لم تصدر حتى الآن عن المؤسسة العسكرية اية اشارة صريحة بتشجيع هذا او ذاك على الترشح لانتخابات الرئاسة في شباط فبراير المقبل، ربما لأن التسرع في ذلك قد يسيء بشكل او بآخر للمرشح نفسه ويصعّب بالتالي من مهمة "المساعدة" في نجاحه. وتؤكد ذلك مصادر مقربة من بعض الشخصيات السياسية "المرشحة" - مبدئياً - لتلقي مثل هذه الاشارة في الوقت المناسب. والاشارة الوحيدة الصادرة عن المؤسسة حتى الآن كانت باتجاه السيد عبدالعزيز بوتفليقة وزير خارجية الرئيس الراحل هواري بومدين، لا لتخبره بالاستعداد لتحمل الراية، بل لمجرد تطمينه بأن اللواء المتقاعد خالد نزار وزير الدفاع السابق وهو يتهجم عليه بعنف في منتصف ايلول سبتمبر المنصرم، انما فعل ذلك باسمه الشخصي ولا يعبر عن "فيتو" محتمل عليه. وتبدو قيادة الجيش - الآن على الاقل - مستاءة من بعض الكتابات الصحافية التي تناشد الجيش العودة الى ثكناته "حتى تتمكن البلاد من تجاوز ازمتها الراهنة". ومن شأن ذلك ان يدعم قائد الاركان الفريق محمد العماري في موقفه الذي عبّر عنه في رسالة لافراد الجيش مجلة "الجيش" عدد تشرين الاول/ اكتوبر، اعتبر فيها الموعد الانتخابي المقبل "شأناً شعبياً وحزبياً" قبل كل شيء، ومن ثمة لا دخل "للمؤسسة" فيه، الا من خلال المساهمة - مع باقي قوات الامن - "في ضمان حماية وأمن الاستشارة المقبلة". ومن شأن هذا الموقف "الرسمي" للجيش ان يسهل للرئيس زروال مواصلة مشاوراته مع الاحزاب، وحتى العمل معها - موقتاً طبعاً! - لتحضير الموعد الانتخابي المنتظر. وكان الرئيس الجزائري ابدى خلال لقاء 30 ايلول سبتمبر الماضي مع الاحزاب الممثلة في البرلمان ولقاء 7 تشرين الاول مع الاحزاب غير الممثلة، استعداده الكامل لتنظيم الاستشارة المقبلة "في كنف الحرية والشفافية"، ملمحاً بالمناسبة الى امكان دعوة مراقبين اجانب لمتابعتها، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الاخيرة. وتجسيداً لهذا الاستعداد، تشكلت فرق عمل مشتركة بين الرئاسة والاحزاب، بهدف الاتفاق او تقريب وجهات النظر حول موعد الانتخابات، علماً ان الرئاسة اقترحت اجراءها في 25 شباط فبراير المقبل، وكذلك حول كيفية تنظيم هذه الاستشارة ومراقبتها. مثل هذه المؤشرات تؤكد ان الرئيس زروال مصمم على مواصلة عهده - كما أكد ذلك للأحزاب التي استقبلها - حتى تنصيب الرئيس المنتخب الجديد. وحسب هذا المنطق فإن الاحزاب حرة في ترشيح من تريد، في اطار الدستور والقوانين السارية المفعول، كما ان الشعب سيد فعلاً في اختيار من يشاء بلا رقيب ولا حسيب. لكن هل ان مثل هذا المسعى ممكن ومعقول في جزائر العنف؟ وما عسى ان تكون نتيجته علماً ان نظام الحكم يطبق منذ مطلع التسعينات سياسة يعلم قبل غيره انها غير شعبية، لأنها باختصار مملاة عليه وعلى الشعب من المؤسسات المالية الدولية. لقد انتهى تسيير الثنائي زروال - اويحيى خلال السنوات الثلاث الاخيرة الى حال من الركود الاقتصادي والاحباط الاجتماعي والانسداد السياسي، جعلت معظم المراقبين يتوقعون ان تكون حصيلة هذا التسيير، حليفاً موضوعياً اكيداً لاحتمال عودة "الجبهة الاسلامية للانقاذ" بكيفية او بأخرى، ذلك ان عوامل النقمة والغضب على نظام الحكم التي ساعدت على ظهور موجة "الانقاذ" في مطلع العقد الجاري لا تزال كما هي في آخره. وقد تعبر هذه النقمة عن نفسها مرة اخرى لمناسبة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبالتالي قد تتكرر النتائج التي ادت اليها في 1990 وتشريعات 1991 التي ألغى الجيش نتائجها، بعدما اقال بسببها الرئيس الشاذلي بن جديد، مما ادى الى اندلاع مسلسل العنف الذي تعيش الجزائر ويلاته ودماره منذ سبع سنوات. والاحتمال الثاني الوارد - حسب المنطق نفسه - هو فوز الاحزاب الاسلامية المعتدلة، مثل حركة مجتمع السلم و"النهضة"، فضلاً عن احتمال عودة جبهة التحرير الوطني - الحزب "الحاكم" سابقاً - الى الواجهة بقوة كمرشح محتمل ايضاً للفوز. وتدفع هذه الاحتمالات القوية المتولدة عن الاحتكام الى منطق "الشعب السيد" واكتفاء الجيش بضمان امن عملية الاقتراع بعض الاحزاب القريبة من "السلطة الفعلية"، مثل "التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" و"حزب التجديد الجزائري" و"التحالف الوطني الجمهوري" الى المبادرة باعلان رفضها الصريح "لمسعى الرئيس زروال" كما يستشف من تصريحات ومنهجية عمله التي كشف عنها خلال لقاءي 30 ايلول و7 تشرين الاول، علماً ان الاحزاب الثلاثة المذكورة قاطعت هذين اللقاءين. وذهب رفاق سعيد سعدي بعيداً في رفضهم، الى حد اسقاط شرعية رئيس الجمهورية باعتباره في "حال استقالة"، ومن ثمة الطعن في اهلية اشرافه على تنظيم الاستشارة المقبلة كما يؤكد عزمه على ذلك. ان مثل هذا الرد العنيف من احزاب لعبت دوراً مهماً - بدرجات متفاوتة - في الضغط على الرئيس زروال - حتى لجأ في نهاية المطاف الى تقليص عهده - يؤشر في نظر المراقبين الى ان من المحتمل جداً الا تترك المؤسسة العسكرية الرئيس زروال وشأنه، لينظم الانتخابات الرئاسية المسبقة كما يشاء، محتكماً الى اختيار الصندوق وحده، من دون اي تدخل - او تلاعب - من الادارة ومصالح الامن لمصلحة هذا المرشح او ذاك. وبناء على ذلك يعتقد المراقبون بأن قيادة الجيش لا تزال تدرس الموقف الناجم عن قرار الرئيس زروال من مختلف جوانبه، ولا يزال امامها متسع من الوقت، ولا يستبعد ان تشرع في الكشف عن اوراقها في اجواء احتفالات الذكرى الرابعة والاربعين لثورة الاول من تشرين الثاني نوفمبر، حتى تضفي على اختيارها المنتظر نوعاً من "الشرعية الثورية والتاريخية" المستمد من هذا الحدث المهم في تاريخ الجزائر. فالجيش الذي كان وراء تعيين الرؤساء الستة السابقين - من بن بله الى زروال - هل يتخلى فجأة عن هذا الدور - كما تخلى زروال عن عهده - والجزائر تمر بأعقد مرحلة في عمرها القصير كدولة مستقلة؟ من الصعب تصور هذا التخلي، في ظروف تتميز بسيطرة الجيش على جميع شؤون البلاد. والواضح ان احزاب "النخبة" - ومنها الاحزاب الثلاثة آنفة الذكر - لا تزال تحبذ ان يواصل الجيش اداء دوره كما في السابق. ففي آخر تصريح للسيد علي هارون العضو السابق في "المجلس الاعلى للدولة" والشخصية الثالثة في "التحالف الوطني الجمهوري" اكد امرين مهمين: اولا: ان الجيش لا يزال ضرورياً لأن "الديموقراطيين" احزاب "النخبة" غير جاهزين لخوض غمار منافسة انتخابية بنجاح ضد "الاسلاميين" او "الوطنيين". ثانياً: الرهان على الجيش كي يساعد "ديموقراطياً" على الوصول الى الحكم، "فالكتلة الديموقراطية - في تقدير هارون - يمكن ان تحصد خلال الدور الاول من 15 الى 20 في المئة من اصوات الناخبين". واذا تلقى مرشحها "دعماً من الجيش في الدور الثاني من المحتمل ان يكون الفوز حليفه". وليس هذا الموقف من هارون امراً مستغرباً، طالما ان زعامات وطنية و"اسلامية" تنظر الى الجيش النظرة نفسها، فهي الاخرى تنتظر منه دعماً حاسماً لمرشحها في الانتخابات الرئاسية . والسؤال الجوهري في هذا الصدد - ضمن آفاق الانتخابات الرئاسية - هو: هل سيكون مرشح الجيش لهذا الاستحقاق المهم "رئيس واجهة أم رئيساً بالفعل"؟! الاختيار الاول يعني ان قيادة الجيش تقدر بأن اوضاع البلاد ما زالت تتحمل "سياسة كسب الوقت"، اي مرحلة انتقالية جديدة، تواصل "المؤسسة" الجيش خلالها دورها "كسلطة فعلية"، بواسطة "سلطة رسمية" تمثل "واجهة دستورية" امام الرأي العام المحلي والدولي. والمرشحون المحتملون للقيام بمثل هذا الدور في الفترة المقبلة، يمكن ان يكونوا من حجم عبدالقادر بن صالح رئيس مجلس النواب، او احمد اويحيى رئيس الحكومة، او مقداد سيفي رئيس الحكومة السابق او احمد بن بيتور رئيس اللجنة المالية في مجلس الامة. وتبدو في هذا السياق حظوظ كل من بن صالح وأويحيى اوفر، فالاول من غرب البلاد الذي وصل مع الرئيس السابق احمد بن بله الى النبع ولم يشرب، حسب التعبير الدارج، ولا تزال "نخبته" بناء على ذلك تعاني حرقة العطش الى السلطة، بعد سمفونية غداة الاستقلال الناقصة. وتجنباً لمزيد من الاحباط الذي تعانيه هذه "النخبة" - التي كانت ممثلة احسن تمثيل في مختلف اجهزة الحكم طوال عهد الرئيس الراحل بومدين، قد تميل "المؤسسة" الى ترشيح بن صالح الذي اشرف العام الماضي على تأسيس "التجمع الوطني الديموقراطي" وكسب به رهان الانتخابات التشريعية ثم المحلية. ولا يستبعد ان يكون بن صالح المستفيد الاول من "نكبة الثنائي بتشين وبن ابعيبش التي ما زالت تلوح في الافق، على رغم مرور زوبعة الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني في 25 ايلول الماضي بسلام! وبفضل هذه العودة المحتملة الى الواجهة، قد يحمل بن صالح راية التجمع في الانتخابات الرئاسية المقبلة. والثاني من منطقة القبائل التي اصبح سعيد السعدي زعيم "التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" الناطق الاول باسمها. وتنتظر منطقة القبائل دورها لقيادة البلاد منذ مؤتمر الصومام عام 1956، حين استولى رمضان عبان على قيادة الثورة بالداخل وعزل بجرة قلم "القيادة التاريخية" المكونة من احمد بن بله ومحمد خيضر ومحمد بوضياف وحسين آيت احمد. وحاول بلقاسم كريم من جهته الاستيلاء على رئاسة "الحكومة الموقتة للجمهورية الجزائرية" حكومة المنفى في الفترة ما بين 1959 و1962، لكن من دون جدوى، على رغم انه كان "الرجل القوي" في قيادة الثورة، وكان مدعوماً خارجياً. لمثل هذه الاعتبارات قد تجنح المؤسسة الى ترشيح اويحيى تحت راية "التجمع" ايضاً بعد تحييد جناح بن ابعيبش والاشارة الى بن صالح بالانسحاب. وميزة ترشيح اويحيى، الذي يتوقع ان يستقيل في هذه الحال، انه في حال فوزه سيحقق الانسجام بين "جسد السلطة التنفيذية ورأسها"! وتفسير ذلك ان الكتلة القبائلية تحتل مواقع مهمة جداً في الجيش والامن والاعلام، فضلاً عن القطاعات المالية والاقتصادية، ومن شأن كل ذلك ان يسهل مهمة رئيس الجمهورية اذا كان من منطقة القبائل طبعاً. وقد ابدت صحيفة "ليبرتي" - القريبة من تجمع سعيد سعدي - حماساً مفرطاً لرئيس الحكومة، معلنة انه سيكون "مرشح الائتلاف الحاكم بالاجماع"، اي الاحزاب الثلاثة: التجمع، حركة مجتمع السلم، جبهة التحرير، بل ذهبت الى حد اعتباره مرشح زروال ايضاً! متناسية ان هذا الاخير كلفه بتفعيل لجنة الانتخابات التي يرأسها، مما ينفي امكان ترشيحه اصلاً. الاختيار الثاني ويعني ان قيادة الجيش توصلت الى قناعة بأن الشعب اصبح بحاجة ملحة الى رئيس، وان اوضاع البلاد لم تعد تحتمل مزيدا من المماطلة فضلاً عن غياب المؤسسة الرئاسية، او سوء حضورها جماهيرياً منذ قرابة عقدين من الزمن. ويقدر بعض الساسة الذين لهم وزنهم في الساحة الوطنية والدولية، "ان الاوضاع تنذر بانفجار خطير قد يحمل معه عواقب سيئة على وحدة الشعب والوطن". ولتفعيل دور المؤسسة الرئاسية لا مناص من ترشيح شخصية فاعلة مؤهلة لاحتلال قصر المرادية بكل جدارة، شخصية تحكم فعلاً بمساعدة الجيش طبعاً، ولا تكون مجرد واجهة يحكم الجيش بواسطتها كما اتضح ذلك في حالات سابقة. وفي هذا المستوى من التصور تبرز ثلاثة اسماء، تكتنفها هالة متميزة. ونعني بها: احمد طالب الابراهيمي، عبدالعزيز بوتفليقة، ومولود حمروش. 1 - من ناحية التجاوب مع الغالبية السائدة حالياً والمشكلة اساساً من الوطنيين و"الاسلاميين"، يبدو الابراهيمي مؤهلاً احسن من منافسيه. لكن الابراهيمي من الصعب ان ترضى به احزاب مثل "تجمع" سعيد سعدي و"تحالف" رضا مالك و"تحدي" الهاشمي الشريف سابقا. هذه الاحزاب التي يمكن ان تناصبه العداء وتحاربه انطلاقاً من مواقفها المتميزة على الصعيدين الاعلامي والثقافي خصوصاً. وقد شرعت صحف مثل "الوطن" و"لو متان" في محاولة "احراق" هذا الاسم قبل طرحه كمرشح محتمل. 2 - مثل هذه الحساسية من الاوساط العلمانية والشيوعية، ربما لا يثيرها اسم مثل عبدالعزيز بوتفليقة وزير خارجية بومدين، ومن "البارونات" التي نكبها الرئيس بن جديد في مطلع الثمانينات. لكن بوتفليقة محسوب على عهد مضى، وان كان يمثل "العصر الذهبي" للجزائر المستقلة التي دخلت منذ وفاة بومدين في "عشرية سوداء" لم تنته بعد! وعودته يمكن ان تزرع نوعاً من الاحباط لدى بعض المتزعمين من امثال سعدي وبوكروح وغيرهما من "الشباب" الطامح، لأنها تؤجل مشاريعهم. وقد تدفع البعض منهم الى استكمال تكوينهم السياسي واعادة النظر في تصور علاقتهم - "كنخبة" - بشعبهم، سعياً الى فهم اعمق لحقائقه الاجتماعية والثقافية خاصة. 3 - وتبدو شخصية حمروش أقل اشعاعاً من الابراهيمي وبوتفليقة، لكن الاوساط العلمانية والشيوعية يمكن ان تتقبله، فضلاً عن تفوقه نسبياً في ميدان التسيير الحكومي، وارتباط اسمه بالاصلاحات الاقتصادية التي دشنها منذ ان كان اميناً عاماً لرئاسة الجمهورية أواخر الثمانينات. وحسب صحيفة محلية فإن لقاء جمع كلاً من بوتفليقة وحمروش من دون معرفة ما جرى في اللقاء، فهل طلب كل منهما دعم الآخر في حال ترشيحه؟ ام انهما سيدخلان المعركة صفاً واحداً احدهما للرئاسة والثاني للنيابة والحكومة؟! انها فكرة جيدة، كخطوة أولى جادة باتجاه تفعيل قصري المرادية والحكومة في آن. وليس مستبعداً في سياق الاختيار الثاني دائماً ان يتم ترشيح او ترشح - شخصيات وطنية اخرى مثل حسين آيت احمد رئيس جبهة القوى الاشتراكية، او بلعيد عبدالسلام رئيس الحكومة السابق - الذي اعرب عن رغبته في الترشح بصفة مستقلة. لكن اين مرشحو "التجمع الوطني" حزب "الغالبية الرئاسية" و"حركة مجتمع السلم" و"جبهة التحرير الوطني"؟ هذه الاحزاب التي تشكل الائتلاف الحاكم منذ الانتخابات التشريعية في العام الماضي، لا تزال تنتظر هي الاخرى اشارة "المؤسسة" على غرار الشخصيات الوطنية التي سبق ذكرها. ويسود الانطباع الآن بأنها تفضل بصفة عامة "تزكية مرشح مستقل"، يقترحه الجيش، استناداً الى ان التجربة التعددية لم تنضج بعد الى درجة تقبل رئيس جمهورية مرشح من حزب بعينه، حتى لو افترضنا ان هذا الحزب قادر بمفرده على ضمان غالبية برلمانية لرئيسه. اما اذا تأكد ان الجيش لن يرشح احداً فسيكون هناك شأن آخر، وفي هذه الحال ستجد الساحة السياسية نفسها امام ترشيحات باسم الاحزاب المهمة، وسنجد ضمن قائمة المرشحين الى الدور الأول شخصيات مثل نحناح وسعدي، وربما بن حمودة وآيت احمد. وقد يدلي الشيخ جاب الله بدلوه هذه المرة بعدما كان قاطع الانتخابات الرئاسية في العام 1995.