حتى العام 1949 كانت التمثيلية الأسبوعية في الاذاعة الاميركية تحول الى التلفزيون باضافة تعديلات بسيطة اليها، الى ان اقدمت بريطانيا على اعداد اول مسلسل تلفزيوني العام 1953. وبحلول نهاية الخمسينات أضحى عدد المسلسلات المنتجة في اميركا وتوزع في جميع انحاء العالم 100 مسلسل. لعل أبرزها في ذلك الوقت "بونانزا" الذي بيع لبعض الدول النامية بپ24 دولاراً للحلقة الواحدة. ولأن الهنود الحمر يخسرون المعارك دائماً امام الرجل الأبيض فقد انبرى بعض كتّاب العالم الثالث للتعامل مع الدراما التلفزيونية الا ان هذا النوع من الانتاج بقي بحاجة ماسة لما تنتجه استديوهات اميركا. ولعل اقرب مثال مسلسلي "دينا ستي" و"دالاس" وقد تمت دبلجتهما الى اكثر من 30 لغة في العالم. وعودة الى الدراما التلفزيونية العربية فان المحاولات الشجاعة التي قام بها أسامة أنور عكاشة في مسلسل "الحلمية" بأجزائه المتعددة كانت الاستثناء الوحيد الذي تابع حياة الأبطال الممثلين لأكثر من جيل. لكن المسلسل لم يوفق في المحافظة على ابطاله من النجوم، ففي كل جزء تتغير بعض الشخصيات حتى ان بعض المتابعين قال انه بالامكان متابعة الاحداث عبر الراديو من دون الاحساس بالفرق. وهذه ملاحظة جديرة بالاهتمام. فهل ما يكتبه عكاشة هو حوار بلا سيناريو ام ان المخرجين الذين قدموا اعماله لم يوفقوا في صنع الصورة الملائمة للأحداث؟ الغريب في الامر ان مخرجاً تلفزيونياً لامعاً من سورية هو نجدت اسماعيل انزور يوافق على مثل هذه المقولة ويضيف ان الدراما التلفزيونية العربية لم تتعد حتى الآن حدود الدراما الاذاعية التي يمكن متابعتها بالاذن اكثر من الرؤية البصرية لجمودها بين جدران الاستديو وأخشاب الديكور وسنيوغرافيا المسرح المهيمنة على حركة الممثلين في هذا الحيز الضيّق. ونجدت انزور معروف بميله الكبير الى التكوين التشكيلي في رسم لقطاته التلفزيونية، ومولع بجماليات الطبيعة والبيئة العربية يضيف اليها بعض الفنتازيا اللونية والاكسسوارات التي تدهش العين على رغم عدم امساسنا بها كعنصر مهم في الاحداث، الا انها في نهاية المطاف تقدم متعة بصرية. لا يستطيع المتابع لأعمال أنزور اخفاء اعجابه بطريقته في اخراج رواياته للشاشة الصغيرة فمن منا لم يتابع صراع "الجوارح" على رغم المواربة الكبيرة في تحديد الزمن والتاريخ الذي تدور فيه تفاصيل الصراع؟ ومن منا لم تستفزه احداث "اخوة التراب" ويكره الأتراك كما لم يكره احداً من قبل بعد مشاهد "الخازوق" والدماء ووسائل التعذيب التي اعتمدوها مع الثوار العرب؟ ومن منا لم يتأثر بطروحات "تل الرماد" ويشعر بالعطش والجفاف؟ ها هو الآن يحرق حقول "العوسج" هذه النبتة الشوكية المقدسة في توراة اليهود. في مسلسل يكون حديث الناس في شهر رمضان الكريم تنفرد بعرضه قناة مركز تلفزيون الشرق الأوسط في لندن. الحوار مع انزور لا يمكن ان يكون تلفزيونياً فنياً فقط فهذا الرجل يقوم بدور مهم يدفع للحديث في السياسة ويضغط لوضع النقاط فوق الحروف فعلى رغم جرعات الوطنية والقومية والعروبة الكبيرة في اعماله والتي يتحدث بها ممثلوه في معظم المشاهد، فهو يغفل عن حقيقة مهمة: انه يقدم لتيار سياسي تتبناه بعض الاحزاب والآيديولوجيات العربية. فهل يشتغل انزور بالشأن السياسي من خلال الدراما التلفزيونية؟ وهل من حقه اعادة كتابة التاريخ؟ وكيف يستطيع المرور بين حقول الألغام السياسية العربية المتنوعة الاشكال والطروحات والاهداف في سلام؟ الحقيقة ان واحداً منها انفجر قبل عامين عندما قدم اخوة التراب فالكثير من الدول العربية منعت عرض المسلسل. وعلى سبيل المثال الكويت ردت بأن مشاهد الدماء والتعذيب منفرة ولا يجب عرضها للجمهور. وبقي المسلسل طي الادراج في المحطات اللبنانية حتى هذا العام بسبب وجيه وهو ان انزور الغى كياناً اسمه لبنان عن خريطة الاحداث تماماً ولم يكتف بذلك، بل قدم النماذج المتعاونة مع الاستعمار، وعرض شهداء الثورة العربية الأولى ضد الاستعمار التركي وهم يشنقون في عاليه وجميعهم سوريون. جمال باشا السفاح يشنقهم ويعذبهم لأنهم سوريون ولبنان يفرد جزءاً من تاريخه لهؤلاء. لماذا لم تشرك فنانين لبنانيين في اعمالك السابقة خصوصاً انك تناولت جزءاً من تاريخهم؟ ما هو ردك على الملاحظات الكثيرة الخاصة بأخوة التراب وشهداء السفاح في لبنان؟ - اولاً انا لا اعترف بالكيانات التي تركها الاستعمار الأوروبي في بلادنا. انا ابن بلاد الشام وبلاد الشام تشمل سورية والأردن وفلسطين ولبنان هذه تقسيمات مفتعلة تكاد تقضي على مستقبلنا أيضاً. والأتراك تعاملوا معها على هذا الأساس كياناً واحداً حسب تقسيمات الدولة العثمانية. هذه حقائق تاريخية معروفة للجميع. وأنا اتناول تلك الفترة وليس الواقع الحالي. أما بالنسبة الى مشاركة فنانين لبنانيين فهذا العام ستشاهدون عودة كبيرة للفنان عبدالمجيد مجذوب بطل "العوسج" الى جانب الفنان القدير عماد فريد وأبطال آخرين منهم دارينا الجندي وبيير داغر الذي سبق ان تعاملت معه في "الخبز المر" وهذا عمل مشترك لبناني - سوري. ألا تلاحظون هذه التجارب؟ هل تستخدمك سلطة ما أو حزب ما؟ أم انها قناعات ذاتية هذه الأعمال التي تتناول فيها التاريخ؟ - جيد هذه فرصة لي للتأكيد بأنه ما من نظام سياسي عربي يستخدمني. انها قناعاتي الشخصية وقد يتفق معي الكثير ويختلف القليل. وللتوضيح أقول انه في سورية تم حذف الكثير من المشاهد من قبل الرقابة. وهذا الامر احزنني، لكن لكل بلد رؤياه الخاصة. لماذا التركيز على نهايات القرن التاسع عشر الم تستوقفك احداث ما بعد الحرب العالمية الثانية مثلاً؟ - عندما يرتفع سقف الحرية في الوطن العربي اكثر يمكننا تناول هذه المرحلة انا أعمل وفق المتاح لي وأتحايل كثيراً للنفاذ من بين أيدي العاملين في الرقابة وهم الأكثر نشاطاً في الوطن العربي، عموماً اعمالي التي قدمتها تناولت بدايات القرن الحالي حتى الثلاثينات. نراك كثير التنقل ما بين مصادر الانتاج فهل هذه محاولة للتوزيع والانتشار ام ان اسباباً محددة تدفعك للتعامل مع اكثر من مهمة انتاجية؟ - حقاً انا لا أحب التقيد بجهة انتاجية واحدة، لأنها تفرغ الطموح وتتحول الى "بازار" بيع وشراء وتحولني الى مستخدم. انتجت لحساب "الشام الدولية" مسلسلات "نهاية رجل شجاع" و"اخوة التراب" و"تل الرماد"، وهذا كثير. ثم تعاملت مع مركز دبي للأعمال الفنية في "الجوارح - الجزء الأول"، وأنتظر تجهيز الجزء الثاني. كذلك جربت العمل مع السعوديين وأعد العودة الآن للتعامل مع المصريين في مسلسل جديد يحمل عنوان "الموت القادم من الشرق" يتناول قصة الصراع اليهودي - العربي عبر التاريخ وسيقوم ببطولته الفنان نور الشريف. هذا المسلسل ستنتجه شركات مصرية سورية اما "العوسج" فهو انتاج سوري ولعلمكم فإنني أقوم بتدريب العديد من التقنيين العرب في كل مسلسل انجزه. وسترون قريباً مشاركة المخرج البحريني احمد يعقوب المقلي ومدير التصوير البحريني ايضاً عبدالرحمن الملاّ. حدثنا عن "العوسج" ما الذي سيقوله لنا وأي نوع من الدراما هو؟ - "العوسج" فانتازيا تاريخية كتبها وأعدّ لها السيناريو غسان نزال تتناول مرحلة سيطر فيها "الاغوات" الاقطاعيون في عهد الأتراك على مقدرات الأمور في مناطقهم بما فيها ارواح الناس ومارسوا عدوانيتهم دون حدود. وهذا المسلسل هو أول عمل روائي طويل للشاشة الصغيرة فأحداثه كتبت كرواية تلفزيونية في الأساس، اي لم يتم نقلها عن رواية نشرت او كتاب بين أيدي العامة. انتم تعرفون اهمية نبات "العوسج" بالنسبة الى اليهود. المهم اننا نحرق حقول هذه النبتة في نهاية المسلسل. الجديد في العمل انه باللغة العربية الفصحى. وهذا امر جميل ومريح بالنسبة لي استقدمت خبير ازياء تاريخية فرنسي اسمه جان بيير دليفر لتصميم ملابس الممثلين. ووضع له الموسيقى التصويرية اسامة الرحباني. في حين صمم الديكور الدكتور احمد معلا من سورية. ويشارك فيه من الممثلين العرب كل من عبدالرحمن ابو القاسم وأسعد فضة وزوجته الفنانة مها الصالح الى جانب زيناتي قدسية وصباح عبيد وسلمى المصري وطفل عربي مدهش اسمه عمر صباعي. وقد كتب الشاعر اللبناني طلال حيدر قصائد خاصة بالعمل غناها الرائع ايلي شويري. لقد جمعت الكثير من عناصر النجاح في هذا المسلسل لتوصل فكرة ما ارجو ان تصل عقل المشاهد. من خلال 28 حلقة فقط. ترى من تطال فكرة العوسج هذه المرة؟ - الافغان العرب - بكل صراحة - وتوقعاتي لنهاية بطولاتهم الديماغوجية على الساحة العربية والاسلامية ان مسلسلي ينتهي بمشهد مثير للحيرة والتساؤلات اتمنى ان يشاهدوه. أين تم تصوير هذا العمل؟ - في سورية في مناطق من ريف اللاذقية في غاية الجمال. لا زلت مصرّاً على استخدام الطبيعة واستغلال البيئة الطبيعية الموائمة للاحداث. وهذا موجود في سورية بكثرة .