منذ اخذت الدراما السورية تثبت قدرات فنية متميزة، وتلقى ترحيباً من المشاهد العربي، كان من المنطقي ان تقع منافسة بينها وبين الدراما المصرية، التي كانت تسيطر لعقود، على اغلبية محطات التلفزة العربية. ولم يكن اتسام هذه المنافسة بالحدة والاستبدالية ليعني عدم وجود فوارق موضوعية بين النمطين الدراميين، فوارق تتجاوز رغبة كل فريق بتمييز انتاجه، وعدّه الأنجح، خاصة وان التلقي الجماهيري على المستوى العربي كثيراً ما يعبر عن استحسانه او استنكاره لهذه الاعمال، من دون ان يمنعه ذلك من استشعار ميزات خاصة لكل طرف… كما ان أياً من الدرامتين لا تمثل وحدة منسجمة، فكثيراً ما يظهر تفاوت في المستوى بين الاعمال يبلغ درجة تجعل من بعضها خارجاً عن النسق كلياً… لذا سيتجه الحديث الى الاعمال المعبرة عن النموذج الدرامي لكل طرف… الدراما السورية… الاخراج مع حفظ اهمية مساهمة طاقم العمل الدرامي في كل جهة، من المؤكد ان الدور الحاسم في الدراما السورية كان لمخرجيها وربما كان رائد هذه المشاريع الاول هو المخرج هيثم حقي الذي كان يعبر عن طموح لانجاز اعمال درامية تلفزيونية بسمات سينمائية، وهو ما يمثل ارتقاء في التعاطي مع اللغة البصرية. ويبدو ان اغلب المشاريع الناجحة لمخرجي الدراما السورية لم تخرج عن الخطوط العريضة لمقولة حقي ، حتى اولئك الذين فجروا شعارات كبيرة لتيار اخراجي خاص، كحالة نجدة أنزور، فعلى رغم دوره الفعّال في تطوير وتعزيز تمايز الدراما السورية الا انه كان يحاول ايضاً التعامل مع الدراما بأدوات سينمائية، وان كان كثّف الاهتمام بالصورة حتى غدت لونه المميز. ويجدر التنويه الى ان الفترة التي ظهرت فيها المشاريع السورية كانت تتقاطع مع تعاظم دور شركات الانتاج الخاصة وهو ما أمن فسحة خيارات امام المخرجين السوريين للخوض في تجارب تجديدية، خاصة وان سوق الفضائيات كانت تتسع دافعة شركات الانتاج لتقديم افضل ما لديها في سبيل تحقيق رواج اكبر، فظهرت نتيجة ذلك كله مجموعة اعمال تمثل نقاطاً مضيئة في تاريخ الدراما السورية، كأعمال حقي "هجرة القلوب الى القلوب"، "خان الحرير"، "الثريا"، وأعمال انزور "نهاية رجل شجاع"، "الجوارح"، "اخوة التراب"، و"هوى بحري" لباسل الخطيب… وسواها. في الوقت الذي استطاعت فيه الدراما السورية تحقيق نجاحات كبيرة مستندة الى نماذج اخراجية جديدة، كانت الدراما المصرية تتقدم بهدوء مراكمة تاريخاً طويلاً من الاعمال الدرامية. غير انها، كما يبدو، كانت غالباً ما تعتمد في انتشارها العربي على غزارتها الانتاجية وشهرة نجومها المستعارين من السينما، وعدم وجود اطراف منافسة بالمعنى الكمي والتقني، اكثر من اعتمادها على تطوير ادواتها، باستثناء الاعمال المأخوذة عن الكاتب اسامة انور عكاشة، والتي تمثّل - برأينا - النموذج الانجح في الدراما المصرية. فقد استطاع عكاشة بموهبة نوعية وتخصص درامي فريد، انجاز اعمال خالدة، مشكلاً بفنية عالية لوحة عريضة وعميقة للمجتمع المصري تستغرق في اصغر الشرائح واكبرها، صاعداً من التفاصيل اليومية الصغيرة الى المآزق التاريخية، حتى حقق في "ليالي الحلمية" للمخرج اسماعيل عبدالحافظ و"أرابسك" و"زيزينيا" لجمال عبدالحميد نمطاً فريداً لملحمية درامية، لا يقتصر انجازها على خصوصيتها بل على ما تركته من آثار على المقاييس الدرامية لدى المشاهد العربي. ان الفارق الاول الذي يمكن لمسه بين عوامل نجاح الدرامتين، هو استناد الاولى الى الاخرج والثانية الى السيناريو، وهو ما يفسر المناورات التي جرت بين مخرج سوري وسيناريست مصري، لكن هذا الفارق كانت له مؤثراته في مجمل العملية الفنية، اذ كان التجديد في الاخراج عنواناً لمجموعة تغييرات، فخرجت الدراما السورية من الاستوديو مكونة فضاءات بصرية مفتوحة، تهتم بإظهار مقومات البيئة بالمعنى الجمالي او التوثيقي سواء كان هذا التوثيق تاريخياً ام جغرافياً، كما ازداد التجديد والتنويع في الديكورات الى حد بناء مواصفات بيئية خاصة كما لدى انزور وباسل الخطيب، الامر الذي حقق للدراما سبقاً في مضمار التعبير البصري، وفتح خيال المتلقي وكل ذلك منح الصورة دوراً جديداً في المسار الدرامي على حساب الحوارات المباشرة. اما الدراما المصرية فنتج عن اتكائها على السيناريو قلة الاكتراث بالتنويع في الاساليب الاخراجية، فظلّت الاستوديوهات المكان الاساسي لهذه الاعمال، على رغم تقدمها تدريجياً باتجاه الاهتمام بالتصوير الخارجي. وظل المخرج يعمل تحت سطوة اكثر الشروط اكاديمية وكلاسيكية من دون أية ابداعات تذكر. في المقابل استطاعت هذه الدراما التركيز على اظهار شخصيات فنية مسبوكة بحرفية، وتطوير اجواء حوارية عالية المستوى تستطيع الارتفاع من ضيق الحدث الى سعة الفكرة. وكل ذلك يندغم في مسارات حبكة غزيرة الخيوط قادرة على شد المشاهد ضمن الحلقة وعبر الحلقات، وهي في هذا الجانب تدفع - والحديث يهتم اساساً بنموذج عكاشة - بجمهور المشاهدين الى الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل وترتقي به الى مستوى نقاشات حساسة، مع العلم ان سيناريوهات عكاشة، تعاني، غالباً، من تناقض الانتماء بين التقاليد والاعراف القديمة، والحداثة والعصرنة، والتي لا يجمع عكاشة بينها الا اعتباطياً وبالمستوى النظري، الا ان الشارع العربي غالباً ما ينسجم مع هذه الطروحات ويجدها اكثر تناسباً مع تصوراته، لمجمل هذه الصفات تبدو الدراما المصرية مستقطبة لمختلف شرائح المجتمع العربي ومؤثرة فيها، اضافة الى ان اعتمادها على الحوار يلقى تقبلاً اكبر لدى جمهور لم يعتد بعد ادوات ثقافية بصرية. ما يمكن لفت الانتباه اليه في هذا السياق ان اتجاه الدراما السورية بأغلب مشاريعها نحو لغة سينمائية ربما كان تعويضاً عن فقدان جماهيرية السينما السورية. ومن هنا نلاحظ تحول المخرجين السينمائيين السوريين باتجاه الدراما التلفزيونية، بينما تمثل السينما المصرية بزخمها تخصصاً يستقطب، ويغني، المخرجين المصريين المختصين، مشبعة فيهم الرغبة في اجواء ورؤى سينمائية، ولعلنا نجد في التخصص مزية لها مبرراتها وفوائدها، على رغم جدارة ونجاج المشاريع الدرامية السورية في هذا الاطار. هناك جانب آخر يمكن ان نلمس فيه الفوارق بين الدرامتين، يتمثل في الموضوعات، فقد حاولت الدراما السورية التجديد في المواضيع، عن طريق تقديم نماذج تتحرر فيها من تحديد الزمان والمكان او من احداهما، فيما سمي ب"الفانتازيا التاريخية" وتلك الشبيهة التي اعتمدت اقتباسات من اعمال عالمية. وعلى رغم الجدل المستمر حول جدارة هذه الاعمال وضرورتها، الا انه لا منأى عن الاعتراف بالحسّ التجديدي والمغامرة الفنية التي مثلتها، هذا ناهيك بالاقبال الجماهيري الذي حققته، ما قد يعبّر عن شغف جماهيري بالانفتاح ، ولو احياناً، على عوالم اكثر غرابة وبعداً عن التحديد، كما ان هذه الموضوعات مثلت البيئة الاخصب بالنسبة لمخرجين يبحثون عن اجواء تلائم ميلهم للابداع والتحديث. مع هذا كانت تجارب "الفانتازيا" تعاني في الغالب تنافراً بين اخراج يحاول استغلال او توظيفات دلالات بصرية ورموز منفتحة، ونصوص خطابية اكثر مباشرة وتقريرية، مما أفقد هذه الاعمال بالتدريج مشروعية تمايزها، ولعل مسلسل "هوى بحري" للمخرج باسل الخطيب والمؤلف قمر الزمان علوش، كان اكثر هذه الاعمال انسجاماً بين النص والاخراج على رغم عدم اعجاب الجمهور به، وذلك ببساطة لعدم اعتياد الجمهور آليات الرمز والتأويل. في مضمار الموضوعات ربما لا نجد قفزات تجديدية في الدراما المصرية الا انها عوضت عن ذلك في الاستغراق اكثر في الشرائح المجتمعية، وفتح جغرافيا للدراما تستوعب فيها اكبر قدر من التعقيدات العصرية، حتى تلك التي تدخل تحت عنوان اشكاليات كونية كما هي حال "ليالي الحلمية" و"امرأة في زمن الحب" وهذه موضوعات تعاني الدراما السورية من ضعف معالجتها لها، ولا ننسى ان الدراما المصرية استطاعت رفع مستوى حضور المرأة درامياً، وذلك من خلال مجموعة من الاعمال التي اعتمدت المرأة بطلة رئيسية، تلتف جميع دوائر الحبكة حول مركزية دورها وتأثيرها، كأعمال "ضمير أبلة حكمت" و"حياة الجوهري" و"امرأة في زمن الحب" وهي خطوة لم تستطع الدراما السورية مجاراتها كمّاً وكيفاً، على رغم المحاولة الدرامية المتجسدة في عمل "امانة في اعناقكم". وفي اطار التاريخ وكلتا الدرامتين تكرّس جزءاً هاماً من انتاجها لهذا العنوان نلحظ تركيزاً خاصاً على فترة الحربين العالميتين وما بعدهما، ونستطيع ان نميز هنا عملين: الاول للمخرج اسماعيل عبدالحافظ والمؤلف انور عكاشة "ليالي الحلمية"، والثاني "الثريا" للمخرج هيثم حقي والمؤلف نهاد سيريس، فالاول ميزته انه استطاع تحقيق امتداد زمني وصل به الى اللحظة الراهنة، وهو ما يمثل التوظيف الاكثر حيوية للتاريخ، من حيث هو سيرورة مرتبطة بالراهن، لا جزيرة تقبع في الماضي، اضافة الى النجاح الملفت الذي حققه عكاشة في اختياره شخصيات مختلفة الانتماءات الطبقية والمجتمعية والثقافية، ما جعل تطورها وتبدلها معادلاً فنياً للتطورات والتبدلات التي طرأت على المجتمع المصري. بينما قدم مسلسل "الثريا" سيناريو متوازناً قادراً على الالمام بمجمل الشروط المكونة للفترة المعالجة، محدداً الدور التاريخي للفرد والشريحة والطبقة، وصهرها ضمن مسارات درامية شيقة، اضافة الى القدرة على بث حوارات تصعّد الحدث المباشر الى افكار حساسة تاريخياً. وجاء اخراج هيثم حقي مستنداً الى بناء مشهدي مفتوح وذكي، يهتم بأدق التفاصيل، وينجز صورة سينمائية متميزة لهذا نجد في هذا العمل مثالاً متفرداً لاجتماع اخراج وسيناريو يحققان الانسجام، ويتجاوزان الحالة الكلاسيكية من دون ضجيج. ولا بد من التوقف هنا عند سمتين متقابلتين في هذا النوع من الدارما، ففي الاعمال التاريخية السورية ظلت العلاقة التاريخية بين سورية والعالم العربي موضع تركيز، لكن لا كعلاقة ارتباط، بل كعلاقة اندماج، وظل التاريخ السوري يُقرأ في ضوء التاريخ العربي، بينما تتجه الاعمال التاريخية المصرية نحو عزل مصر كوجود تاريخي وحضور معاصر عن المسار التاريخي العربي، وهي المقولة التي تنصب جلّ اعمال عكاشة في دعمها وتعزيزها، حتى وان اضطر في سبيل ذلك الى تحميل الرأي الشعبي البسيط مصطلحات ومفاهيم معقدة حول "المرجعية التاريخية" و"الاصل الحضاري" في المجتمع والذات المعاصرين. مهما يكن في الامر فان الدراما المصرية ما زالت قادرة على الابداع والتجديد، ولا تزال تحظى بمتابعة الجمهور واستحسانه، وان يكل جل الاهتمام ينصبّ على الاعمال الممهورة بتوقيع عكاشة، هذه الاعمال التي لا يمكن ان يقال انها غدت مملة بالنسبة للجمهور كما يزعم بعض المخرجين والفنانين السوريين، فمسلسل "امرأة في زمن الحب" حظي بمتابعة خاصة في شهر رمضان، ربما لم يجاره في ذلك اي عمل سوري عرض في الفترة نفسها على المحطات الفضائية. من جهة اخرى لم يعد بالامكان غضّ النظر عن انجازات الدراما السورية وما شكّلته من رديف قوي ومميز للدراما العربية. ليس كالمنافسة شرط مؤات لتحسين الجودة، غير ان الطابع التجاري الذي نتصف به، وضعف قدرتنا على تقبّل الآخر، كل هذا وجه المنافسة الى صراع بين وجهتي نظر مغلقتين. علماً ان الاستفادة لا بد واقعة في الطرفين جراء التأمل والتدقيق في الطرف المنافس، فهل يصعب الاعتراف بميزات الآخر طالما لا تطرح كَنَفْي للذات؟ هناك زوايا عدة للنظر الى أي موضوع… نأمل ان نعترف ببعضها على الاقل…!!