عاد الخلاف المغربي - الاسباني في شأن مستقبل مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين اللتين تحتلهما اسبانيا ليرتدي طابع المواجهة الديبلوماسية والاعلامية على الاحتفالات الاسبانية الرسمية بالذكرى المئوية الخامسة لاحتلال مليلية 1497 في 17 ايلول سبتمبر الجاري. ويسود الرأي العام المغربي الاعتقاد بأن هذه الاحتفالات التي تجرى في وقت تبحث فيه السلطات الاسبانية عن تمثيل دائم لسبتة ومليلية لدى الاتحاد الأوروبي، ويعني ذلك عملياً "أسبنة" المدينتين المغربيتين وبالتالي "تأييد" احتلالهما، بعدما عمدت في وقت سابق الى منحهما الحكم الذاتي . والواقع ان السلطات الاسبانية التي أعدت منذ بداية العام الحالي برنامجاً حافلاً للاحتفال بما تسميه المئوية الخامسة لپ"تأسيس" مليلية الاسبانية، عمدت للي عنق الكثير من الحقائق التاريخية المتعلقة بمليلية وتشويهها، اذ اعتبرت ان مؤسسها هو بيدرو دي ايستوبينيان الذي قاد الحملة العسكرية لاحتلالها، وانه أقامها على أنقاض مدينة سمتها روسادير، على رغم وجود المدينة المغربية في شمال افريقيا وليس في القارة الأوروبية. واذا كانت الفاعليات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وهيئاته ووسائل الاعلام المغربية عبرت عن استنكارها الشديد للخطوة الاسبانية واعتبرتها "استفزازاً صارخاً" لمشاعر ملايين المغاربة، فإنها في المقابل، عملت بشكل جماعي على تحريك ملف المطالبة المشروعة للمغرب لاستعادة أراضيه المغتصبة التي تعد آخر المستعمرات في افريقيا، اذ لم تبق بعد عودة هونغ كونغ الى الصين وتصفية مشكلة مكاو، سوى سبتة ومليلية اضافة الى مالفيناس وجبل طارق. وكان العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، في خطاب "عيد العرش" في 3 آذار مارس الماضي، جدد دعوته الى حل هذه المشكلة عن طريق الحوار، مذكراً "ان تغيير التاريخ لا يعني تغيير الجغرافيا". كما ان الدكتور عبداللطيف الفيلالي رئيس الحكومة المغربية دعا أمام الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، الى حل نهائي يحفظ للمغرب سيادته على مناطقه المحتلة، ويضمن لاسبانيا مصالحها، ويتيح دعم التعاون بين البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط. واعتبر المسؤول المغربي ان الآلية التي اقترحها الملك الحسن الثاني لتكوين "خلية تفكير" من المغرب واسبانيا للبحث عن تسوية نهائية لقضية سبتة ومليلية والجزر المجاورة لهما، لا تزال صالحة. وقد مثلت "خلية التفكير" المقترحة منذ العام 1987 نواة الموقف المغربي الذي يقوم على "بسط السيادة المغربية على الاجزاء الشمالية المحتلة مقابل ضمان مصالح اسبانيا الاقتصادية". ويتمثل الأساس اذاً في طي صفحة النزاع الاستعماري في تاريخ العلاقات الثنائية. والملفت ان تتزامن المطالب المغربية بانهاء الاحتلال الاسباني لسبتة ومليلية مع الحملة الديبلوماسية المكثفة التي تقودها اسبانيا لانهاء احتلال بريطانيا لجبل طارق واستعادة سيادتها عليه. ويشار الى ان وزير الخارجية الاسبانية ابيل ماتوتيس أعلن أخيراً ان النظام الذي تطبقه بريطانيا على جبل طارق "غير مقبول"، وانه ليس هناك سبب لتبقى آخر مستعمرة في أوروبا تحت سيطرة بلد حليف وصديق وينتمي الى الاتحاد الأوروبي. ويرى مراقبون ان المغرب، الذي اتجه منذ الدورة الپ49 للجمعية العامة للأمم المتحدة الى عرض قضية سبتة ومليلية على المجتمع الدولي، يحاول احداث تغيير في الموقف الاسباني، سواء بدعم المطالب الاسبانية حيال جبل طارق، أو بالافادة من التنظيمات السرية التي يشكلها المغاربة في المدينتين ومن حملات منظمات حقوقية أوروبية معادية للاستعمار. وأبرزت الصحف ووسائل الاعلام في السنوات الأخيرة أسماء تنظيمات سرية معادية للاحتلال الاسباني منها منظمة "21 اغسطس لتحرير الأراضي المغربية المغتصبة" التي يرأسها محمد عبدو. غير ان الأنظار كانت موجهة الى عمر دودوح الذي يوصف بأنه زعيم المغاربة في مليلية، وسبق ان شغل منصب مستشار لوزير الداخلية الاسباني قبل ان يعينه العاهل المغربي عاملاً محافظاً في وزارة الداخلية المغربية بعد عودته الى المغرب في 1987. وكان دودوح الذي يعد الزعيم الأبرز لمغاربة مليلية ومؤسس أول حزب سياسي هناك أطلق عليه اسم "الحزب الديموقراطي لمليلية"، وراء المظاهرات والانتفاضات التي تشهدها المدينة منذ العام 1985، مما دفع الاسبان الذين لم يرغبوا في ترك الساحة فارغة أمامه الى تأسيس أحزاب أخرى مثل "الحزب الاسباني - البربري" و"حزب العمل". يرى الموقف المغربي في تطبيق قانون الحكم الذاتي على سبتة ومليلية مجرد تغيير جديد، ذلك ان اجراء استفتاء صادق فيه سكان جبل طارق بالاجماع على التبعية للتاج البريطاني لم يمنع من بقاء مستقبل المستعمرة مطروحاً، ومن تبعيتها لبريطانيا أمراً مطعوناً فيه. وتسجل الوقائع التاريخية اضطراب اسبانيا في التعامل مع المدينتين، منذ آلت اليها ادارة سبتة العام 1640 ومليلية في 1556، فسبتة التي كانت موضع نزاع بين التاجين البرتغالي والاسباني حتى 1668، تغير وضعها القانوني والاداري، هي ومدينة مليلية نحو 23 مرة. فتارة هما مدينتان تابعتان لاقليم في الأندلس، وتارة هما موقع عسكري تحت اشراف وزارة الحربية، وتارة توضعان تحت الوصاية الخاصة لوزارة الداخلية في مدريد. وجعل دستور العام 1978، الذي ينظم التقسيم الاداري للتراب الاسباني، لكل مجموعة من الأقاليم نظام حكم ذاتي بحكومة وبرلمان جهويين، ولكن بعد سنوات من التردد اتفق الحزبان الكبيران - "الاشتراكي العمالي" و"الشعبي" - على ان نظام الحكم الذاتي يمثل "التعبير القانوني عن هوية المدينتين"، مما يعطي لمجلسي المدينتين نظام مجلس محلي ويحرمهما من المبادرة التشريعية. وأثار ذلك صخباً كبيراً في مدينة سبتة حيث نظمت مسيرة طالبت مدريد بحكم ذاتي كامل، وليس توسيع اختصاصات المجلس المحلي فحسب، وتمسكت حينها حكومة فيليبي غونزاليس بالنص الذي اتفقت عليه مع "الحزب الشعبي" الذي كان في المعارضة، وصوت الحزبان كتلة واحدة ضد كل التعديلات التي قدمت في البرلمان. ومن تلك التعديلات ان يكون رئيس المجلس المحلي للحكم الذاتي معيناً من قبل العاهل الاسباني، وبدلاً من وضع خاص للهجة الريفية احدى اللهجات البربرية المغربية الثلاث في مليلية، اتفق الحزبان "الاشتراكي" و"الشعبي" على نص يعترف بپ"التعددية اللغوية" من دون تحديد. ويظهر ان سكان مليلية من المستوطنين قانعون بالنص، فيما عبّر سكان سبتة عن تبرمهم الشديد، وقالوا انهم لن يقبلوا بديلاً لنظام حكم ذاتي كامل بصلاحيات تشريعية. والحجة الرئيسية التي يروجها المتشددون الاسبان في هذا الصدد ان عدم الحسم باتجاه الحكم الذاتي الكامل، كما هو مطبق في سائر التراب الاسباني "الخالص"، سيبقي الباب مفتوحاً أمام المطالب المغربية. ولا تكتم جماعة "سبتة الموحدة" شكوكها حول ما تصفه بپ"تردد مدريد" الذي ينبئ عن عدم الايمان باسبانية المدينة، بل عن وجود اتفاق سري لتسليم المدينة الى المغرب. ومما يذكر في هذا الصدد تصريح الناطق باسم جماعة "سبتة الموحدة" بأن اتفاق الحزبين "الاشتراكي" و"الشعبي" على حكم ذاتي ناقص "يضعف الصفة الاسبانية لسبتة ومليلية". وقد ذكر ان مستثمراً من اقليم نافارا كان يريد في 1993 اقامة مصانع في سبتة، تلقى تحذيراً من مسؤول كبير في الخارجية الاسبانية من ان أي مصرف في اسبانيا لا يتحمس لضمان استثمارات في سبتة لأن وضعها غامض، مما يؤكد وجود تيارين داخل اسبانيا نفسها يتصارعان حول هذه القضية. ففيما يرغب تيار من السياسيين في الوصول الى حل يضمن مصلحة الطرفين الاسباني والمغربي، يطالب العسكريون المتشددون بتحويل سبتة ومليلية الى قواعد عسكرية. ودارت تساؤلات في شأن مدى انتصار التيار المتشدد، عندما لاحظ مراقبون ان عدداً من المعامل قد انتقلت الى البر الاسباني، وانسحبت 36 شركة خلال 12 عاماً، ولم يبق سوى قطاع التجارة. كما ان عدد المستوطنين الاسبان هبط من 55 الفاً في 1983 الى 53 الفاً بعد عشر سنوات، فيما ارتفع عدد السكان الميليين من 12 الفاً في 1983 الى 15 الفاً في 1993. واضافة الى ذلك فإن أهمية ميناء سبتة أخذت في التضاؤل لمصلحة ميناء طنجة المغربي. ويربط المراقبون بين التطورات التي عرفتها قضية سبتة ومليلية بعد منحهما الحكم الذاتي وبين حملة مكافحة التهريب التي تشنها الحكومة المغربية منذ أكثر من عام كمحاولة لپ"فرض الحصار" على المدينتين اللتين يرتكز اقتصادهما على تهريب السلع والبضائع والمخدرات. ذلك ان توقف التهريب نحو المغرب والذي تقدر أرقام معاملاته بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، وتوقف امداد المدينتين بالماء والمواد الغذائية، يعني الاختناق والافلاس والاستسلام في نهاية المطاف سبتة ومليلية : الماضي والحاضر يعود تاريخ مدينة سبتة الى ما قبل ظهور الاسلام فقد كانت مأهولة بالسكان تتوافر بها كل مظاهر الحضارة من منازل وأسواق وحمامات وقنوات جلب المياه، حتى ان الفاتحين لم يجدوا أي صعوبة في دخولها والانطلاق منها لفتح الأندلس. كما ظلت المدينة نحو ثمانية قرون ذات اشعاع حضاري وعلمي وحلقة وصل بين العرب وأوروبا وبمثابة الحصن الأمامي للمسلمين في الطرف الغربي قبل ن يدخلها المستعمر البرتغالي العام 1514 ليتقلص دورها الاقتصادي وتصبح - كما قال المؤرخ الاسباني روس كليف - وكراً للقراصنة. ثم فرضت اسبانيا سيادتها على سبتة العام 1580 في عهد الملك فيليب الثاني، واضيفت اليها مليلية بموجب معاهدة لشبونة في 1688. تسمى مليلية عند البربر وهم سكان المغرب الأصليين "تماليلت"، أي البيضاء، وتقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط على شكل قوس نصف دائري ومساحتها تصل الى 12.3 كيلومتر مربع. عرفت مدينة مليلية منذ القدم حضارة عريقة وشهدت مرور الفينيقيين والقرطاجيين والرومان، وبعد خمس سنوات من سقوط مملكة بني نصر في غرناطة بدأ الاسبان هجومهم على المغرب وخصوصاً على مليلية مستغلين النزاع القائم آنذاك بين سلطنة تلمسان وسلطان ومراكش وقاموا باحتلالها عام 1497، ومع ذلك بقيت مليلية لأكثر من خمسة قرون محاصرة من قبل المغاربة الذين دأبوا على مهاجمتها ابتغاء تحريرها وطرد المستعمر الاسباني منها. وظلّت حياة الاسبان هناك غاية في الصعوبة حتى تمكنوا من بسط حمايتهم على شمال المغرب بمساعدة الدول الأوروبية ذات الأطماع الاستعمارية. تتمتع سبتة ومليلية بموقع استراتيجي، لا سيما سبتة التي تقع على بعد 23 كيلومتراً فقط من جبل طارق، وتتحكم في ذلك الممر المائي الحيوي، وتشكل من موقعها هذا نقطة انطلاق تشرف على ضفتي البحر في أقصى الغرب من جهة، وتعتبر قاعدة متقدمة تطل على شمال المغرب ومعظم الجزر المنتشرة في البحر المتوسط من الجهة الأخرى. اما مليلية فتوفر تغطية عسكرية لمنطقة غرب الجزائر من ناحية وهران، وتشكل المدينتان معاً محوراً يراقب منه الاسبان شمال افريقيا. تحتل اسبانيا كذلك مجموعة من الجزر الواقعة على الشواطئ المغربية بين المدينتين. وفي مقدمة هذه الجزر "ملوية" أو "الجعفرية" الثلاث. ويواجه الارخبيل المتكون من هذه الجزر الثلاث مصب نهر ملوية على البحر الأبيض المتوسط قرب الحدود المغربية - الجزائرية، وتبلغ مساحتها الاجمالية 60.7 هكتار تقريباً. واحتلها الاسبان العام 1848 بأربع بواخر حربية بعد شعورهم برغبة الفرنسيين في دخولها والاستيلاء عليها لقرب موقعها من الجزائر التي احتلتها فرنسا. وتأتي بعد ذلك جزر "نقور" و"باديس" و"البوزان" و"المعدنوس" وكلها جزر صغيرة تقع على امتداد السواحل الشمالية للمغرب. وعلى رغم انعدام الأهمية الاقتصادية لها جميعاً، حظيت بالأهمية لأنها تشرف على مدخل البحر الأبيض المتوسط وتسمح للقوة التي تسيطر عليها بمراقبة الشواطئ المغربية.