كيف يستعدّ العرب لدخول ألفيّة جديدة لم تعد تفصلهم عنها سوى رفّة جفن؟ هذا السؤال طرحته "الوسط" في هذه الجردة الثقافيّة التي تستعرض أبرز أحداث العام الماضي في مختلف الأقطار، وتحاول أن تستخلص أبرز الملامح وعلامات الاستفهام، وأهم الانجازات، وأن تجسّ نبض الثقافة وأهلها - أي ضمير المجتمع - على عتبة القرن الحادي والعشرين. بعد الخليج ومصر وسورية، نتجوّل هذا العدد بين كواليس الحياة الفكريّة والابداعيّة في لبنان والمغرب . عشرون عاماً بعد قيام منظّري اليسار اللبناني باكتشاف "الاقطاع السياسي"، ها هي الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة التي شهدتها بيروت، تأتي باكتشاف جديد: "الاقطاع الثقافي". والاقطاع السياسي مصطلح متناقض يعني زعامات أسرية وراثية لم يعد سلطانها يقوم على ملكية الارض كما كان سابقاً، بل على ما تبع ذلك من نفوذ موروث تغذّى من مواقع في السلطة السياسية. أما المقصود بالاقطاع الثقافي فهو حصراً "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" الذي وصل أمينه العام المنتخب دائماً إلى المجلس النيابي. والمصطلح لم يصدر هذه المرة عن اليسار المتطرف، بل عن نبيه برّي رئيس المجلس النيابي! وعى أهل السلطة أن في وسع المجالس الثقافية أن تكون "أقطاعاً"، وهو وعي لن يكون بلا أثر. ففي حوزة هؤلاء مال وقدرة قد يكون مال السلطة وسلطانها بعضاً منهما، وحولهم أعوان بعضهم مفوّه متكلم. ولنا أن ننتظر من الآن قصور الثقافة لا بالمعنى المتعارف عليه في مصر طبعاً. قد تكون هذه قصور الحكام أنفسهم. وقد تكون قصوراً خاصة ينشئونها لهذا الغرض. باشر برّي رئيس مجلس النواب تدشين قصره الثقافي، ولن يتأخر الحريري رئيس مجلس الوزراء عن ذلك. وكيف سيكون كوخ حبيب صادق أمام ذلك القصر؟ كيف ستكون الأكواخ الثقافية الأخرى المدعوة حركات وأندية ثقافية؟ على كل حال وصلت هذه الأندية والحركات إلى حد من الآلية والعزل في الفترات الاخيرة، لم تعد معهما ذات استقطاب جدي. ولعل للوضع أثره في ذلك، إذ يصعب إلى حد كبير حمل المثقفين المبدعين على الانضواء إلى أندية وحركات. والبدائل عنهم في هذه الحال تقنيون ثقافيون وهواة اسم. هكذا تغدو الأندية والحركات صالونات ثقافية يغلب على عملها المناسبة والتقديم الاعلامي، أي أن "الاجتماعي" يغلب ضمناً على "الثقافي". وإذا قامت قصور ثقافة الحكام الشامخة، فلن تقوم بادىء الأمر على أكثر من تقنيين وبدائل. لكن قوة استقطاب هذه القصور لا ترحم. فها هي السلطة نفسها مفتوحة أمام المثقفين الطامحين الذين يتزايد عددهم. وسحر السلطة الأكيد له مقدرة تأثير هائلة على الكثيرين. ولنا أن نتصور إلى أي حد تعجز "الأكواخ" الثقافية عن المنافسة. وإذا سلمنا بمصطلح "الاقطاع الثقافي"، فقد يكون اتحاد الكتاب اللبنانيين من تجلياته. الاتحاد يمثلّ ثقافياً تحالف الحكم اللبناني وعلاقاته الاقليمية. وخطاب الاتحاد خطاب الحكم. وبيانه العام قريب من مقدمات البيانات الوزارية الايديولوجية. وقد يقترب الاتحاد في ذلك من اتحادات الدولة الحزبية، لكنّه هيئة منتخبة، وبأكثرية واضحة، وهنا وجه الغرابة! صحيح أن هذه "الأكثرية" من الكتاب الذين لا تعرف لهم في الغالب صفة، لكن في ادارة الاتحاد أيضاً أمثال: شوقي أبي شقرا ومحمد علي شمس الدين استقال أخيراً وإلياس لحود... هذا في وقت بدت اتحادات أخرى الأطباء، المحامين، المهندسين على درجة أكبر من التسييس والتماسك أتت بقيادات معارضة، على رغم جهود أهل الحكم لفرض قيادات حليفة لها. هل يعني هذا أن الأدباء والفنانين هم الأسهل صيداً والأكثر هلهلة والأقل تسييساً والأشد تجزّؤاً والأضعف أمام بريق السلطة واغراءاتها؟ هذا صحيح إلى حد، ويتضارب مع ارث من الادعاءات والصور عن الذات المستمدة من الجراح والشهادة والسجون والتعذيب والرفض. يصح هذا على الأدباء جماعة، كما يصح عليهم افراداً. فإن عدداً من الشعراء باتوا من نجوم المناسبات الحزبية، ولحقوا بالسياسيين على هذه الطريق. كما نسجّل عودة خطاب أيديولوجي حزبي، من المفترض أن الزمن تعداه... الانتخابات اللبنانية وضعت ذلك على المحك، إذ بدا لكثيرين أن الكلام عن الحرية والديموقراطية والابداع والاستقلال ليس ذا إلزام سياسي. وأن خطاباً على هذه الشاكلة لا يتعارض مع السير في معركة رئيس مجلس الوزراء أو رئيس مجلس النواب، بل يمكن أن تسمع أحدهم يقول أن الابداع والحرية يمليان عليه السير في ركاب دولة الرئيس. من الناحية الثانية كان هناك أدباء المعارضة التي تتشدد في التزامها بمعارك المعارضة على اختلاف ساحاتها وسبلها. كان يمكن لهذا الخلاف أن ينتهي بسجال واسع. بدأ هذا السجال فعلاً، وبدا نشطاً ومثيراً. كان يكفي أن تسمع أحد الموالين يصرح في رده على الشاعر شويع بزيع: "أنت تقصد دولة الرئيس... ونحن مع دولة الرئيس". لكن السجال مع ذلك لم يستقطب كثيرين وجدوا أنّه أقل من ادعاءاته. فلجوء "الموالين" إلى موضوعة "السلطة والثقافة" أكبر بكثير من نشاط انتخابي عادي، يتساوى فيه المثقف وغير المثقف. كما أن "المعارضة" السياسية ليست دائماً معارضة، وهي في أحيان كثيرة - بحسابات أخرى - أكثر موالاة. فمن يعارض دولة الرئيس لبنانياً، يزايد عليه اقليمياً وهكذا دواليك. لم ينتشر هشيم هذا السجال ولا ناره. لكنه كان مثيراً، وبدا أن لغة المصالح الضيقة، وإن تموّهت أحياناً بموضوعة فلسفية، تفرج في أحيان كثيرة عن التبعيّة المطلقة والطموح المعلن. هل هذه هي الصورة؟ هذه هي في الواقع "اجتماعيات" الثقافة و"سياسياتها"، إذا شئنا أن نتكلم عن الأدب والثقافة بصيغة الجمع. وهي صور تعبّر عن التحاق متزايد بالسياسي والاجتماعي. ولم يشذّ "معرض الكتاب الدولي والعربي" الذي نظّمه "النادي الثقافي العربي"، وأطفأ شمعته الأربعين، عن هذه القاعدة. ويزيد من عتمة الصورة أن الثقافة كهمّ، وما ينبغي الدفاع عنه من استقلالها ونقديتها، لا يبدو مهماً وأساسياً إلاّ عند جذوع خمسينية وأربعينية قديمة. في الوقت الذي يبدو فيه أن نسبة كبيرة من الجدد، غير معنيّة كثيراً بتحصين الثقافة أو استقلالها. لكن الصورة بالمفرد ليست بهذه العتمة. ليس النتاج وحده هو المعيار، ولكن الصعيد والشاغل أيضاً. ثمة كوكبة من الأقلام المستقلة والملتزمة التي تواصل تشريحاً شجاعاً ومستشرفاً للسياسة والسلطة والاجتماع. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: وضّاح شرارة، أحمد بيضون، جورج ناصيف، جهاد الزين، نواف سلام، بول سالم، ملحم شاوول... كما أن كتاب وضاح شرارة "الأمة القلقة" يعمق عملاً تواصل منذ "المدينة الموقوفة"، ويضع على المحك التكوين المتضارب للمجتمع اللبناني. ويتناول كتاب ملحم شاوول "الواحد والجمع"، من جهة أخرى، موضوعاً مماثلاً. وليست كتابات السِيَر غريبة عن حال يبدو فيها الحاجز أعمى إلى هذه الدرجة. من هذه الناحية تبدو سيرة غسان تويني الصحافية "أسرار المهنة" لافتة. فهنا عمر انقضى في الصراع وفي معارك شتى يفصح عن كنزه، في وقت يبدو الابعاد قبل الاستبعاد الطوعي أمراً مفروضاً. "سيرة الراوي" لعبيدو باشا تسترجع أيضاً جيلاً بيروتياً قريباً. الأدب لم يكن عقيماً خلال العام 1996. ثمة تجارب روائية تذهب بعيداً: "مجمع الاسرار" لالياس خوري، "سنة الأوتوماتيك" لحسن داوود. إذ يشارف كل من الكاتبين منعطفاً مهماً في روايته. الشبان أيضاً لم يكونوا بعيدين عن هذا التمايز. يمكننا الاشارة إلى "البيت الأخير" لربيع جابر، حيث يقترن الطموح الروائي العالي بالعمل الدؤوب. وثمة الصوت الدافىء لرينيه حايك في كتابها الثاني. وتجربة نجوى بركات في عملها "باص الأوادم". الاصدارات الشعريّة لم تكن بالخصوبة المتوقّعة، لكنّها اشتملت على محطّات مثيرة، وتميّزت بعودة الجيل الأوّل. حمزة عبود في "كأني الآن" يتابع قصيدة بين الضبط والنحت من ناحية، والفرفطة السردية من ناحية أخرى. عبده وازن من الجيل الثاني أصدر "أبواب النوم" وهو عمل شعري ذو شاغل صوفي وغناء مصقول. ولنا مع مجموعة "علبتي السوداء" لحسان الزين، والمجموعات المنتظرة لسامر أبو هواش وبلال خبيز وحسين بن حمزة أن نتوقع جيلاً شاباً في عشريناته غالباً يحمل نفَساً جديداً إلى الحركة الشعريّة. ويمكننا أن نصغي من الآن إلى جملة مختلفة ومشهد ثان. كما أن عناية جابر تعد، مع مجموعتها الثالثة، بعمل تتزايد سريته وبداهته في آن معاً. ومن جهة أخرى أصدر أنسي الحاج هذه الأيّام جزءاً ثانياً من "خواتم" الذي يشتمل على كتاباته التأمّليّة ونثرياته. زارنا في بيروت خلال العام الماضي الفنّان المصري آدم حنين، وكانت تجربته محيرة في بلد يتميز فيه النحت عادة بالاطناب والزينة. ولعلّ عمل سلوى روضة شقير يمتلك من ناحية أخرى الصمت نفسه. حيرت أعمال آدم حنين بتواضعها واتجاهها الدائم إلى أن تنخفض وتتقوقع. أسادور كان أيضاً زائراً مدهشاً. أعماله الملونة وغير الحفرية بدت اكتشافاً آخر. فمن مصغرات العالم الحفري ظهرت كائنات ملونة لتجعل للعالم الفلكي والقمري والآلي بعداً ملحمياً وسحرياً يذكر ببوش، ولتجعل طلسمية أسادور قريبة ومغوية. عودة فريد عواد أيضاً مؤثرة، ففي هذا الضوء المصفى الذي عمر باستيلاته وفي هذا الظل البلوري... بدا رحيل الرسام الكبير المبكر وكأنه أغنية لوحاته. حسين ماضي لا يزال على خصوبته ومتانته، وكذلك أمين الباشا، بخلاف رفيق شرف الذي اختفى قليلاً. أما إيفيت أشقر فأدهشت بمعرض شاب ومكتنز في آن معاً. لكن العبرة مع ذلك تبقى في الشبان الذين كشف عن بعضهم معرض سرسق: يوسف عون، أمل داغر، اميل رجيلي، ÷لافيا قدسي، غادة صاغية، أروى سيف الدين... وخصوصاً جان مارك نحاس. ولا بدّ أيضاً أن نتوقّف عند معرض الفنّان السوري مروان، كما طبع المدينة وحركتها التشكيليّة قبل أسابيع زائر كبير وغريب، هو شاكر حسن آل سعيد. في الموسيقى والغناء، لا يميّز السوق - كالعادة - سوى بلاهة القطيع، لكنّنا نذكر عمل زياد الرحباني "بما إنو" الذي هو خطوة أخرى نحو أغنية مختلفة وذات حساسية معاصرة. كما نتوقّف عند ابهار "جدل" العمل الموسيقي الذي برز فيه مارسيل خليفة. وقامت شركة "عبدالله شاهين وأولاده" باعادة اصدار بعض أجمل أغنيات فيروز في حلّة جديدة، ضمن ثلاث أسطوانات لايزر: "مع أطيب التمنّيات"، "فيروز والذكريات"، "قصائد". وعلى صعيد المسرح كان روجيه عساف هو الأكثر نشاطاً بين الجيل السابق. كما فاجأت نضال الأشقر الجمهور، في مسرحية "طقوس التحوّلات والاشارات" لسعد الله ونوس انتاج "مسرح المدينة"، بطلاقة الابتداء وعصارة الخبرة في آن معاً. لكن المهم هو احتلال الجيل الشاب مكانته ودوره على ساحة الخلافة. نذكر هنا "الكراسي" للينا صانع مع ربيع مروة وعبلة خوري - انتاج "مسرح بيروت"، وعرض فادي أبو خليل "ستيريو وشعر حديث" الذي انطلق من نصوص شعرية. هذان عملان يبدآن - وهذا هو الأهم - من زاوية أخرى