بعد ساعات قليلة من اندفاع أكثر من خمسة آلاف جندي تركي تدعمهم الطائرات والدبابات الى عمق يتراوح بين ثلاثة وثمانية كيلومترات داخل الأراضي العراقية، اعلن رئيس الوزراء التركي سليمان ديمريل ان هذه العملية ستستمر حتى القضاء على قوات حزب العمال الكردستاني. التي قدّر عددها بنحو عشرة آلاف مقاتل في شمال العراق وثلاثة آلاف داخل تركيا نفسها. وأثار هذا الاعلان مخاوف لدى القيادات الكردية - سواء تلك التي تشارك قواتها في القتال ضد الحزب المذكور، او تلك التي وقفت على الحياد - من ان يكون الاختراق التركي للحدود، الذي بدأ في الاسبوع الاخير من الشهر الماضي وراح ضحيته في الأيام الأولى "مئات عدة من القتلى والجرحى" مقدمة لاحتلال تركي دائم، او شبه دائم، للأراضي العراقية التي وصلت اليها القوات التركية. رئيس الوزراء التركي نفى أن تكون لدى بلاده نوايا بإقامة "شريط أمني" حدودي داخل العراق، مؤكداً انه لا يريد "انتزاع أراضي الغير، بل الدفاع عن أراضي بلاده فقط". لكن القيادات الكردية التي تحدثت الى "الوسط" رأت ان حجم العملية العسكرية التركية وتوقيتها يوحيان بأن الحكومة التركية تعتبر ان الوقت أصبح مناسباً لتنفيذ خطط تركية عدة. وقد اعلن رئيس اركان الجيش التركي الجنرال غوريس ان الجيش التركي اوقع آلاف الخسائر البشرية بين قتلى وجرحى او موقوفين في صفوف حزب العمال الكردستاني الداعي للانفصال عن تركيا. وفي حديث مع "الوسط" قال محمود عثمان عضو القيادة السياسية في الجبهة الكردستانية، والذي زار انقرة قبل اسابيع، ان تركيا تعمل منذ اكثر من عامين على اقامة شريط أمني في شمال العراق، على غرار الشريط الاسرائيلي في جنوبلبنان. وأن الأتراك بذلوا كل ما في وسعهم، قبل سنة ونصف السنة، للدخول الى منطقة زاخو تحت غطاء قوات التحالف ضد العراق. لكن واشنطن اوضحت لأنقرة ان وجود قواتها داخل الأراضي العراقية سيثير قلق الحلفاء من الدول العربية. ويعتقد عثمان ان العملية التركية الراهنة في شمال العراق جاءت لتحقيق هدفين: الأول هو إقامة شريط أمني داخل الحدود العراقية بالامتداد الذي تسمح به المعارك الراهنة مع قوات حزب العمال الكردستاني، ثم اقامة مواقع مواجهة لقواعد الحزب، وبالتالي نقل المعارك الى داخل الأراضي العراقية على أمل عرقلة النشاط العسكري للحزب داخل الأراضي التركية. وإقامة هذا الشريط وهذه المواقع قد تصبح حالة معلنة اذا لم تواجهها ضغوط اميركية وبريطانية ودولية عامة. أما الهدف الثاني فيتعلق بمجمل ما حققه أكراد العراق خلال السنتين الماضيتين من برلمان منتخب وحكومة مستقلة ومشروع الفيدرالية الذي اعلن اخيراً. وجميع الدول المحيطة بكردستان، من سورية الى العراق وإيران وتركيا، تعارض هذه المشاريع والاجراءات الكردية في شمال العراق. وتركيا بسبب تحالفها مع الدول الغربية، وعلاقتها المميزة بأكراد العراق تبدو المؤهلة أكثر من غيرها لتقويض هذه المشاريع. والتواجد العسكري التركي في شمال العراق سيسمح لأنقرة بلعب دور أساسي في كل ما يجري داخل كردستان العراقية. ويضيف عثمان ان هدف تركيا المرحلي وربما النهائي هو "تكريد" الحرب في المنطقة. وهو الهدف الذي نجحت بتحقيقه جزئياً في الخامس من الشهر الماضي حين بدأت قوات البشمركة العراقية هجومها على قوات حزب العمال الكردستاني التركية. وستعمل تركيا على نقل مقاتلين من روابط القرى الكردية الموالية لحكومة أنقرة الى الشريط الأمني المرتقب حيث تتم المواجهة مع حزب العمال الكردستاني. ومن المعروف ان قوات البرزاني والطالباني هي التي تقاتل عناصر الحزب. اما الأطراف الكردية الأخرى فما زالت على الحياد، ولا أحد يدري متى يتم توريطها في القتال الكردي - الكردي. والطرف المؤهل أكثر من غيره للتورط في هذه الحرب هو الحزب الديموقراطي الكردستاني في ايران لأن طهران وضعت كامل ثقلها الى جانب حزب العمال. وما يؤكد سعي تركيا "لتكريد" الحرب هو ان عمليتها العسكرية الواسعة النطاق بدأت في اللحظة التي ظهرت فيها امكانية نجاح مساعي الحزب الديموقراطي الكردستاني الايراني لوقف القتال وإجراء مصالحة عامة بين أكراد العراق وأكراد تركيا. وكان من المتوقع ان تؤدي هذه المصالحة الى وقف موقت لعمليات حزب العمال انطلاقاً من الأراضي العراقية. اما المصادر المقربة من قيادتي الحزب الديموقراطي الكردستاني البرزاني والاتحاد الوطني الكردستاني طالباني فلا تخفي استياءها من الاختراق العسكري التركي، ولا تستبعد وجود النوايا والخطط التركية المذكورة أعلاه. لكنها تحمّل مسؤولية ما يجري لعبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الماركسي لأنه رفض وقف عملياته العسكرية ضد القوات التركية في وقت يعلق فيه اكراد العراق آمالاً كبيرة على الموقف التركي لترسيخ المنجزات التي حققوها او التي يعملون على تحقيقها. خصوصاً ان اتفاق تركيا مع قوات التحالف حول استخدام القواعد الجوية فوق الأراضي التركية لحماية المناطق الكردية في شمال العراق سينتهي خلال ثلاثة اشهر، ويخشى أكراد العراق ان تمتنع تركيا عن تجديد هذا الاتفاق. وتتساءل هذه المصادر عما يمنع اوجلان من الاقتداء بالحزب الديموقراطي الكردستاني الايراني الذي أوقف عملياته ضد طهران استجابة لطلب القيادة الكردية العراقية، على رغم تعرضه لضربات موجعة في الأشهر الأخيرة. ويذهب أحمد بيرماني، وهو من قيادات الاتحاد الديموقراطي الكردستاني الى أبعد من ذلك حين يصف العلاقة بين الجبهة الكردستانية في العراق وعبدالله اوجلان بأنها وصلت الى مرحلة عنوانها "اما نحن واما هو". ويوضح بيرماني أن توجه الجبهة الديموقراطي هو النقيض المضاد لتوجه اوجلان الستاليني. وإذا ما نجحت الجبهة بتحقيق الفيدرالية مع العراق فسيكون الامر بمثابة كارثة بالنسبة الى طروحات اوجلان المتطرفة. وبالمقابل اذا فشلت الجبهة في مشاريعها الراهنة والمستقبلية فستفتح الأبواب واسعة امام الخيارات "الاوجلانية" وسيسهل عليه اتهام القيادات الكردية العراقية بخيانة القضية الكردية وخدمة مصالح بعض الدول الاقليمية مثل تركيا. لذلك لم يكن امام البشمركة العراقية سوى القتال ضد جماعة اوجلان التركية. وكانت القيادة الكردية العراقية تأمل بتطهير قسم من قواعد حزب العمال ومحاصرة القسم الآخر خلال اسبوعين على أبعد تقدير، وقبل اجتماع أطراف المعارضة العراقية في أربيل. ولكن بعد اسبوعين من القتال، الذي يعتبر الأشهر من نوعه بين طرفين كرديين والذي شاركت فيه القوات التركية بغارات جوية يومية على قواعد حزب العمال، مقابل مشاركة ايران بإرسال المؤن والذخائر لهذا الحزب. أعلن نيشروان البرزاني عضو المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردستاني البرزاني ان البشمركة العراقيين فوجئوا بضراوة المقاومة التي ابداها رجال الحزب، وأن معنوياتهم تأثرت بمقتل إثنين من قادتهم على جبهة زاخو. وبالفعل روى أحد موظفي الاغاثة الغربيين كيف شاهد بأم عينه جثتي مقاتلين من حزب العمال كانا أوثقا جسديهما معاً ورميا بنفسيهما فوق لغم أرضي بدلاً من الإستسلام لقوات البشمركة. والأهم من كل هذا هو اعلان نيشروان ان الأكراد العراقيين يواجهون مشاكل لوجستية صعبة بعد ان فرض حزب العمال حصاراً شاملاً على كردستان العراقية. ومن المعروف ان قواعد الحزب منتشرة على طول الحدود العراقية - التركية والعراقية - الايرانية. وهما المنفذان الوحيدان الى شمال العراق. وإضافة الى هذا الخلل العسكري الاقتصادي، هناك خلل اكبر في الموقف السياسي لقيادتي الحزبين الرئيسيين في كردستان العراقية. وهو الخلل الناتج عن معارضة الاحزاب الاخرى المشاركة في الجبهة الكردستانية لهذا القتال المجاني. الذي رأت فيه هذه الاحزاب عودة الى النشاط الكردي الذي كان يخدم المصالح الاقليمية اكثر من المصلحة الكردية. ويقول جمال علم دار المسؤول في حركة "الحملة من اجل كردستان حرة" المقربة من بعض اطراف المعارضة العراقية الليبرالية غير الكردية، ان تظاهرات شعبية جرت في أربيل احتجاجاً على الاقتتال الكردي والنقص في المؤن مع بداية فصل الشتاء. ويضيف علم دار ان نتائج القتال الراهن بين الأكراد على صعيد الرأي العام الكردي لن تكون أفضل من نتائج قتال البشمركة العراقيين ضد اخوانهم أكراد ايران مع بداية عهد الخميني عام 1979. وفي هذا المجال يقول محمود عثمان ان القيادة السياسية الكردية طالما اخطأت في قراءة الوضع الاقليمي وارتباطاته الوثيقة بالوضع الدولي. ويضيف انه في عام 1975 اخطأت هذه القيادة بتقدير حقيقة موقف شاه ايران وعلاقاته الدولية. وخلال الحرب العراقية - الايرانية لم تتمكن القيادة السياسية الكردية من إدراك حقيقة الموقف الدولي وراهنت على سقوط النظام العراقي. وعام 1992 اعتقدت هذه القيادة ان بإمكانها توظيف العطف الدولي الراهن والتحالف مع تركيا لتحقيق بعض الاحلام الكردية التاريخية. لكن الموقف الدولي لا يمكن بلورته من دون التشاور مع الدول الاقليمية التي تعارض مشروع الفيدرالية، ومع تركيا بالذات، حليفة الغرب الرئيسية في المنطقة والتي تتناقض مصالحها تناقضاً شبه كامل مع الطموحات الكردية، سواء في العراق او في غيره من الدول المجاورة. والاعلام التركي الرسمي وغير الرسمي يطالب الحكومة التركية بصورة دائمة بوقف التعاون مع أكراد العراق، ووقف تجديد اتفاقية القواعد الجوية الغربية لحماية أجواء شمال العراق. وفي الآونة الاخيرة اضطر الرئيس التركي تورغوت أوزال الى الاعلان بصراحة ان بلاده تحتاج حالياً الى التعاون مع اكراد العراق للقضاء على حزب العمال الكردستاني، وبعدها لكل حادث حديث. كذلك يطالب الاعلام التركي باستغلال الوضع الاقليمي والدولي والعراقي الراهن لپ"تحرير" الموصل التي كانت تركيا تطالب بضمها، وأقنعتها الدول الكبرى في حينها بالاستيلاء على الاسكندرون والتنازل عنها. ويعتقد كل من علم دار وعثمان ان الاجتياح التركي للمناطق الحدودية في شمال العراق جاء ضمن خطة مدروسة للبقاء في المنطقة، ثم العمل على "تكريد" الصراع بمباركة اقليمية من قبل الدول، التي تواجه حركات كردية انفصالية، وربما بمباركة دولية لأن تركيا - بنظر الغرب - تقاتل حزباً ماركسياً يعود بطروحاته الايديولوجية، وأساليب تحركه الارهابية الى ايام الحرب الباردة، التي لا بد من القضاء على مخلفاتها لترسيخ قواعد النظام العالمي الجديد. وضمن هذا الاطار قام ديمريل الاسبوع الماضي بزيارة الى طهران تباحث خلالها مع الرئيس الايراني هاشمي رفسنجاني وكبار المسؤولين وأطلعهم على خطط وتصورات بلاده لما يجري في شمال العراق. وقبل توجهه الى طهران زار ديمريل اسلام اباد حيث أجرى محادثات مع نظيره الباكستاني نواز شريف حول التطورات الاخيرة في العراق.