قبل سنوات نظمت شركة طيران عالمية حملة دعائية خلاصتها ان كل زوجة ترافق زوجها عندما يسافر في عمل، تدفع نصف ثمن التذكرة فقط. وسارت الحملة سيراً طيباً، وارسلت الشركة الى كل زوجة تسألها إذا كانت اعجبتها الرحلة. وجاء الرد: أي رحلة؟ طبعاً هؤلاء النساء متزوجات من أجانب، لأن الزوج العربي مخلص حتى الثمالة، ويسافر مع زوجته أو لا أحد ربما كان لا يحتاج ان يصطحب معه أحداً، لأن له في كل عاصمة "زوجة" شقراء. المهم من كل هذا انني كنت اقرأ ما سبق في كتاب عن الأسفار اشتريته في مطار لندن، على سبيل التسلية، ووجدته حافلاً بأخبار لا بد أن تكون ملفقة كتبت خصيصاً لاغاظة المسافر وحده مثلي. وقدرت أن أرد يوماً بكتاب عن السفر كما هو فعلاً، ودندنت لنفسي "يا مسافر وحدك، وتاركني"، وأنا أراجع بعض الرحلات المشهودة التي قمت بها على مدى عقود سبقت الطيران النفاث. وان أنس لا أنسى رحلة من بيروت الى المكسيك، عن طريق أثيناونيويورك. كان ذلك سنة 1968، وأنا طفل يحبو في طريقه لحضور الألعاب الأولمبية في مدينة المكسيك، وتركني ذلك الجزء بين أثيناونيويورك بحاجة الى تمريض لاسترداد عافيتي. جلست في آخر صف في الدرجة الثانية بين مسافرين يونانيين لم يتوقفا عن التدخين لحظة طوال عشر ساعات. وعندما وجدت نفسي بينهما، وهما يتحدثان باليونانية من فوق رأسي، اقترحت عليهما ان انتقل الى واحد من مقعديهما ليجلسا قرب احدهما الآخر. الا أنهما قالا لي بانكليزية مكسّرة جداً انهما اختارا المقعدين لأن واحداً منهما يفضل الجلوس قرب النافذة، والآخر قرب الممر بين المقاعد. واكتشفت بسرعة ان الجالس قرب النافذة يحتاج الذهاب الى المرحاض مرة كل عشر دقائق، في حين ان الجالس قرب الممر لا يتحرك من مكانه. اسوأ من هذا ان الرجلين أخذا تبادلان ما رجحت انه طرف أو نكت باليونانية. وكان الجالس الى يميني يضحك من البداية الى النهاية، وهو يروي النكتة، فكأنه يرويها لنفسه. اما الجالس الى شمالي فكان ينفجر ضاحكاً مع القفشة، ثم يخبط يده على رجله أو رجلي، وصوته يدوي فوق زمجرة المحركات. وفتحت الهواء فوق رأسي لتبديد سحب الدخان، فلم أنجح، ولكنني وصلت الى نيويورك وقد أصبت بزكام شديد رافقني الى مدينة المكسيك. المهم انني أصبحت بعد ذلك رئيس تحرير يسافر بالدرجة الأولى، ولكن حقيبتي بقيت تسافر، ككل حقيبة، بالدرجة الثانية، فأخرج من الطائرة في لحظات، وأمر عبر موظفي الجوازات قبل غيري، ثم "انطلح" كبقية المسافرين نصف ساعة أو نحوها بانتظار حقيبتي. أهم من هذا ان السفر في الدرجة الأولى يحرم المسافر فرصة رؤية أي وجه حسن، فأكثر المسافرين متقدم في السن، وإذا اصطحب زوجته معه فهي في مثل سنه. وبلغ من انعدام الجمال، والشباب، في الدرجة الأولى انني عندما جلست بقرب حسناء في درجة رجال الأعمال في الصيف، اعتبرت ذلك حدثاً يستحق ان اكتب عنه. بل ان المضيفات في الدرجة الأولى "عواجيز"، فهن تقدمن في الخدمة الى أن أصبحن مؤهلات لخدمة الركاب المهمين. وفي المقابل، فالمضيفة الشابة الجديدة على المهنة في الدرجة السياحية، قد تسكب القهوة على رأس الراكب، ويجد هذا عذراً ليفتح معها حديثاً طويلاً لا يعرف أحد أين ينتهي وكيف. المضيفة في الدرجة الأولى انتهت مدة صلاحيتها الا أنها لا تسكب القهوة على رأس الراكب، فهي أكثر خبرة من ذلك، ثم انه أصلع والقهوة حتى لو كانت فاترة على رأسه أمر غير مستحب، وعندما انظر الى الراكب من هؤلاء، وأتصور أنه ترك في البيت زوجة في مثل شكله وعمره، افهم لماذا اختار السفر بالكونكورد، فهو يريد ان يبتعد عن زوجته بأسرع طريقة متوافرة. شخصياً عرفت طائرات ركاب من كل نوع، من الداكوتا دي سي 3 والفايكاونت، الى الكارافيل والكوميت، وحتى البوينغ والكونكورد. وتقدم الطيران ولا جدال، إلا أن الركاب بقوا على حالهم، فالمسافر يجد بقربه دائماً واحداً يدخن، أو طفلاً يبكي، أو عجوزاً يشخر. وكان قارئ أغضبه ان تجلس بقربي في الصيف حسناء، نسي أنها مرة في العمر واحدة، واصرّ على أن اسجل أسوأ موقف تعرضت له في السفر. ولعل اسوأ المواقف هو دائماً تأخر الوصول في رحلة ترانزيت، فلا يستطيع الراكب متابعة الرحلة في بلد غريب، أو ضياع الحقيبة. شخصياً، كان اسوأ ما تعرضت له في مطار نيس، وهو المطار نفسه الذي وصلت اليه مع الحسناء الآنفة الذكر مرتين، فقد حملت معي من لندن ورق تواليت انكليزي فخم، وقرر رجل الجمارك تفتيشي، وعثر على حقيبة ملأى بورق التواليت، فنثر محتوياتها أمام ألف مسافر، وهو يعتقد انه أمام مهرّب خطير، ولم يجد شيئاً، الا انني تقلصت داخل ثيابي أمام نظرات المسافرين الآخرين. وكان عزائي ان الراكبة الحسناء جلست قربي في رحلة سابقة، فلم تر "بهدلتي" مع جمارك نيس.