّق "هجرته الأولى" من العاصمة إلى بجاية، حيث تسلّم ادارة "المسرح الجهوي" خلفاً للمسرحي الراحل عبدالمالك بوقرموح. وكان يطمح إلى بعث هذه الفرقة التي سبق ان قدّمت اعمالاً متميزة مثل: "حزام الغولة" و"رجال يا حلالف" عن "الخرتيت" لأوجين يونسكو. لكن رقعة الحرية ازدادت ضيقاً. واضطر فلاّق إلى "هجرة ثانية" نحو تونس، حيث أعاد تقديم عروضه السابقة. ثم جاءت "هجرته الثالثة" إلى باريس، التي حلّ بها في مطلع السنة الحالية. في "جرجرا - سيك بارك"، وعنوانها "مرّكب من "جرجرا"، اسم سلسلة الجبال الجزائرية الشهيرة، و"جوراسك بارك"، عنوان فيلم ستيفن سبيلبرغ الشهير، يروي محمد فلاّق، بأسلوبه الكوميدي المعهود، حكايات لا تدفع دوماً إلى الضحك: حكاية "عمّي بو علام" المحارب السابق في ثورة التحرير الذي يجد نفسه مهمّشاً بعد الاستقلال، يتفرّج بحسرة على جيل السبعينات الضائع الذي سيرتمي لاحقاً في احضان الحركات المتطرفة. وينتهي الأمر ب "عمّي بوعلام" إلى الشارع، بعدما طرده ابناؤه من البيت لفكره المنفتح. هناك ايضاً حكاية كمال ونور الدين. صديقان كبرا معاً، ولم يفترقا أبداً منذ الطفولة. وها هما يجدان نفسيهما، خلال احداث العنف الأولى التي شهدتها الجزائر، في حزيران يونيو 1991، في معسكري النزاع، وجهاً لوجه تفصل بينهما... رصاصة! وكل هذه الحكايات تتقاطع وتلتقي، لتروي في نهاية المطاف واقع الجزائر التي "تحوّلت إلى حديقة متوحشة تهيمن عليها ديناصورات سياسية ترفض الانقراض...". ولكن كيف يمكن الاضحاك من واقع مأسوي كالذي تعيشه الجزائر حالياً؟ يجيب فلاّق: "الضحك وسيلة للنضال والمقاومة الثقافية. أنا أضحك جمهوري للتنفيس عن آلامه وقلقه ومخاوفه، ولكي أُبعد عنه اليأس. لكن الناس يبكون أيضاً في مسرحيتي الأخيرة!".