ماذا حلّ بتجارب الثمانينات الواعدة في السينما العربيّة؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يتبادر إلى الذهن، ويرافق المشاهد على امتداد عروض "مهرجان دمشق السينمائي" الذي انتهت دورته العاشرة أخيراً على شيء من الخيبة والشعور بالنقص والقلق. ولعلّ انتاج البلد المضيف هو الأبلغ تعبيراً عن أزمة تخنق السينما العربيّة الجادة. ففيلم "الترحال" الذي يمثّل سوريا في المهرجان أنجز بأعجوبة، بعد شكوك كثيرة، ما يدفع إلى طرح بعض التساؤلات حول مستقبل الفنّ السابع في العالم العربي. هنا وقفة نقديّة عند بعض المحطات الايجابيّة. أطفأ مهرجان دمشق السينمائي شمعته العاشرة، مخلفاً وراءه مرحلة غنية من تاريخ السينما العربية، سوف يقال بعد سنوات إنها كانت حقبة ذهبية. فالانتاج السينمائي العربي مرّ في العامين السابقين بظروف غاية في السوء، ما ألقى بظلال الأزمة على هذه الدورة "المفصلية". إذ أن أربعة من أصل خمسة أفلام عربية هي أعمال أولى لمخرجين يجاهدون منذ سنوات لتحقيق رهاناتهم شبه المستحيلة. أما أسماء الثمانينات الواعدة، فلم تواصل تحقيق وعودها ولو بنذر يسير، بل تستمرّ في اللحظة الراهنة معتاشة على أمجاد سالفة. شبح الأزمة خيّم على المهرجان إذاً على رغم كل التصريحات المتفائلة. ولمسنا عند معظم المشاركين والمعنيين وأهل الفنّ السابع ادراكاً لصعوبة المرحلة، ووعياً لكون السينما العربية عند مفترق طرق: فإما الانبعاث وتحقيق قفزة نوعية وإما الموت، وترك الشاشات للافلام الاستهلاكيّة والانتاجات الأميركية الضخمة. وقد عبّر كل فيلم عن وجه من وجوه تلك الأزمة المتشعبة. فيلم "القبطان" للمخرج المصري سيد سعيد الحائز على ذهبية المهرجان مناصفة مع الفيلم البرازيلي تيتا لاغريستيه، سبقته حملة اعلامية أوحت بشكل من الأشكال بأنه قفزة نوعية في السينما المصرية والعربية. لكنّ الجمهور تبيّن بعد عرضه أنّه ليس كذلك مطلقاً، بل انّه لم ينجح في تجاوز بعض التجارب الرائدة التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية. يستفيد سيد سعيد من تقنيات البنية الروائية الفانتازية، محاولاً أن يقدم نموذجاً لم يسبقه اليه أحد. وهو ينجح بالفعل في بعض المواضع، ويفقد البوصلة في مواضع أخرى. القبطان شخصية هامشية يعيش في مدينة بور سعيد، يتنقل في شوارعها وساحاتها العامة وحدائقها كأي متسكع آخر. ثم لا يلبث أن يتحول شخصية تتدخل في كل كبيرة وصغيرة، مضيفة إلى المواقف منطقها، وحاملة إلى الشخصيات المعذبة خلاصها. القبطان في كل مكان، ولكن من هو؟ من أين أتى؟ هذا ما لا يستطيع أحد الاجابة عليه. هل نجا من الغرق وفقد الذاكرة؟ هل هو مناضل شيوعي يوناني فار من بلاده؟ لا أحد يملك اجابة كاملة، فكل اجابة قابلة للتصديق والتكذيب في آن. وهذا ما أكد عليه المخرج من خلال مجموعة من القرائن المثيرة للحيرة، ممعناً في تغريب الشخصية وأسطرتها. مع العلم أن الأحداث تجري أيام الملكية في مصر. أزمة انتاجيّة خانقة أما الطرف الآخر في المعادلة الدراميّّة القائمة على الصراع، فشخصية حكمدار المدينة محمد توفيق الذي يفاجأ دائماً بوجود القبطان محمود عبدالعزيز أينما ذهب. وحين يقرر الامساك به يعجز عن ذلك. وهنا يضيع في متاهة لا فكاك منها : فالأشخاص الذين رآهم مع القبطان ينكرون وجوده، وحتى بيته يختفي عندما يحاول الحكمدار اقتحامه. ولكن الصدمة الكبرى تتحقق عندما يراه بغليونه مبتسماً كما كان دائماً. ولكن متى؟ في الوقت الذي تنتهي فيه خدمته في المدينة، كأن القبطان يعيش في وهم الحكمدار وحده! في الفيلم شخصيات عدّة يجمع القبطان بينها بخيطه الخفي. ثمّة ابن عميل للانكليز، وابن مجاهد استشهد في فلسطين، وابن برجوازي حديث النعمة، وفتاة يعشقها كل هؤلاء بمن فيهم القبطان والحكمدار. ولعل اصرار المخرج على ملاحقة كل الشخصيات ووضع نهايات لها، أسهم في ارباك الفيلم وظهور نهايات متعددة أفقدته شيئاً مهماً من بريقه. أما مشهد اللاجئين الفلسطينيين الذي يتكرّر طوال الفيلم، فليس ما يبرّره في بنية الفيلم، ولا يأتي بأية اضافة درامية، إلا اذا كانت وظيفته اعطاء بعد زمني للفيلم! أما أزياء هؤلاء اللاجئين الذين قذفت بهم نكبة ال 48، فتشبه كثيراً أزياء العرب في الأفلام الهوليوودية الشهيرة. وتشاء المصادفات أن يكون مشهد اللاجئين الفلسطينيين هو أحد المشاهد المهمّة في فيلم "الترحال" للمخرج السوري ريمون بطرس، الحائز على فضية المهرجان. ولكن بطرس ينجح في تقديم صورة أقرب إلى الأمانة الوثائقية من حيث الازياء واللهجة والخيام. واذا كان فيلم سيد سعيد يعكس أزمة اللغة السينمائية في مصر، فان فيلم ريمون بطرس يعكس الأزمة الانتاجية الخانقة التي تمر بها السينما السورية، حيث انتهت الأعمال الفنية للفيلم قبل عرضه بنصف ساعة فقط! يحاول "الترحال" أن ينقل صورة مرحلة دقيقة من تاريخ سورية المعاصر، تبدأ بعد نكبة ال 48 وتنتهي سنة 1954 أي مع فترة الانقلابات العسكرية المتتابعة والمتاجرة بالشعارات. نعيش الأحداث من خلال عائلة مسيحية حموية يعمل معيلها حجّاراً في فلسطين. وعندما تقع الحرب ينضم هذا الحجّار إلى المجاهدين، ويصاب بجرح بالغ في ذراعه يمنعه لفترة من العودة إلى ذويه. ويرجع إلى بلاده مع بداية الانقلابات، فيقاد إلى السجن مرة تلو الأخرى إلى أن يفرّ لاجئاً إلى لبنان حيث يعيش من مهنته. وعندما يصدر عفو عن الملاحقين بعد عودة النظام المدني سنة 1954، يقرّر الحجّار أبو فهد العودة عن طريق العاصي، وعند نقطة الحدود يكون الموت المجّاني في انتظاره، إذ يسقط برصاص حرس الحدود. يعج الفيلم بالتفاصيل التي تشكل في مجملها صورة لمدينة حماه في تلك الآونة. ولكن التفاصيل تزيد عن الحاجة في بعض المواضع، كالمظاهرات وورشات الحجارة. وهناك بالمقابل لحظات لا تنسى كمشاهد الحلم وزوايا المدينة. ما يسجل لفيلم ريمون بطرس تقديمه المرجعية الروحية لهذه العائلة، ونادراً ما نقع على مقاربات مشابهة في السينما العربية. ويؤكد السينمائي السوري الشاب أن النكبة التي حلت بفلسطين لم تشرد الاسرة الفلسطينية وحدها، بل شردت معها أسر عربيّة كثيرة سوريّة تحديداً، بشكل أو بآخر. المكان بطلاً لكنّ اعتناء ريمون بطرس الملحوظ بالمكان، لم يجعل هذا المكان بطلاً من أبطال الفيلم، كما هو الأمر بالنسبة إلى فيلم "السيدة" للمخرج التونسي محمد زرن، الحائز على برونزية المهرجان. ولعل عنوانه يشي بذلك، ف "السيدة" حي بائس من أحياء الفقر التي تعج بها البلاد. إنه المكان: مرذول بفقره وقهر ناسه ومقدس في خيال فنان اختار هذا البؤس ملهماً لقريحته. نضال بطل الفيلم طفل يعاني من سكر والده العاطل عن العمل، فيعمل "موديلاً" أو عارضاً، أي نموذج للرسم، مقابل دنانير قليلة. لكن الظروف تشتد قتامة، فيلتحق الفتى بعصابة للسرقة، والفنان تغادره حبيبته. ولا شيء يتغير في حي السيدة، كأن المكان هو الشاهد الأزلي الساخر على هذه المصائر. في شريط زرن لا يمكن الكلام عن حدث درامي بالمعنى المتعارف عليه. فعلى رغم انتمائه إلى التجارب الطليعية في السينما التونسية الجديدة، لا يرتقي فيلم "السيّدة" إلى أفلام نوري بو زيد أو فريد بوغدير أو حتى مفيدة التلاتلي. العربي باطما في آخر أدواره أفلام سيد سعيد وريمون بطرس ومحمد زرن تعبّر، بشكل أو بآخر، عن خصوصية الأزمة السينمائية في كل بلد عربي على حدة. أما فيلم "زينب والنهر" للمخرجة اللبنانية كريستين دبغي، الحائز على جائزة غير رسمية في المهرجان، فتأخذ فيه الأزمة مداها الأقصى من طبيعة العمل لجهة المبنى والمعنى. فيلم دبغي يعتمد تجريبية مغرقة في خصوصيتها، قائمة على التفكك وتعتمد الرمز في تعبيرها عن رؤية شاملة إلى الواقع. ويحتاج المشاهد إلى مهلة زمنيّة كي يتبين أبعادها كافة. أما الفيلم المغربي "دم الآخر" لمحمد لطفي فهو أزمة بحد ذاته، من حيث موضوعه التجاري الفاقع الذي يأخذ مشكلة الايدز مطية مفتعلة، ومن حيث شكله المغرق في عاديته! ولعل القيمة الوحيدة المتبقية له ظهور الفنّان المغربي الراحل العربي باطمة كممثل في بعض المشاهد. الأفلام الروائية الطويلة القادمة من آسيا وأميركا اللاتينية لم تثر الاهتمام الكافي، نظراً لطبيعة المشاركة التي تأخذ في كثير من الأحيان طابعاً بروتوكولوياً. ولأن الجمهور السينمائي والنقاد لا يعولون كثيراً على تلك الأفلام بسبب اهتمامهم بالسينما العربية أساساً. هكذا مرّت أفلام مهمّة مثل "تيتا لاغريستيه" للمخرج البرازيلي كارلوس دييغويس، المأخوذ عن رواية لخورخي أمادو، مرور الكرام. وكان أن فوجئ الجمهور بحصول الفيلم على الجائزة الذهبية مناصفة مع الفيلم المصري "القبطان". يتحدث الفيلم عن نسبية المقولات الاخلاقية في مجتمع يعاني من شتّى أوجه القهر والفقر، من خلال حكاية امرأة تتعامل معها الجماعة كقديسة فإذا بشخصيّتها تتكشف عن مومس! ومع ذلك تبقى صورة القديسة هي الاكثر رسوخاً في وجدان الناس نظراً لما قدمته لهم. إلا أن الأمر اختلف مع الفيلم الصيني "ألوان الأعمى" للمخرج تشن هاوتشينغ الذي حظي بالاقبال الجماهيري نظراً لطبيعة موضوعه المحبب على المستوى الشعبي. يتخذ الفيلم من عالم المعوّقين موضوعه فهو يصور طموح فتاة عمياء في الوصول إلى بطولة عالمية في الجري، ومع مثابرتها تحصل على ميدالية ذهبية وتحقق أمنيتها وذاتها، وقد حصلت الممثلة تاوهونغ على جائزة التمثيل النسائي تقديراً لكفاءتها في أداء دور العمياء. أما الفيلم الايراني "غزال" لمجتبى راعي، الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، فلم يعبر عن الصورة الحالية للسينما الايرانية التي تشهد نهضة نوعية وكمية. فموضوعه غارق في الايديولوجيا، وتأخذ الحوارات حيزاً مهماً من مساحة الفيلم الذي حاول أن يقيم علاقة متوازية بين ماضٍ يتمثل بأم تدعى معصومة وحاضر يتمثل بإبنة تدعى غزال. ومن خلال هذه المواجهة بين الماضي والحاضر، نغرق تحت وابل من الوعظ والمقولات الايديولوجية. ولم يفهم أحد من متابعي أفلام المهرجان سبب منح جائزة الاخراج للفيلم الفلبيني "أعد شرفها" المغرق في عاديته، بدلاً من الفيلم التشيلي "رجلي الآخر" لتاتيانا غيافيولا المتميز بلغته السينمائية الراقية؟! الأفلام القصيرة إلى انقراض؟ إذا كانت الأفلام الروائية الطويلة في وضع لا يبعث على التفاؤل، فكيف يمكن أن يكون الأمر بالنسبة إلى الأفلام القصيرة؟ قد يعتقد المرء للوهلة الأولى أن انحسار المشاريع القائمة على انتاج ضخم وبنية فنية وتقنية معقّدة، بسبب المصاعب الماديّة، من شأنها أن تدفع سينمائيين موهوبين إلى انجاز مشاريع أكثر تواضعاً، وإلى التعبير عن أنفسهم من خلال أفلام قصيرة من شأنها أن تعكس أسلوبهم وتعبّر عن رؤىتهم وفنّهم. لكنّ مهرجان دمشق سلّط الضوء على المأزق الذي تعاني منه هذه السينما أيضاً، كأنّها في طريقها إلى الانقراض! تميزت الأفلام القصيرة المشاركة بانقسامها إلى نوعين: الأوّل في منتهى الرقي، والثاني في منتهى الضحالة. ففيلم "فلاش" لنبيل المالح، غنيّ بالأبعاد الفنية والانسانيّة رغم قصره 3 دقائق، على عكس الفيلمين الليبي "الكرسي" والمصري "زيارة في الخريف" اللذين لا يحملان عمقاً ابداعيّاً. وقد لفت الانظار فيلم الرسوم المتحركة السوري "مذكرات رجل بدائي" موفق قات، لفكرته الذكية ولتنفيذه المتقن، وكذلك الامر الفيلمان اللبناني "الحي" والتونسي "التربة". بقي أن نشير إلى أنه كان بالامكان استبعاد التظاهرتين الخاصتين بأفلام دراير وبونويل، لصالح تظاهرة عربية أو آسيوية أو اميركية لاتينية تنسجم مع توجه المهرجان. وكذلك كان بالامكان إغناء تظاهرة "فلسطين والسينما" بأفلام قديمة وحديثة من انتاج فلسطيني، لإعطاء فكرة أوسع عن راهن هذه السينما وخلفيّاتها وتاريخها وآفاقها. لكنّ المنظّمين اكتفوا بأفلام مؤسسة السينما وبعض الأفلام الغربية المعروفة. أما الأفلام الايرانية فكانت ذات لون واحد، ولعل التظاهرة الأكثر نجاحاً كانت تلك المخصّصة ل "الأفلام الفائزة بذهبية المهرجان". ربما كان اجحافاً كبيراً بحق "مهرجان دمشق السينمائي" القول إن الدورة العاشرة هي الأكثر تمايزاً وغنىً في تاريخه! فكلّ المؤشرات دلّت على عكس ذلك، منذ سرق محمود درويش الأضواء في حفل الافتتاح، كأن نجوم السينما ما عادوا يستأثرون باهتمام الجمهور الذي يؤثر عليهم نجوم الشعر! يكفي أن يفتح المراقب عينيه، ويعتمد في حكمه حدّاً أدنى من الموضوعية وسعة الاطلاع، كي يلاحظ أن الظروف الموضوعية كانت أقوى من النوايا الطيبة، وأن خيبات الواقع قضت على ما تبقّى من الرغبات! .