"آخر المساجين" كان عنوان مسرحيّة محمد بن قطّاف التي قدّمها "مسرح القلعة" الجزائري أخيراً، في الضاحية الباريسيّة، بحلّة جديدة تتناسب مع مقتضيات المنفى الفرنسي. فبعد عرض يتيم في الجزائر 1991، هاجر زياني الشريف عيّاد ومحمد بن قطّاف، وسقط مجوبي برصاص الارهاب، وإذا ب "موقف إلزامي" تستعيد اليوم، حكاية "آخر المساجين" الذي لا يزال ينتظر حافلة لا تأتي، في محطّة مهجورة بين مقبرة ومزبلة! قد لا يكون العمل أحسن نتاج الفرقة، إلا أنه يبقى من أجمل وأصفى ما قدّمه المسرح الجزائري منذ سنوات طويلة. كان ذلك سنة 1991، خلال شهر رمضان على الأرجح، وإلا لما كان ليل مدينة الجزائر عامراً بذلك الشكل. وإلى الجو الصيفي الخانق حرارة، رطوبة، تلوث، كانت ملامح الكارثة الأمنية بدأت تلوح في الأفق، وتُطْبق على أنفاس الناس. انحسر النشاط الثقافي كثيراً، وغابت حتى الاحتفالات المعتادة، التي كانت، على ما فيها من تسطيح وقصور ونمطية، تخرج المدينة على الأقل من رتابتها وتثاؤبها. تلك الأيّام، باتت جلسات المثقفين ولقاءاتهم تقتصر على مقهيين أو ثلاثة: "نادي الفنانين والصحافيين" التابع لمؤسسة الاذاعة الوطنية، مقهى اتحاد الكُتاب وكان يؤمه جمهور يفوق جمهور الندوات "الفكرية" التي تُعقد في القاعة المجاورة، ومقهى "لا برس" للنخبة الفرنكوفونية ومثقفي اليسار بشكل عام. صوت مجوبي في تلك الليلة، مررتُ على الأندية الثلاثة، ولم أجد فيها ما يُغري بالبقاء، فقفلت راجعاً في اتجاه حي بورسعيد الشعبي، حيث كنتُ أسكن. وإذا بي ألتقي، عن طريق المصادفة، الزميل محمد دحو الذي كان آنذاك مسؤولاً عن القسم الثقافي في جريدة "السلام". وحين أبديت تعجبي من وجوده ليلاً في ذلك الحي الذي كان بدأ يتكشف فيه وجه المدينة المخيف، أبدى بدوره تعجباً أكبر: "أيعقل أن تسكن على مرمى حجر من بناية المسرح الوطني، ولا تسمع بأن هناك عرضاً جديداً لمسرح "القلعة" تتمرن عليه الفرقة هنا حالياً!؟". وقررت أن أرافقه لحضور جلسة التمرينات التي كان مدعواً إليها. كان المدخل الرئيسي لبناية "المسرح الوطني" موصداً، فانحرفنا يساراً عبر زقاق جانبي مظلم، ودققنا على باب حديدي أسود. فتح لنا محمد بن قطاف، مؤلف النص والممثل الوحيد في العرض الذي كان مقرراً أن يكون مونودراما، واستقبلنا بطيبته المعهودة. ومن "بلكونة" شرفة المسرح، حيث كان يشرف على ضبط أجهزة الاضاءة، برفقة التقني المتخصص، حيّانا عزالدين مجوبي الذي كان يعتزم أن يخوض تجربته الأولى في الاخراج مع "مسرح القلعة"، بعد مشاركته كممثل في عملين للفرقة، هما: "العيطة" و"فاطمة". كان النص جريئاً ومهماً على أكثر من صعيد، جمالياً وفكرياً ورمزياً بالنسبة إلى وضع المسرح والثقافة عموماً في الجزائر آنذاك. لكن المسرحيّة لم تصل إلى الجمهور الواسع بسبب اندلاع العنف، بل عرضت مرّة واحدة أمام عدد محدود من الصحافيين والمتتبعين... بعد ذلك تواصلت نشاطات فرقة "مسرح القلعة"، فقدمت "الحب... ومن بعد؟" و"ألف تحية لمتشردة" عن نص لمحمد ديب، قبل أن تضطر للمغادرة إلى المنفى الباريسي، حيث قدمت "جلسة تمرين" و"وسط الدار". وكدنا ننسى تلك الليلة الرمضانية، ومسرحية "آخر المساجين" التي حضرنا خلالها جانباً من "بروفاتها"، إلى أن شاهدنا أخيراً أحدث أعمال فرقة "القلعة" على خشبة مسرح "الكومونة"، في ضواحي باريس. فإذا بنا نكتشف أننا أمام النص ذاته، نص "آخر المساجين" الذي أعاد محمد بن قطاف كتابته جزئياً، وأخرجه زياني الشريف عياد. العرض الجديد بات عنوانه "موقف إلزامي" المقصود موقف الحافلة، وهو ناطق أساساً باللغة الفرنسية، عدا بعض المقاطع القصيرة وبعض أغاني المطربة الشعبية الجزائرية بكر حدّة التي تتخلل العرض اداء حورية عايشي. لكنّنا مع ذلك، كنّا نسمع طوال العرض صوت عزالدين مجوبي آتياً من الخلف، من "بلكونة" المسرح، ليقاطع محمد بن قطاف كما في الليلة الرمضانية في المسرح الوطني الجزائري، معترضاً على هذا التفصيل أو ذاك في أدائه أو حركته بملاحظات يدبّجها، في كل مرة، بعبارته المحببة: "لا... لا آحبيبي!". لم يرافق مجوبي "مسرح القلعة" في هجرته الباريسيّة، بعد اشتداد وطأة الارهاب على المبدعين، فكان أن أودت به رصاصات جبانة، على بعد خطوتين من مبنى "المسرح الوطني الجزائري" الذي كان تسلّم لتوّه منصب ادارته. الضحية والجلاد وراء كل مشهد يؤديه محمد بن قطاف السجين وزياني الشريف عيّاد حارسه أو سجانه؟ في النص الجديد بالفرنسية، رحنا نستعيد ذكرى تلك "الليلة الرمضانية" البعيدة، بحثاً عن المقابل العربي في النص الأصلي: "آخر المساجين". من هنا هذا الشعور بالعجز عن الكتابة بشكل موضوعي عن مسرحية "موقف إلزامي". وهي قد لا تكون أحسن ما قدمت فرقة "القلعة"، والثنائي زياني - بن قطاف تحديداً، منذ "قالوا العرب قالوا" 1984 و"الشهداء يعودون هذا الاسبوع" 1986، إلا أنها تبقى أجمل وأصفى ما قدم المسرح الجزائري منذ سنين طويلة. تروي مسرحيّة "موقف إلزامي" قصة عبدالقادر، المحكوم بالسجن المؤبد بتهمة سياسية، وسجّانه مسعود، الذي يرتبط معه بعلاقة حميمة، تكاد تكون علاقة صداقة لولا إطار السجن الذي فرض على أحدهما دور الضحية وعلى الآخر دور الجلاد. وتكشف المسرحية، في قالب تراجيكوميدي، أن مسعود يعاني من وطأة السجن أكثر من سجينه الذي يجد فسحة من الحرية الفكرية وملاذاً من جحيم السجن في ممارسة هواية الكتابة. فعبدالقادر يشغل وقته بتأليف قصة، بدأها قبل 30 سنة، ويروي فيها جوانب من سيرته وأسباب سجنه. ويتخيل ما يمكن أن يكتشفه من تغيرات في المجتمع وفي طبائع الناس الذين عرفهم، إذا كُتب له يوماً أن يغادر أسوار السجن بعد هذه الفترة الطويلة. أما مسعود السجّان، فإن تسليته الوحيدة هي لحظات الصفاء القليلة التي يقضيها في لعب "الضامة" مع عبدالقادر. لذلك فهو يحس بوطأة السجن أكثر من سجينه. وعبر شخصية مسعود، الضحية والجلاد في آن، نكتشف زياني الشريف عياد - ممثلاً - في أحد أجمل أدواره على الخشبة منذ "غابوا لفكار" المسرح الوطني الجزائري - 1984. وبعد "التحولات الديموقراطية" في الجزائر، ها هي السلطات تقرر اقفال جميع السجون. ويُنقل عبدالقادر، في انتظار اطلاق سراحه، إلى زنزانة أوسع وأنظف، وتخصه الإدارة بحفاوة بالغة بوصفه آخر المساجين في البلاد. ثم يُخلى سبيله، بعد أن يُفرض عليه ارتداء البذلة الموحدة التي منحت لكل المساجين هدية اجبارية لحظة استعادتهم الحرية، ورمزاً لبداية عهد جديد في حياتهم وحياة البلاد. يجد عبدالقادر صعوبات بالغة في التأقلم مع تلك البذلة الضيقة التي فصلها خياط السجن على مقاسه وذوقه الخاص. وبعد مغادرة السجن، يجد نفسه سائراً على غير هدى في خلاء مقفر. وحين ينهكه الاجهاد يلتجئ إلى موقف حافلة مهجور، يقع بين مقبرة قديمة ومزبلة. وبعد أيام عدّة قضاها في انتظار حافلة لا تجيء، يبصر شخصاً يقبل من بعيد، فإذا به صديقه السجّان مسعود الذي تم تسريحه بعد اقفال السجن، وخلعت عليه الإدارة البذلة نفسها، بذلة الحرية الضيقة والنمطية. وسرعان ما يعودان إلى تسليتهما القديمة في لعبة "الضامة"، ويستأنف عبدالقادر كتابة قصته، بينما يقوم مسعود بحراسة المكان. وإذا بهما يكتشفان أن البلاد بأكملها تحولت سجناً كبيراً