بعد مضي حوالي العام على تسلمه الحكم لايزال الرئيس جاك شيراك يوحي لبعض الفرنسيين والعرب بأن بلاده عازمة على انتهاج سياسة عربية جديدة. ويذهب مؤيدو الرئيس الديغولي من الفريقين، الى أبعد من ذلك عندما يؤكدون ان "انقلاباً" حقيقياً في علاقات فرنسا العربية سيطيح التصور "الاشتراكي" السابق عن هذه العلاقات الذي عبر عنه وزير الخارجية السابق رولان دوما بقوله ان سياسة فرنسا العربية "مجرد اوهام". لا توجد سياسة عربية لفرنسا، وانما سياسة فرنسية تجاه هذا البلد العربي أو ذاك. واذا كان من الصعب، حتى الآن على الأقل، تلمس التغيير الموعود في سياسة فرنسا الخارجية تجاه العالم العربي، فانه من السهل ملاحظة بعض المواقف الفرنسية الجديدة تجاه هذه الدولة العربية أو تلك، وهي مواقف لا تخرج على التقاليد المعروفة التي تنظم العلاقات بين باريس والعواصم العربية سواء في عهد جيسكار ديستان أو في عهد فرانسوا ميتران أو حتى جاك شيراك، فالجميع ينطلق من الأسس التي وضعها الجنرال ديغول لسياسة بلاده الخارجية، ويعمل على تطويرها أو ادخال تعديلات طفيفة عليها، وهذا أمر يحظى بأجماع داخل فرنسا ولا يختلف عليه خبراء السياسة الخارجية في هذا البلد. ويتساءل مصدر فرنسي مسؤول التقته "الوسط" عن السبب الذي أدى الى اشاعة اجواء ترقب في العالم العربي حول تغييرات كبيرة في سياسة بلاده الخارجية، ويعترف ان العرب ربطوا بين وصول شيراك الى الحكم وبين "تغييرات كبيرة" في السياسة العربية لفرنسا، ويفسر ذلك بقوله ان العالم العربي لايزال يشده حنين ما الى السياسة الديغولية، وان انتخاب رئيس ديغولي عزز هذا الحنين وأشاع رهانات حول تغيير جذري في السياسة الخارجية لبلاده. والراهن، يقول المصدر نفسه، ان التغيير الذي تم منذ حوالي العام والذي سيتم، لن يخرج عن الخطوط الكبرى لسياسة فرنسا الخارجية، وبعبارة اخرى سيكون تغييراً ضمن هذه السياسة وليس انقلاباً داخلها أو عليها. ويؤكد مصدر آخر ان مصالح فرنسا العليا هي التي تُبرر تغير سياستها الخارجية أو مواصلة هذه السياسة، وبما ان هذه المصالح لم يطرأ عليها تعديل جذري في العالم العربي، فمن غير المنطقي الحديث عن سياسة خارجية مخالفة. في ضوء ذلك يبدو من السهل الحكم على سياسة شيراك تجاه الدول العربية، خصوصاً المغاربية منها، فقد اعطى الرئيس الفرنسي الأولوية في زياراته العربية للرباط ومن ثم تونس، وفشل لقاء كان مقرراً ان يجمعه مع الرئيس الجزائري اليمين زروال في نيويورك في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بعد ذلك تناوب مسؤولون فرنسيون على زيارة المغرب الأقصى وتونس، في حين يتردد الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيدي أحمد الطايع على باريس بصورة شبه دورية وبعيداً عن الاضواء، وتبقى ليبيا حالة خاصة بالنسبة الى فرنسا، فالعلاقات معها محكومة بالقرارات الدولية وبقضيتي "لوكربي" و"يوتا". ارتياب الجزائر ولا يعني التركيز الفرنسي على الرباطوتونس، ومحاولة باريس تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع هذين البلدين مقاطعة الجزائر، بنظر مصادر رسمية فرنسية، لكن ذلك لا يكفي لعدم اثارة حفيظة الجزائر التي تحتفظ باسباب كثيرة للارتياب من السياسة الفرنسية، لا سيما بعد التدهور الذي طرأ على علاقات البلدين اثر فشل اللقاء بين شيراك وزروال في نيويورك على هامش اعمال الدورة الخمسين للجمعية العامة للامم المتحدة. وتعتقد مصادر مغاربية في باريس بأن الارتياب الجزائري من السياسة الفرنسية في شمال افريقيا، يُفسر سبب اندفاع الجزائر اخيراً الى احياء تكتل كان يضمها الى تونسوموريتانيا قبل الاعلان عن ولادة "اتحاد دول المغرب العربي" في العام 1988. وترى هذه المصادر ان التحرك الجزائري باتجاه نواكشوطوتونس يرمي الى استباق المساعي الفرنسية لانشاء جسر يربط بين تونس والمغرب الأقصى يكون بمثابة "عبارة" للسياسة الفرنسية في شمال افريقيا، ناهيك عن ان التحرك نفسه يبرهن على عودة الروح الى السياسة الخارجية الجزائرية المنحسرة منذ العام 1992 بسبب الحرب الأهلية. ولعل ما يزيد المخاوف الجزائرية ان باريس تدعم سياسة الأممالمتحدة في أزمة الصحراء الغربية وتؤكد انها "تثق تماماً بمساعي الأمين العام" لحل هذه الأزمة، على حد تعبير مصدر رسمي التقته "الوسط". وذهب هذا المصدر الى أبعد من ذلك عندما أكد ان بلاده مستعدة للمساهمة "في حل هذه المشكلة اذا طلبت منا ذلك الأممالمتحدة والاطراف المعنية بالصراع"، مضيفاً ان "حل هذه القضية يتناسب تماماً مع مصالحنا الرامية الى إشاعة الأمن والاستقرار في المغرب العربي". لكن الجزائر لا تنظر الى الصحراء بالعين نفسها، فهي عبرت مراراً عن امتعاضها من مواقف ال "مينورسو" في القضية الصحراوية، ويصل السيد محمد اسماعيل ممثل جبهة "البوليساريو" في باريس الى حد اتهام الاممالمتحدة بالعمل "بموجب أوامر مغربية" ويأخذ عليها "التلكؤ" في حمل الرباط على اجراء حوار مع الصحراويين، وهنا لا نحتاج الى التأكيد ان بوليساريو هي الأبن الشرعي للجزائر في كل العهود. جالية جزائرية ضخمة ويواجه الفرنسيون مخاوف الجزائر وتحركها في شمال افريقيا بالكثير من الحذر وبتجنب الاثارة، ويؤكدون انهم يرغبون في قيام "أفضل العلاقات" مع هذا البلد، فإذا كان صحيحاً ان المصالح الفرنسية تميل باتجاه تونسوالرباط فالصحيح ايضاً ان قلب فرنسا يخفق دائماً نحو الجزائر بسبب العلاقات التاريخية بين البلدين، ويرتجف بسبب الحرب الدائرة في هذا البلد حيث "تفصلنا عن الجزائر ساعة بالطائرة من مارسيليا" على حد تعبير مسؤول فرنسي، و"لأن عدداً كبيراً من الفرنسيين اصلهم جزائري أو ولدوا في الجزائر ويتألمون للاحداث التي تشهدها" ناهيك عن وجود جالية جزائرية مهاجرة ضخمة في فرنسا تتأثر بالصراع الجزائري - الجزائري، ما يوجب على الأقل ضرورة ترتيب العلاقات بين البلدين على اسس توفر الهدوء والطمأنينة للطرفين اذا ما تبين ان ادخال الجزائر في سياسة فرنسا المغاربية متعذر، فهل يمكن بلوغ هذا الغرض؟ وهل تتوصل باريس الى الجمع بين النافع والمفيد في علاقتها مع تونسوالرباط من جهة والجزائر من جهة اخرى؟ قاعدة خلفية يرد مسؤول فرنسي على هذا السؤال بقوله ان حكومة بلاده تسمع هذه الأيام كلاماً ايجابياً من الجزائر، خصوصاً بعد زيارة رئيس الجمعية الوطنية البرلمان فيليب سيغان الى العاصمة الجزائرية ولقائه الرئيس زروال وعدداً من كبار المسؤولين، هذا اللقاء الذي مهد للقاء آخر في باريس بين وزيري خارجية البلدين أحمد عطاف وهيرفيه دوشاريت. ويرى المسؤول نفسه ان الجزائريين "يعبرون لنا عن ارادتهم القوية واستعدادهم التام لتطوير العلاقات بين البلدين ونحن نبادلهم بالمثل وهذا التعبير المشترك يتكرر في كل اللقاءات الرسمية بيننا". ويلخص هذا المصدر الوثيق الاطلاع على العلاقات الفرنسية - الجزائرية سياسة بلاده تجاه الجزائر بالخطوط الآتية: 1- تتمنى فرنسا قيام أفضل ما يمكن من العلاقات مع الجزائر. 2- المشاكل التي تدور في هذا البلد تخص الجزائريين وحدهم ولا تنخرط فيها باريس التي تتمنى ان يستعيد الجزائريون استقرارهم. 3- لا تساعد فرنسا الاستئصاليين ولا تزود الجزائر بالسلاح ولا تتدخل في الشؤون الجزائرية الداخلية. 4- تساعد فرنساالجزائر اقتصادياً لكن هذه المساعدة موجهة الى كل الجزائريين وليس الى فئة من دون أخرى. 5- فرنسا مهتمة بحقوق الانسان في كل انحاء العالم ويعرف الجزائريون ذلك. 6- ليس لدى فرنسا اتصالات مع "الجبهة الاسلامية للانقاذ" وبات "من الصعب علينا اصدار حكم عن نيات الجبهة بسبب تصريحات قياداتها المتناقضة. فأنور هدام يدلي اليوم بتصريح ويناقضه رابح كبير بتصريح آخر في اليوم التالي". 7- تتمنى فرنسا ن تُستتبع الانتخابات الرئاسية بانتخابات برلمانية. 8- لا تخوض فرنسا حرباً ضد الاصولية وانما ضد الأرهاب "فهناك جمعيات اسلامية وحركات سياسية تتبنى افكاراً اصولية ولا نرسل اعضاءها الى السجن. نحن لا نريد ان يكون بلدنا قاعدة خلفية للارهاب والارهابيين". 9- يمكن ان يتم لقاء بين زروال وشيراك لكن لابد من المرور بمراحل قبل تحقيق اللقاء. لذا تجري لقاءات بين الموظفين من البلدين، وقد أعلن الوزير دوشاريت عن نيته زيارة الجزائر. استؤنفت الرحلات البحرية بين البلدين، أما استئناف رحلاتنا الجوية الى الجزائر فينتظر نتيجة المحادثات التي ستجريها وزيرة النقل في العاصمة الجزائرية. يتضح مما تقدم ان السياسة الفرنسية تجاه الجزائر تقوم على معالجة مشاكل قائمة وتتطلب حلاً، في حين ان علاقة فرنسا بكل من المغرب وتونس تتركز على تطوير التعاون وتوثيق الروابط القائمة. يساعد في ذلك ان الرئيس شيراك يحتفظ بعلاقات شخصية مع الملك الحسن الثاني منذ زمن بعيد وساعدت هذه العلاقات على اذابة الجليد الذي كان قائماً بين الرباطوباريس بسبب العلاقات السيئة بين العاهل المغربي والرئيس الراحل فرانسوا ميتران خصوصاً بعد قمة "لابول" الفرنسية - الافريقية التي انتهت بما يشبه القطيعة بين الرجلين بسبب موقف ميتران في القمة وفرضه شروطاً ديموقراطية على المساعدات الفرنسية الخارجية ورفض الحسن الثاني "تلقي دروس من أحد في الديموقراطية". مخدرات وتخصيص وتولي فرنسا عناية كبيرة لمشاريع التخصيص في المغرب وتشجع الشركات الفرنسية على تكثيف حضورها في هذا البلد، وتثني على حملة مكافحة المخدرات، وتدعم الرباط في دخول السوق الاوروبية المشتركة، ولا تعترض على نقل بعض نشاطات الشركات الفرنسية الى المغرب وتونس بسبب رخص اليد العاملة والتسهيلات الضريبية. في السياق نفسه تعمل باريس على توثيق علاقاتها بتونس، اذ قامت البحرية الفرنسية باجراء مناورات مشتركة مع البحرية التونسية مرتين خلال أقل من شهرين وتتطلع الى احياء النشاط الثقافي الفرانكوفوني في الرباطوتونس وتثني على الجهود التونسية في اطار مكافحة التيار الاصولي أو الارهاب حسب التعبير الفرنسي. وتمتنع باريس عن قياس علاقاتها مع هذين البلدين بمدى احترام حقوق الانسان، بدليل ان احداً لم يرتجف في الاليزيه وماتينون لدى اعتقال المعارض التونسي محمد مواعدة غداة زيارة شيراك لهذا البلد، وتمتنع فرنسا عن المطالبة باسترداد شقيق الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي صدر عليه حكم غيابي بالسجن عشر سنوات في فرنسا بسبب تورطه في عمليات تغسيل أموال المخدرات. أما موريتانيا فهي "حالة خاصة بالنسبة الينا" على حد تعبير مصدر فرنسي مسؤول. اذ ان العلاقات مع هذا البلد "تدار من خلال وزارة التعاون" وليس من خلال وزارة الخارجية، فالأولى هي التي تشرف على العلاقات مع دول افريقية وثيقة الارتباط بفرنسا، وتتلقى حكوماتها مساعدات فرنسية حيوية، ما يعني ان الحديث عن علاقات فرنسية - موريتانية جيدة هو أقل بكثير من واقع الحال بين البلدين، وبالتالي لا تخضع هذه العلاقات لمؤثرات من نوع تغيّر عهد ومجيء عهد آخر الى الحكم في فرنسا. استبعاد ليبيا وتبقى الجماهيرية الليبية حالها شاذة في سياسة فرنسا المغاربية، فهي مازالت تخضع للحظر الدولي والعلاقات معها محكومة بالقرارات الصادرة عن الاممالمتحدة ومازالت فرنسا تحترم هذه القرارات كما كانت تحترمها في العهد الاشتراكي، مع فارق بسيط هو ان الادارة الجديدة لا تبدي حماسة لأثارة الملف الليبي بالرغم من تكرار التصريحات الليبية التي تتحدث عن تعاون مع القضاء الفرنسي في ما يتعلق بقضية تفجير طائرة ال "يوتا" فوق صحراء النيجر العام 1989، واتهام القاضي الفرنسي جان لوي بروغيير اشخاصاً ليبيين بالمسؤولية عن هذا الحادث. وفي كل الحالات لا تشكل ليبيا عقبة في طريق السياسة الفرنسية المغاربية، بدليل ان باريس تمكنت من استبعاد هذا البلد من قمة برشلونة المتوسطية بالرغم من كونه بلداً متوسطياً، وفرضت حضور موريتانيا بالرغم من كونها دولة أطلسية ولا تقع على حوض البحر الأبيض المتوسط. قصارى القول ان سياسة فرنسا المغاربية في عهد الرئيس جاك شيراك هي استمرار للسياسة السابقة التي كان ينتهجها الحكم الاشتراكي مع تعديلات طفيفة، وهي سياسة قلبها يخفق نحو الجزائر، ومصالحها الاساسية في المغرب وتونس، وموريتانيا في جيبها وليبيا محاصرة. واذا كان لهذه السياسة ابعادها الأوروبية والمتوسطية فان باريس لن تعدم الوسائل التي تتيح ادخال المغرب الكبير في استراتيجيتها، خصوصاً ان الممانعة الجزائرية ضعفت كثيراً بسبب الحرب والاكلاف الاقتصادية الباهظة التي نجمت عنها.