الحديث عن الجانب المظلم من رئاسة جون كينيدي وما انطوى عليه من مؤامرات لاغتيال الزعماء الأجانب، واتصالات مع عصابات الجريمة المنظمة، وعلاقة مع بائعات الهوى، وفساد واسع النطاق، وافتراءات وكذب، ليس جديداً. لكن الجديد أن سيمور هيرش، وهو من أشهر الصحافيين الأميركيين وألمعهم في ميدان التحقيقات الصحافية، عاد الى الحديث عن ذلك الجانب المظلم في كتاب جديد مثير للجدل. يستهل هيرش كتابه الجديد "الجانب المظلم للفارس كاميلوت" بفصل عن اغتيال كينيدي في دالاس في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1963، ثم يعود فيتناول الماضي المليء بالمكائد بداية بالجهود الناجحة التي بذلها شقيق الرئيس روبرت كينيدي ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي ماك جورج باندي لاخفاء الملفات والوثائق والتسجيلات الخاصة بالرئيس من البيت الأبيض قبل أن تؤول الرئاسة الى ليندون جونسون. من أهم النقاط التي يوردها هيرش في كتابه: بعد انتخاب كينيدي عضواً في الكونغرس في 1947 خلفاً لجدّه الذي أقيل من الكونغرس بعد اتهامه بتزوير النتائج، تزوج جون مخموراً، من فتاة غير كاثوليكية مع أنه كاثوليكي، في مكتب مدني لتسجيل الزواج في بالم بيتش بولاية فلوريدا. لكن أحد أصدقائه المقربين، وهو محام، تمكن من استرداد وثائق تسجيل ذلك الزواج من مبنى المحكمة المحلية، واتلافها. ومما يثير الاهتمام في هذه القضية أن الفتاة وهي دوري مالكولم تزوجت لاحقاً مثلما تزوج كينيدي أيضاً من دون أن يطلّق أحدهما الآخر! إثر فشل الغزو الأميركي لكوبا، في ما أصبح معروفاً باسم عملية "خليج الخنازير" في 1961، بدأت فكرة اغتيال الزعيم الكوبي فيديل كاسترو تستحوذ على فكر كينيدي الى درجة كبيرة. ولهذا راح يشرف شخصياً على ترتيب المؤامرات لاغتيال كاسترو. كذلك صادق على الدور الذي قامت به وكالة المخابرات المركزية الأميركية سي. آي. ايه في قتل رئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا ورئيس جمهورية الدومينكان رافائيل تروخيليو. وفي وقت لاحق أشرف شخصياً على التخطيط لاطاحة رئيس فيتنامالجنوبية إنغو دن دايم، ورفض التوسط لانقاذه من تنفيذ حكم الاعدام عليه. خلافاً لما أعلنته الادارة الأميركية عن انتصار كينيدي في أزمة الصواريخ السوفياتية الشهيرة في كوبا في تشرين الأول اكتوبر 1962، وافق الرئيس الراحل، في الواقع، على سحب صواريخ جوبيتار النووية الأميركية من تركيا جارة الاتحاد السوفياتي، كما وافق أيضاً على قطع تعهد أميركي للرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف بعدم محاولة غزو كوبا ثانية، في مقابل موافقة خروتشوف على سحب الصواريخ النووية السوفياتية من كوبا آنذاك 134 صاروخاً. لكن الأدهى أن روزويل غيلباتريك نائب وزير الدفاع في عهد كينيدي أبلغ "مكتبة جون كينيدي للوثائق" في 1970 أن تلك الصواريخ لم تكن موجودة في كوبا أصلاً! ويعلق هيرش على الأزمة بقوله ان خروتشوف انتصر على كينيدي وخدعه! كان جوزيف، والد الرئيس الراحل أقام في فترة مبكرة من حياته علاقات وصلات وثيقة مع زعماء المافيا، كما كلف المغني الشهير فرانك سيناترا باقناع سام جيانكانا، وجوني روزيللي وهما من كبار شخصيات المافيا باستخدام نفوذهما وسيطرتهما على النقابات العمالية في ولاية فيرجينيا الغربية لشراء أكبر عدد ممكن من أصوات العمال لضمان فوز ابنه على السيناتور هيوبرت همفري في الانتخابات التمهيدية التي أجريت في 1960 لاختيار المرشح الديموقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية. وقد استخدم زعماء المافيا نفوذهم لضمان فوز كينيدي في الولاية وفي شيكاغو وإلينوي أيضاً. وإثر انفضاح تلك الاتصالات شرع شقيقه روبرت في اجراء تحقيقات واسعة النطاق في نشاط المافيا مما أشعر جيانكانا بأن جون كينيدي خانه. ويقول هيرش في كتابه ان جاكلين كينيدي زوجة الرئيس الراحل وروبرت شقيقه و83 في المئة من أبناء الشعب الأميركي أضحوا يعتقدون إثر ذلك بأن المافيا هي التي دبّرت اغتيال كينيدي ونفذته. تعمد الرئيس الراحل اخفاء حقيقة حاله الصحية مثلما فعل الرئيس روزفلت قبله، ولم يعترف بأنه يعاني أي علّة سوى آلام الظهر من حين لآخر، بسبب الجروح التي أصيب بها خلال الحرب. لكنه كان يعاني في الواقع من "مرض أديسون" وهو شبيه ب "الايدز" أي فقدان المناعة المكتسبة في الجسم. كذلك كان كينيدي يعاني من أمراض جنسية سببت له الكثير من الألم كلما كان يقضي حاجته ويتبول. وقد مرر عدوى تلك الأمراض لعدد من النساء اللواتي عاشرهن، ولم تُجْدِ العقاقير والمضادات الحيوية التي تناولها. كان جون كينيدي يعاشر امرأة مختلفة كل يوم في البيت الأبيض، بمن في ذلك جميع النساء العاملات في البيت الأبيض ممن كن دون الأربعين، عدا الأيام التي تكون فيها جاكلين موجودة في البيت الأبيض. وكان يعلل ذلك لاصدقائه بقوله: "إذا لم أجامع امرأة مختلفة كل يوم فانني أعاني الآلام والصداع المستمر". ويقول هيرش إن حفلات الاستحمام العاري في برك السباحة في البيت الأبيض كانت أمراً مألوفاً وممارسة شبه يومية، ولا سيما في الصيف. كذلك كان ديف باوارز، أحد مساعدي كينيدي يرتّب لحضور بائعات الهوى الى البيت الأبيض من دون تفتيش حقائبهن، مع أن ذلك ضروري لضمان عدم وجود أسلحة أو مسجلات داخلها. يقول هيرش ان كينيدي أذعن لتهديدات إدغار هوفر مدير مكتب التحقيقات الاتحادي اف. بي. آي فأبقاه في منصبه على رغم تجاوزه سن التقاعد بسنوات. وكان هوفر هدد كينيدي بفضح اتصالات عائلته مع المافيا وفضح أمر زواجه الأول في فلوريدا وممارساته الماجنة داخل البيت الأبيض بما فيها مشاركته جيانكانا في عشيقة واحدة هي جوديث اكسينر، وعلاقته مع الممثلة مارلين مونرو ومع ايلين روتيش التي كان يشتبه بأنها تتجسس لحساب ألمانياالشرقية. وذكر هيرش ان كينيدي استخدم اكسينر لتحمل كيساً مليئاً بالأموال حوالي ربع مليون في كل مرة أي ما يعادل 2.5 مليون دولار هذه الأيام وتسليمه الى جيانكانا. أما روتيش، التي كانت زوجة الملحق العسكري في السفارة الألمانية الشرقية في واشنطن فقد دفع لها كينيدي 50 ألف دولار لكي تغادر العاصمة الأميركية قبل أن يبدأ مكتب التحقيقات الاتحادي التحري معها. يدعي هيرش أيضاً أن كينيدي اختار جونسون نائباً له تحت سلاح التهديد والابتزاز من دون أن يذكر مصدر التهديد. ينقل هيرش عن نايجل هاملتون مؤرخ سيرة حياة الرئيس كينيدي قوله ان الرئيس اضطر الى ارتداء حزام عريض جداً حول صدره وظهره بسبب آلام الظهر التي كان يعاني منها عند زيارته دالاس. وحال هذا الحزام دون استطاعة كينيدي الانحناء الى الأمام بعد اصابته بالرصاصة الأولى، مما مكّن القاتل من اصابته بالرصاصة الثانية في رأسه. لعل أفضل ما أورده هيرش في كتابه ذلك الجزء الذي يتناول فيه الصراع السوفياتي - الأميركي على برلين في 1961، وتهديد موسكو بالاستيلاء على برلين الغربية آنذاك، مما دفع الى بناء جدار برلين، والجزء الذي يتناول فيه أزمة الصواريخ الكوبية في 1962، والفصل الذي يتطرق فيه الى فيتنام اذ انها الاختصاص الأساسي لهيرش. ومن التغريب أن هيرش يرفض الرأي الذي يكاد يقبله الجميع هذه الأيام وهو أن لي أوزوالد أطلق عياراً نارياً لتحويل الانتباه عن القاتل الحقيقي لكينيدي في دالاس، وأن جاك روبي الذي قتل أوزوالد قبل مثوله أمام المحكمة، كان عضواً في احدى عصابات المافيا. إذ يعتقد هيرش أن أوزوالد وروبي اغتالا كينيدي "وحدهما". وماذا عن "كاميلوت؟". في القرن العاشر الميلادي عبر النورمانديون المياه من النرويج لغزو الدانمارك ثم واصلوا رحلتهم الى شمال فرنسا واحتلوا المنطقة التي لا يزال يطلق عليها حتى اليوم "نورماندي". وفي 1066 عبر الملك النورماندي وليام القنال الانكليزي من فرنسا الى انكلترا واستولى على بلاد الأنغل انكلترا وويلز. واستمر ذلك الاحتلال، لكن سكان انكلترا وويلز "ابتلعوا" الغزاة الذين انصهروا في بوتقة المجتمعين الانكليزي والويلزي مثلما نعرفهما هذه الأيام. كان من الطبيعي أن يحمل النورمانديون معهم أساطيرهم وفي مقدمها أسطورة "المملكة المثالية" كاميلوت التي حكمها الملك آرثر وزوجته الجميلة جينيفر بمساعدة من فرسان "المائدة المستديرة" النبلاء. وكان هدف آرثر وأولئك الفرسان تحقيق المساواة والعدالة في مجتمع مملكتهم. وقد تبنّى الانكليز هذه الأسطورة عن مملكة كاميلوت التي نشأت في مقاطعة كورنويل جنوب غربي انكلترا، حيث سادت اللغة "الكلتية" لأن اللغة الانكليزية لم تكن معروفة آنذاك. هذه هي الأسطورة. فأين الحقيقة؟ في أيام دراسته الابتدائية والاعدادية كان جون كينيدي مسحوراً بأسطورة كاميلوت التي تعلمها في المدرسة الانكليزية التي درس فيها. أما زوجته جاكلين فهي من أصل فرنسي ودرست في باريس. اسم عائلتها بوفوار وتعني راعي البقر. وكان بدهياً ان تتحدث جاكلين الفرنسية بطلاقة، بينما كان زوجها لا يعرف غير الانكليزية. ومن هذا المنطلق بدأ النقاد يتندّرون بولع كينيدي بأسطورة كاميلوت مع أنه لا يعرف شيئاً من الفرنسية، علماً بأن الأسطورة بدأت بالغزو النورماندي من شمال فرنسا لانكلترا. حسناً. وما هو رأي النقاد في كتاب هيرش؟ يقول جوناثان ياردلي كبير النقاد الأدبيين في صحيفة واشنطن بوست: "الكتاب تسجيل للشائعات. كما أن معظمه ينمّ عن الحقد لأن المؤلف يلجأ الى سرد تلك الشائعات وكأنها حقائق من أجل خدمة أغراضه. والواقع أن هذه الشائعات لا تستند الى أي أدلة واقعية وانما تنطلق من مبدأ نظرية المؤامرة. وفي هذا ما يجعله كتاباً ليس له أي مصداقية على الاطلاق لأنه مجرد صفحات تعج بالعداء والحقد". أما مجلة تايم التي تملكها شركة تايم - وارنر المالكة أيضاً لشركة ليتل - براون التي نشرت كتاب هيرش، فقد أشارت الى أن الناشر أجبر هيرش على حذف جزء مثير جداً من كتابه وهو الجزء الذي يدعي فيه أن كينيدي وقّع على عقد يعد فيه بدفع 600 ألف دولار أي ما يعادل ستة ملايين دولار هذه الأيام للممثلة مارلين مونرو لتلتزم الصمت ولا تفضح العلاقة بينهما. وتنتقد التايم الكتاب بقولها: "ان معظم ما يورده المؤلف فيه مجرد تكرار لمادة سبق نشرها، كما أن أكثر من نصف الكتاب جاء من مصادر غير مباشرة". ولعل أفضل الكتب التي صدرت عن اغتيال كينيدي كتاب "عقد لاغتيال أميركا" الذي يربط الاغتيال بالمافيا. وقد صدر هذا الكتاب الذي ألّفه ديفيد شايم في 1988. وتعود شهرة هيرش الى حرب فيتنام حين كان مراسلاً هناك، وكان أول من تحدث عن مذبحة "ميلاي" التي صارت لاحقاً مادة غنية لكتب عدة. وبعد فيتنام ألّف كتباً عدة عن الأسلحة الكيماوية والجرثومية وعن هنري كيسنجر. لكن أشهر كتبه على الاطلاق هو كتاب "خيار شمشون" الذي يتناول فيه ترسانة اسرائيل النووية. وتقول تايم ان هيرش تلقى قبل نشر كتابه عن كينيدي مبلغاً ضخماً من المال، لكنه سرعان ما اكتشف أن الكتاب فاشل فملأه بكل ما يخطر على البال من مزاعم لكي يبرر ضخامة ذلك المبلغ. وكان هيرش قد لجأ الى هذه الحيلة من قبل، ففي 1987 وقّع عقداً ليؤلف كتاباً عن اسقاط طائرة الركاب الكورية الجنوبية فوق الأراضي السوفياتية في الشرق الأقصى. وقال هيرش ان لديه مصادر تؤكد ان سي. آي. ايه هي التي دفعت الطيار الى التحليق فوق تلك المنطقة عمداً من أجل الكشف عن مواقع الرادار السوفياتية التي ستنشط بمجرد دخول طائرة الركاب ذلك المجال الجوي، مما سيتيح الفرصة لطائرات التجسس الأميركية في المنطقة بتصوير تلك المواقع السرية. لكنه أخفق في الحصول على الأدلة الكافية لاثبات نظريته، ومع ذلك أصدر كتابه "تدمير الهدف" في أيلول سبتمبر 1989. إلا أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن الطائرة الكورية سقطت بسبب خلل فني.