عندما يرغب اليسار ومثقفوه بالدفاع عن قضية ما، يختار مؤيدوه قاعة "الميتياليتية" في الحي اللاتيني في باريس، في مكان احتجاج تقليدي بدءاً من الثورة الفرنسية الأولى العام 1789 وحتى الآن. فعلى بعد خطوات من المكان تقع ساحة الباستيل الشهيرة، وعلى بعد خطوات من الجهة المقابلة تقع ساحة "الاوديون" التي شهدت صرخة الثورة الأولى التي اطلقها الصحافي كميل ديمولان. وعلى بعد خطوات جنوباً تقع جامعة السوربون ما يجعل المكان مدججاً باشارات الاحتجاج الرمزية. كانت "قضية الجزائر" آخر مواضيع الخطابة والاحتجاج واعلان المواقف في "الميتاليتيه" الاسبوع الماضي، وكانت الجهة الداعية لطرح هذه القضية، جزائرية الهوية وفرانكوفونية الهوى: "التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" بزعامة الدكتور سعيد سعدي. من بين خطباء "الميتاليتيه"، تبوأ الفيلسوف اندريه غلوكمان المرتبة الأعلى عندما رفع الحدث الجزائري الى مستوى عالمي، بقوله ان ما يجري في الجزائر هو "معركة ستكون لها انعكاسات على مستوى الكرة الأرضية" ما يعني بنظره ان مصير العالم متعلق بمصير الحرب الأهلية الجزائرية. وتناول المثقفون الأقل شأناً، الحدث الجزائري بعبارات أقل ادعاء وأكثر عنفاً. امام هذا السيل من العبارات "التاريخية"، بدا الطبيب النفساني، سعيد سعدي، منظم المهرجان اقل عنفاً من ضيوفه وعلى غير عادته، فاكتفى بالتأكيد على قابلية بلاده للديموقراطية "نحن مصممون على البرهان ان بناء الديموقراطية ممكن في بلد اسلامي" وهو كلام بعيدٌ عن دعوات اطلقها سعدي نفسه وطالب فيها بانشاء ميليشيات ريفية، وبابادة الاسلاميين. ويقدم مهرجان "الميتاليتيه" مثالاً عن طريقة التعاطي الفرنسي مع الأزمة الجزائرية. في مكان آخر وفي مناسبة سابقة متصلة بالأزمة الجزائرية، تحدث الشيخ محفوظ نحناح امام جمهور أقل هياجاً ويضم باحثين ومثقفين استضافهم معهد "ايفري" فأكد ان الاسلام لا يتناقض مع الديموقراطية وانه بريء من العنف، ودافع عن سياسة منظمته المنخرطة في مشروع الدولة السياسي وكان عليه ان يبذل جهوداً كبيرة لكي يقنع مستمعيه بأن الديموقراطية لا تعني ان يتشابه الفرنسيون والجزائريون، لكن القسم الأكبر من الحضور فضّل التمسك بالتعريف السائد عن الاسلام السياسي في فرنسا والذي يربط غالباً بممارسة العنف وبالمجازر و"الجهاد" وما شابه ذلك من كليشيهات تبسيطية. تحضر التيارات السياسية الجزائرية الاخرى في فرنسا وتعبّر عن مواقفها من الازمة الجزائرية، من دون يعدل حضورها او شروحاتها، شيئاً في تصور الرأي العام الفرنسي لما يدور في هذا البلد، وهو تصور محكوم الى حد بعيد بالعمليات الارهابية التي شهدتها فرنسا ابتداء من خطف طائرة الخطوط الجوية الفرنسية في نهاية العام 1994، مروراً بالاغتيالات التي طالت مواطنين فرنسيين في الجزائر وصولاً الى تفجير قوارير الغاز في محطات المترو في باريس ومناطق فرنسية اخرى. وعليه من الصعب اقناع الفرنسيين بالتمييز بين الاسلاميين المعتدلين والمسلحين المتطرفين الذين تُنسب اليهم كل اعمال العنف والاغتيال والذبح في الجزائر. الأشرار والاخيار في ضوء ذلك تغدو الأزمة الجزائرية واضحة المعالم في اذهان الفرنسيين العاديين. فمن جهة هناك الأشرار الارهابيون ومن جهة ثانية الدولة الجزائرية التي تحاربهم، وعليه يميل الرأي العام الفرنسي الى جانب الدولة بغض النظر عن كونها ديموقراطية او خاضعة لنظام ديكتاتوري، ويميل ايضاً الى مباركة حضور وعمل التيارات العلمانية والفرنكوفونية المناهضة للاسلاميين والتي تخاطب الفرنسيين بلغة يرغبون بسماعها. وتُسهّل حالة الرأي العام الفرنسي هذه، مهمة الحكومة الفرنسية في شن حملات متواصلة ضد الشبكات الاسلامية المناهضة للحكم الجزائري. ويبارك الرأي العام الاجراءات الاحتياطية التي تتخذها حكومته والتي تتراوح بين ابعاد الاسلاميين وتوقيفهم وسجنهم وملاحقاتهم عبر الحكومات الأوروبية المختلفة. وفي سياق مواز للتظاهرات المناهضة للتيار الاسلامي الجزائري المسلح، وفي موازاة الحملات الوقائية المتواصلة ضد الاسلاميين وشبكاتهم اللوجستية، توفّر فرنسا مظلة دولية للحكم الجزائري وتحول دون انطلاق مبادرات خارجية للتدخل في الازمة الجزائرية ويتهم الزعيم الجزائري حسين آيت احمد باريس بعرقلة المساعي الأوروبية او الاميركية الرامية الى ايجاد حل سياسي للأزمة الجزائرية. وتوفر الحكومة الفرنسية الشروط المناسبة التي تتيح حصول الجزائر على مساعدات اقتصادية اوروبية، وتحافظ برلين على تعاملها التجاري مع هذا البلد والذي يقدّر بپ14 مليار فرنك فرنسي سنوياً، ويتحرك لوبي فرنسي قوي لدعم الجزائر لدوافع عدة متصلة بالمصالح الاقتصادية وبمكافحة تيار اسلامي هو الى حد ما سليل التيار الذي كافح الاستعمار الفرنسي في الجزائر ويطالب بمكافحة الادارة الجزائرية ذات الغالبية الفرنكوفونية المناهضة للتعريب وللاندفاعة العربية التي شهدها هذا البلد خلال الاستقلال، وتكفي الاشارة الى ان جمعية الصداقة الفرنسية - الجزائرية هي اكبر جمعية من نوعها في هذا البلد وتضم حوالى 50 نائباً في البرلمان. ليست مواقف فرنسا المناهضة للتيار الأصولي الفرنسي مستجدة او مرتبطة بالعمليات الارهابية التي ضربت محطات مترو الانفاق، فقد بات معروفاً ان الحكومة الاشتراكية السابقة مارست في العام 1992 ضغوطاً على العسكريين الجزائريين وشجعتهم على الغاء نتائج الانتخابات النيابية في اواخر العام 1991 والتي جاءت بغالبية تابعة لپ"جبهة الانقاذ الاسلامية" ما يعني ان باريس كانت منذ بداية الصراع الجزائري - الجزائري تتدخل لمصلحة التيار العلماني - الفرنكوفوني الممتد في الادارة والجيش، وانها لم تكن محايدة في سياستها الجزائرية كما توحي بعض مواقف المسؤولين الفرنسيين المعلنة. وعلى رغم اهميتها الحاسمة بالنسبة الى المواجهة التي يخوضها النظام الجزائري ضد الجماعات المسلحة لا يرضخ هذا النظام، وبصورة خاصة الرئيس اليمين زروال، للضغوط الفرنسية ولا يعترف بضرورة ترجمة التحالف المشترك ضد ما يسمى "الارهاب" الجزائري، بخطوات داخلية وبتعيينات في اجهزة الدولة العليا تعزز مواقع التيار الفرنكوفوني، فمنذ تسلمه الحكم تخلص زروال من رئيس الوزراء العلماني رضا مالك ومن وزيره القوي سليم سعدي، واختار حكومة تكنوقراطية لا وزن للتيار الفرنكوفوني فيها وفي حين جمّد رضا مالك قانون تعريب الادارة، اعاد زروال العمل فيه اخيراً الامر الذي يهدد بصورة جدية مواقع الفرنكوفونيين والعلمانيين في ادارة البلاد، ناهيك عن ان القانون الانتخابي وتقييم الدوائر لا يتيح حضوراً مهماً للتيار المقرّب من فرنسا في المجلس النيابي المقبل، ما يوحي بأن الحكم الجزائري لا يرغب بمكافأة فرنسا على سياستها الجزائرية. ويلخص ديبلوماسي جزائري رؤية فريق في الادارة الجزائرية لمواقف فرنسا ودورها في الازمة الجزائرية بقوله ان باريس تدافع عن مصالحها في الازمة الجزائرية بقوله ان باريس تدافع عن مصالحها وان الجزائر غير متحالفة معها وان التعاون يخدم فرنسا اكثر مما يخدم الجزائر لانه يسمح للفرنسيين بمواجهة "الارهابيين" على اراضيهم بعدما اكتشفوا خطأ سياستهم السابقة المتسامحة مع الارهاب، ويرى الديبلوماسي نفسه ان "الارهابيين" يريدون تهديم نظام جزائري كان قادراً على تعبئة اكثر من مئة دولة في الاممالمتحدة ويحتل موقعاً اساسياً في الساحة الدولية، وان تهديم هذا النظام يخدم الفرنسيين كما يخدم غيرهم من "اعداء العرب". دعم مرفوض وتتضح حدود التأثير الفرنسي في النظام الجزائري وفي مواقفه من خلال "الازمة الصغيرة" التي ضربت علاقات البلدين اخيراً، فقد اكد وزير الخارجية الجزائري احمد عطاف ان بلاده لم تطلب دعماً فرنسيا ولا تحتاج الى مثل هذا الدعم، وانها ترفض التدخل الفرنسي في شؤونها، ولا تحتاج الى نصائح من احد، وحدد عطاف الأسس التي اعتبر انها تحكم العلاقات الفرنسية وهي "الاحترام المتبادل والتشاور في القضايا ذات الاهتمام المشترك". وكان عطاف يرد على دعوات صدرت عن شخصيات فرنسية وتحدثت عن المصالحة وعن اشراك الاسلاميين في الانتخابات واعتماد حلول سياسية للازمة، رداً بذلك بصورة خاصة على تقدير وزير الخارجية الفرنسي هيرفيه دوشاريت للازمة الجزائرية وانتقاده المخفف جداً للدولة الجزائرية. ولم يتأخر الرد الفرنسي على التحذير الجزائري، فقد اتصل هيرفيه دوشاريت في اليوم التالي بعطاف، واصدر بياناً يستعيد حرفياً الشروط الجزائرية المذكورة اعلاه ويوافق عليها، واعلن دوشاريت انه لا يعتقد بأن ايطاليا بصدد اعداد مبادرة حول الازمة الجزائرية، وهي مبادرة اعلنت عنها الخارجية الايطالية غداة انفجارات رمضان الدامية، ما يعني ان فرنسا ستتدخل مرة اخرى للحؤول دون صدور مبادرات خارجية متصلة بالازمة الجزائرية. ولا يشكل تراجع دوشاريت السريع عن انتقاداته البسيطة والهادئة للنظام الجزائري، دليلاً على قوة العلاقات الفرنسية - الجزائرية الرسمية، ولا يعبّر عن "تحالف مقدس" بين الطرفين، وهو يضاف الى ادلة سابقة ما برحت تتراكم، منذ الغاء الرئيس زروال لقاء نيويورك في العام 1995 مع الرئيس جاك شيراك، من طرف واحد، وتُعتبر هذه الخطوة الاولى من نوعها في العلاقات الدولية فلم "يجرؤ" حتى الآن رئيس دولة في العالم الثالث على الغاء قمة معلنة ومقررة مع رئيس دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الامن، وفي السياق نفسه ما برحت الجزائر تصرّ على تجميد وتحجيم علاقاتها الرسمية مع فرنسا بسبب مواقف اعتبرتها مضرّة بالسيادة الجزائرية، من نوع عدم استئناف رحلات الخطوط الجوية الفرنسية بين فرنساوالجزائر، ونقل رحلات الخطوط الجوية الجزائرية من مطار اورلي الى مطار رواسي لاسباب امنية، وعدم توقيع البروتوكول المالي بين البلدين بسبب اصرار الجزائر على ان يتم التوقيع في العاصمة الجزائرية وليس في فرنسا… الخ. ويتضح مما سبق ان سياسة فرنساالجزائرية ستظلّ محكومة بالسقف الذي يحدده الحكم الجزائري، وانها لا تتضمن هامشاً كبيراً للمناورة وبالتالي محكومة برهانات العسكريين على حل الازمة بوسائل امنية، والراجح ان هذه الرهانات لا تتعارض كثيراً مع تصور الحكومة الفرنسية لمستقبل الجزائر الذي تأمل ان يكون بلا اصوليين، وبلا "جبهة الانقاذ الاسلامية" التي رفض رئيس الوزراء آلان جوبيه مشاركتها في الانتخابات النيابية المقبلة. ويعتبر خبراء فرنسيون في شؤون شمال افريقيا ان سياسة فرنسا الخارجية تنطوي على مخاطر كبيرة بسبب اهمالها لعنصر الوقت الذي لا يلعب لمصلحة العسكريين الجزائريين، وهذا ما اثبتته سنوات الازمة السابقة التي برهنت ان الحل الامني للازمة الجزائرية هو السبيل المضمون لاستمرار الحرب ولتوسيع اطارها واضافة لاعبين جدد اليها، خصوصاً ان "عمر الازمة" المنصرم ادى الى سقوط مئة الف ضحية لم يذبحهم كلهم اعضاء الجماعة الاسلامية المسلحة الغامضون. وتنطوي سياسة باريس حيال الجزائر على خطر خروج الازمة عن السيطرة الفرنسية - الاوروبية كما حصل بالنسبة الى الازمة البوسنية، حيث انهارت السياسة الفرنسية بعدما طالت الحرب وضاعت فرص الحل الفرنسي والاوروبي، ما سهّل تدخل الولاياتالمتحدة وبالتالي تسوية الازمة عبر اتفاقات دايتون. والراجح ان توجه جماعة "نداء السلم" الى الولاياتالمتحدة للتدخل في الجزائر، هو مؤشر لا يخطئ على المسار الذي يمكن ان تسلكه الازمة الجزائرية اذا ما ثبت مرة اخرى ان الحل الامني لم يعد ممكناً بعد سقوط ذلك العدد الكبير من الضحايا، وان الحل السياسي هو الوحيد الكفيل بوضع حدٍ لآلام الجزائريين. ان المفارقة المدهشة في السياسة الفرنسية حيال الجزائر تكمن في خوف باريس المزدوج من انتشار الظاهرة الاصولية في المغرب العربي وفي اوروبا من جهة واضطرارها من جهة ثانية لوضع "البيض الفرنسي" كله في سلة العسكريين الجزائريين، وبالتالي المشاركة في حربهم وفق شروطهم وتقديراتهم الامر الذي يجرّد هذه السياسة من وسائلها الفرنسية المستقلة. واذا كان من السهل تقدير صلابة العسكريين الجزائريين وعدم اعتمادهم التسويات وتفضيلهم الحكم بالاجراءات العسكرية، فان من الصعب فهم الاصرار الفرنسي على السير في خطى هؤلاء العسكريين، الا اذا كانت الحكومة الفرنسية تعتقد، على غرار اندريه غلوكسمان ان عسكريي الجزائر يخوضون حرباً ضد الاصوليين، عالمية الابعاد والنتائج، وفي هذه الحال يمكن لسياسة فرنسا الخارجية ان تمهد الطريق امام حل اميركي للازمة الجزائرية، كما مهّدت سياستها السابقة لحلّ اميركي للازمة البوسنية