سجّل الموقف الفرنسي من الأزمة الجزائرية تحولاً كبيراً عندما أعلن الرئيس فرنسوا ميتران عن أمله بعقد مؤتمر أوروبي لحل الأزمة الجزائرية استناداً إلى وثيقة روما التي وقعتها أحزاب المعارضة في مقر جمعية سانت ايجيديو الكاثوليكية الايطالية. وكانت ملامح هذا التغير قد بدأت تظهر تدريجياً إثر حادث خطف الطائرة الفرنسية إيرباص من مطار الجزائر في أواخر ديسمبر كانون الأول الماضي حين وضع وزير الخارجية آلان جوبيه عنف السلطة جنباً إلى جنب مع "ارهاب الأصوليين". ثم تطور هذا الموقف في تصريحات جوبيه الأخيرة خلال زيارته لواشنطن على رأس وفد من الاتحاد الأوروبي حين أكد على ضرورة اجراء حوار داخلي بالاستناد إلى مقررات لقاء روما. وعاد وزير الخارجية نفسه ليؤكد بعد زيارة روبيرت بلليترو للعاصمة الفرنسية الاسبوع ما قبل الأخير ان لا حل للأزمة الجزائرية إلا بالحوار وهو ما أكدت عليه ندوة روما، وقد توّج ذلك كله باقتراح ميتران المذكور الذي يعني ايجاد صيغة عملية للحوار المرتجى وبالتالي تكريس التحول في نظرة باريس إلى الأزمة الجزائرية. لم يقتصر هذا التحول على المواقف اللفظية فقد تردد بقوة ان فرنسا اوقفت إمداد الحكومة الجزائرية بمعدات عسكرية للقتال الليلي، ناهيك عن استمرار تجميد المواصلات الجوية بين البلدين، في حين ان الحكم الجزائري ظل يستفيد خلال أشهر طويلة من دعم فرنسي اقتصادي وعسكري وسياسي ساهم في توجيه ضربات موجعة إلى الاصوليين خلال فصل الخريف الماضي. ويذكر في هذا المجال ان آلان جوبيه كان قبل حادث خطف الطائرة يدلي بتصريحات تعبّر عن سياسة بلاده الخارجية القاضية بتشجيع قطب ديموقراطي جزائري نواته الصلبة التيار البربري الذي يقوده الدكتور سعيد سعدي وهذا التيار كان ولا يزال يضع سقفاً عالياً لحل الأزمة الجزائرية من خلال تصفية الاصوليين، هذه التصفية يتولاها الجنرال محمد لعماري رجل النظام القوي ورئيس اركان القوات المسلحة. وعلى رغم الحديث عن خلافات داخل الحكم الفرنسي بين الرئيس ميتران ووزير خارجيته آلان جوبيه ووزير داخليته شارل باسكوا، فإن ذلك لا يؤثر على التحول الجوهري في سياسة فرنسا تجاه الأزمة الجزائرية وذلك لأسباب أساسية من بينها: 1 - ان رئيس الجمهورية هو الذي يحدد الخطوط العامة لسياسة بلاده الخارجية، لأن هذه السياسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باحتمال استخدام القوات المسلحة في الأزمات. وبما ان رئيس الجمهورية هو القائد العام لهذه القوات بحسب الدستور، فإن دوره في تحديد السياسة الخارجية حاسم، ولا يؤثر على هذا الدور كون الرئيس اشتراكياً وحكومته يمينية. ولعل هذا الأمر من الثوابت المعمول بها خلال عهد الجمهورية الخامسة ويصح على كل الرؤساء الذين تعاقبوا على قصر الاليزيه منذ العام 1958، ما يعني ان اقتراح ميتران بعقد مؤتمر أوروبي حول الجزائر ملزم لحكومة بلاده شكلاً ومضموناً. 2 - ان الحديث عن خلاف بين ميتران وجوبيه انحصر في الجانب الاجرائي حيث صرحت مصادر الخارجية ان الوزير لم يكن على علم مسبق بالمبادرة. ولم تنف هذه المصادر شرعية المبادرة كما لم ينف جوبيه شرعيتها، بلا بل أكد عليها في تصريحات علنية في بروكسيل 5 و6 شباط - فبراير الجاري. باسكوا المتصلب 3 - يتسع الخلاف ظاهراً على الأقل بين وزير الداخلية شارل باسكوا وبين وزير الخارجية آلان جوبيه حول وسائل معالجة الأزمة الجزائرية، ويتسع الخلاف أكثر بين باسكوا والرئيس ميتران. فمن جهة يبدي باسكوا مواقف متصلبة من الاسلاميين المسلحين في الجزائر ويتخذ اجراءات امنية وقائية تجاه شبكات الدعم الموالية لهم داخل الاراضي الفرنسية، ويجري اتصالات مع وزراء داخلية المغرب العربي وينسق معهم من أجل مكافحة الارهاب في أوروبا وتبادل المعلومات في هذا الصدد. ويعمل باسكوا على حث الحكومات الأوروبية ولا سيما الحكومة الالمانية على التعاون الأمني في مواجهة شبكات الاصوليين في اوروبا وينفذ اجراءات اتخذتها الخارجية الفرنسية وتقضي بالحد من تسرب الجزائريين وطالبي اللجوء السياسي الى باريس. لا يقوم باسكوا بذلك منفرداً ولا ينفذ هذه السياسة "على حسابه" فهي سياسة حكومية تمت وتتم بموافقة ادوار بالادور وبمباركة الرئيس ميتران. وبخلاف الاعتقاد السائد لا تؤثر هذه السياسة على الموقف الفرنسي من الأزمة الجزائرية وانما تكمله من طرف آخر. فإقفال الحدود مع الجزائر نسبياً يمكن ان يحول دون تدفق آلاف الجزائريين الى فرنسا الآن بسبب الضيق الاقتصادي والحرب، وعشرات الآلاف في حالة تسلم الاسلاميين السلطة وهذا ما لا يرغب فيه أي من الاطراف السياسية في فرنسا يميناً ويساراً على حدٍ سواء. ولعل التشدد الذي يبديه باسكوا تجاه مؤيدي الاسلاميين يفيد الحكومة الجزائرية لأنه يقيد تحركات خصومها نسبياً ويتيح للتيارات العلمانية الجزائرية حرية الحركة اكثر في فرنسا، لكن ذلك يصل الى حد التضييق على أحد أهم رموز الجبهة الاسلامية للانقاذ في أوروبا الشيخ عبدالباقي صحراوي نائب عباسي مدني وأحد مؤسسي الجبهة الذي يدلي بتصريحات ويجري اتصالات لصالح الاسلاميين انطلاقاً من الاراضي الفرنسية. خلاصة القول ان شارل باسكوا ينفذ السياسة الداخلية الافضل لمصالح بلاده أي تحقيق اعلى درجات الوقاية من المخاطر ومن ردود الفعل الاسلامية المسلحة وهو لا يثير بالعمق اي خلافٍ مع أي من المسؤولين الفرنسيين البارزين، خصوصاً ان مسائل التأشيرات واللجوء السياسي هي من اختصاص وزارة الخارجية وتنفذ وزارة الداخلية اجراءات الخارجية في هذا الصدد. لكن لشارل باسكوا اسلوباً استفزازياً وتحريفياً في التعبير عن سياسته، هذا الاسلوب هو الذي يثير التكهنات عن خلافات وتيارات ومراكز قوى داخل الحكم. ولعل التدقيق في بعض تصريحات وزير الداخلية يحمل فائدة في هذا المجال. في حلقة متلفزة بثتها القناة الثانية الفرنسية برر باسكوا سياسة بلاده في تقنين دخول الجزائريين المهددين بالموت الى باريس بقوله: "... عندما جاء الالمان الى بلادي لم أهرب وانما قاتلتهم. لذا يجب ان لا تُخلى الجزائر من مقاومي" الارهاب. لا يملي هذا الكلام سياسة خارجية فرنسية مختلفة عن السياسة المعتمدة ولا يوجب دعم الحركات السياسية المناهضة للإسلاميين، كما انه ليس تعبيراً عن الساسية الخارجية الرسمية وهو بهذا المعنى على خلاف معها لكنه خلاف ظاهري وليس جوهرياً. فباسكوا لم يكن يوماً من دعاة انخراط بلاده في الحرب الجزائرية ولم يكن يوماً من دعاة نقل هذه الحرب الى داخل الاراضي الفرنسية، احسن من ذلك، فقد عارض باسكوا انتقال الطائرة الفرنسية المخطوفة الى مطار مارسيليا في وقت كان وزير الخارجية آلان جوبيه يلح الحاحاً شديداً على هذه الخطوة. تكامل الموقف بهذا المعنى يمكن القول ان تكاملاً حقيقياً يسود الموقف الفرنسي من الأزمة الجزائرية على الصعيدين الداخلي والخارجي وان التحول الاخير في الموقف الفرنسي هو تحول جوهري اما الخلافات الشكلية فهي تعود لاجواء حملة الانتخابات الرئاسية التي قضت بأن يكون شارل باسكوا من مؤيدي ادوار بالادور، وآلان جوبيه من مؤيدي جاك شيراك. والراهن ان تنافس "الصديقين" بالادور وشيراك يجرّ معه تنافس مؤيديهما وينعكس في وسائل التعبير عن مواقف داخلية وخارجية لكن ذلك لا يتعدى أساس المصالح الفرنسية وبالتالي السياسة المتبعة للحفاظ على هذه المصالح. قصارى القول ان شارل باسكوا يقود سياسة داخلية في مواجهة المد الاصولي داخل الاراضي الفرنسية وآلان جوبيه يقود سياسة خارجية محكومة بهذا الامر لكنها تفيض عن الهم الداخلي لتصل الى مصالح فرنسا الخارجية في جنوب المتوسط. ولم يصل الطرفان خلال السنوات الماضية من عمر الأزمة الجزائرية الى التجابه السياسي. والراجح انهما كانا يفتقدان الى نوع من الانسجام في العمل المشترك لا يساعد على توفيره انتماؤهما الى فريق سياسي واحد داخل الحركة الديغولية ناهيك عن طموح الرجلين الى تولي قيادة هذه الحركة بعد الانتخابات الرئاسية. ثمن التوقيت سقط التحول في الموقف الفرنسي من الازمة الجزائرية في وقت تبذل فيه السلطة الجزائرية مساعي حثيثة من اجل تطويق ردود الفعل الايجابية التي انتشرت في الداخل والخارج بعد الاعلان عن "وثيقة روما". فالحكم الجزائري كان يقوم بحملة تعبوية ضد الوثيقة من خلال تظاهرات شعبية واعلامية وبالتالي الدعوة الى انتخابات رئاسية كمخرج من الأزمة. بموازاة ذلك كانت الحملة العسكرية ضد الاسلاميين المسلحين مستمرة وتحقق تقدماً على الارض في عدد من المناطق مما يعني ان السلطة ترغب في تثمير هذه الحملة سياسياً من خلال الانتخابات الرئاسية التي اختير توقيتها بحيث يأتي مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية اي في وقت لا تكون فيه فرنسا قد حددت بعد تماماً ملامح سياستها الخارجية مع الرئيس المنتخب. وتفيد انباء عديدة ومتداولة على نطاق واسع في فرنسا ان الدولة الجزائرية كانت قد حصلت على الضوء الاخضر من فرنسا كي تنجز تصفية الجماعات الاسلامية المسلحة خلال ثلاثة أشهر يتم بعدها انتخاب رئيس جديد انطلاقاً من معطى سياسي جديد يخلو من مركز ثقل سياسي اسلامي جدي ويتيح بالتالي جدولة انتخابات نيابية وبلدية. وبذلك يصبح الحكم مؤسساً على شرعية جديدة ثابتة وليس مؤقتة كما هي الحال اليوم. لكن حملة تصفية الجماعات المسلحة اثارت ضجيجاً كبيراً في العالم لجهة الانتهاكات التي كانت ترافقها حيث جرى الحديث عن قتل منهجي مورس ضد المعنيين بالأمر واقاربهم وأحياناً جيرانهم.. ومن جهة ثانية بدا ان الانتصارات النسبية التي احرزتها الدولة غير كفيلة بوضع حد للارهاب الامر الذي افصحت عنه بوضوح عملية خطف الطائرة الفرنسية في كانون الأول ديسمبر الماضي. فهل أدى ذلك الى حدوث تحولٍ في الموقف الفرنسي؟ اذا كان من الصعب ايجاد جواب حاسم على هذا السؤال فإن تواتر الاحداث وتزامن التطورات يذهب في اتجاه السؤال المطروح ولعل رد الفعل الجزائري الرسمي على مبادرة الرئيس ميتران وبالتالي تدشين ازمة مفتوحة بين البلدين هو تعبيرٌ ربما عن تراجع فرنسي عن تغطية المساعي الجزائرية المشار اليها بشقيها العسكري والسياسي. والسؤال البديهي الذي يطرح الآن هو هل تستمر الأزمة بين البلدين ام يتراجع احدهما عن سياسته تمهيداً لتسوية الأمور باتجاه يرضي الطرفين؟ تفاهم غربي تبدو فرص التراجع الفرنسي والعودة بالتالي الى الموقف السابق المؤيد الى هذا الحد أو ذاك، لسياسة الدولة الجزائرية، تبدو هذه الفرص ضعيفة اذا ما انطلقنا من المعطيات السياسية الراهنة. فمبادرة الرئيس مياران ليست عفوية او ظرفية، وإنما تستند الى تفاهم مشترك بين الولاياتالمتحدةوفرنسا وألمانيا وتلتقي مع توجهات فرنسية معلنة حيث ترغب باريس خلال رئاستها للاتحاد الأوروبي التي تنتهي في حزيران يونيو المقبل، في توسيع اهتمام الاتحاد بشمال افريقيا للموازنة مع اهتمامه بأوروبا الشرقية وذلك من اجل تحقيق اهداف متعددة من بينها مقابلة النفوذ الألماني في أوروبا الشرقية بالنفوذ الفرنسي جنوب حوض البحر المتوسط. وبديهي أن يصطدم هذا التوجه الفرنسي بالازمة الجزائرية التي باتت تفيض كثيراً عن الجزائر وتهدد بنقل الحرب الجزائرية الى أوروبا. وبديهي ايضاً ان يصغي الفرنسيون اكثر من قبل للمخاوف الألمانية والاميركية وأن يحدثوا تحولاً في سياساتهم الجزائرية. ان التراجع الفرنسي والعودة الى السياسة السابقة يفترض ان تراجعاً أوروبياً وبالتالي خلافاً جديداً مع الولاياتالمتحدة حول طرق ووسائل معالجة الازمة الجزائرية، لا يُسهّل حل هذه الازمة بل يوسّع اطارها كما ثبت خلال الفترة الماضية. وفي كل الحالات لا يمكن البحث في تراجع ما اثناء الشهور الثلاثة المتبقية من عمر ولاية فرنسوا ميتران الثانية في قصر الاليزيه. بالمقابل يبدو التراجع الجزائري اكثر خطورة. فالحكم الذي يحتاج الى فرنسا في مفاوضته الاقتصادية المتعلقة بجدولة ديونه الاوروبية، كان يرغب على الدوام في ان يكون سيد الموقف على الأرض ودون شراكة فرنسية بمعنى انه يريد مساعدة فرنسا لتمويل خطته السياسية دون ان يكون لها دور سياسي ورأي سياسي مستقلان في الازمة، وتالياً عدم الاذعان والخضوع لهذا الرأي. ولعل المرة الأولى التي تعبّر فيها فرنسا عن نظرة مستقلة عن نظرة الحكم الجزائري الى الازمة تمثلت في مبادرة الرئيس ميتران. ان الحكم الجزائري الذي يحتاج الى مساعدة فرنسا لتمويل خطته السياسية وللحفاظ على تماسك الفريق الحاكم يراهن على رفض مبادرة ميتران وعلى استمرار المساعدات الفرنسية في الآن معاً مدركاً ان باريس لن تعمد الى قطع المساعدة عنه خوفاً من "حدوث خراب كبير وفوضى كبيرة" في البلاد تتعدى الجزائر الى منطقة المغرب ومنها الى أوروبا وفقاً لتحذيرات فرنسية متكررة كانت وما زالت باريس تطلقها في مواجهة ضغوط اميركية لاستخدام هذه الورقة في العلاقات الفرنسية - الجزائرية. في السياق نفسه يمكن للحكم الجزائري ان يراهن أيضاً على تغيير جذري في سياسة فرنسا الخارجية يأتي معه شارل باسكوا رئيساً للوزراء اذا ما فاز ادوار بالادور في الانتخابات الرئاسية المقبلة. يسمح ما سبق بالقول ان الازمة الجزائرية باتت شبيهة بالازمة اللبنانية خلال الحرب. فهي تحولت شاء لاعبوها أم أبوا الى الساحة الدولية عموماً والساحة الفرنسية الأوروبية خصوصاً. وهي بهذا المعنى باتت معلقة في مرحلتها الراهنة بنتائج الانتخابات الفرنسية، وقد تصبح غداً معلقة على تطورات اخرى خارجية ما لم يقرر الجزائريون الجلوس حول طاولة مفاوضات وتقديم تنازلات لبعضهم البعض بدلاً من تقديمها للخارج.