أصدرت وزارة الخارجية البريطانية قبل ايام تقريراً رسمياً اكدت فيه ان المصارف السويسرية لا تزال تحتفظ بسبائك من الذهب الذي نهبه النازيون خلال الحرب العالمية الثانية تزيد قيمتها عن 4 بلايين جنيه استرليني. هكذا دخلت لندن رسمياً ميدان النزاع الذي ازدحم بالحكومات والافراد والمصارف... منذ بدأت قصة اموال ضحايا الهولوكست وحتى موافقة الحكومة السويسرية الاتحادية اخيراً على "تجميد" قوانين السرية المصرفية لاجراء بحث مجد عن الاموال اليهودية. "الوسط" تروي قصة أموال الضحايا وتسلط الضوء على تاريخ المصارف السويسرية الحديث في هذا التحقيق. خمسون عاماً ونيف مرت على المحرقة النازية الهولوكست ولا يزال البحث مستمراً عن اموال ضحاياها اليهود في مصارف سويسرا. ورثة هؤلاء الذين لاقوا مصيرهم بين 1933 و1945 يتهمون المصارف بابتلاع ودائع ذويهم، فيما هي تنكر أولاً... ثم تعترف بجزء زهيد. هكذا استطاعت بيوت المال السويسرية ان تروّض الورثة تارة، او تصدهم تارة اخرى بجدار سميك من الحجج والمبررات التي تشكل السرية عمودها الفقري. والسرية هي مع العراقة اشبه بالرباط الذي يشد مخابئ المال بعضها الى بعض في الارض الصغيرة المزروعة بحوالي 400 مصرف كبير وصغير لا تزال تقدم "الخدمات المصرفية الخاصة" منذ العام 1685 على الاقل. والمصارف السويسرية معروفة بابتكار "الارصدة الرقمية" التي ستبدل فيها باسم العميل رقم او اسم مستعار حتى يبقى مجهولاً للجميع ما عدا قلة من المديرين. ويفرض عليها قانون المصارف الصارم التكتم المطلق على عملائها ودفع جزء من ودائعهم الى الخزينة العامة اذا غابوا، لتحتفظ بما بقي منها. غير ان المصارف التي تسترت طويلاً بالسرية تعبت، كما يبدو، من المواجهة مع ورثة ضحايا الهولوكست، ومجموعات يهودية تبنت قضيتهم. فبعد كر وفر تواصلا منذ الاربعينات بدرجات متفاوتة، جاءت الجولة الاخيرة في ايار مايو الماضي لتوحي بأن قبضة المصارف بدأت تتراخى تحت وطأة ضغوط شتى. ويمكن استخلاص ذلك من مساهمة المصارف في تشكيل "لجنة الاشخاص البازرين المستقلة" السداسية المكلفة الاشراف على التحقيق في مصير اموال ضحايا الهولوكست. والمدهش انها وافقت على اطلاق يد اللجنة والمدققين الخارجيين في ملفات الارصدة والودائع. فهل يؤدي هذا التنازل الاول الى تنازلات اكبر تنتهي بحصول اقرباء الضحايا على المبالغ التي يطالبون بها؟ محاولة الاجابة عن هذا التساؤل لا تستقيم الا بعد مراجعة هادئة لمحطات بارزة في تاريخ المصارف الذي لا يشجع على التفاؤل الشديد بانفراج قوانين السرية التي دوخت حكومات و "أهانت" افراداً نافذين. الدليل القاطع على ذلك نجده لدى رضا بهلوي شاه الثاني نجل شاه ايران الذي خلعته الثورة الاسلامية العام 1979. ففي 1989 زار الشاه الشاب - الذي تُقدر ثروته بالملايين على الأقل - مصرف "كريديت بنك" في جنيف وهبط الى القبو المخصص للاحتفاظ بخزائن الودائع الخاصة التي لا يمكن أحداً ان يفتحها ما لم يعرف رقمها السري. وعندما وقف أمام خزانة مستشاره الشخصي السابق أحمد علي مسعود ناصري، فوجئ بموظفي المصرف يطلبون منه مغادرة المكان فوراً بدعوى انه حاول المساس بخزانة شخص آخر. وبقيت تفاصيل الواقعة شبه غامضة، شأنها شأن الاجابات عن تساؤلات عدة من قبيل: كيف عرف رضا بهلوي خزانة مستشاره وحاول فتحها لو لم يكن لديه رقمها السري؟ واذا صح هذا الاحتمال فالأرجح ان الودائع كانت في الحقيقة من ممتلكاته التي اختار ان يخبئها تحت اسم آخر للتمويه! ومما يؤكد هذا الاستنتاج نجاح الدعوى التي اقامها وريث الشاه ضد مستشاره السابق بتهمة اختلاس معظم ثروته البالغة 25 مليون دولار وايداع القسط الاكبر منها في حسابات مصرفية سرية في سويسرا. وأمرت محاكم اميركية ناصري باعادة 7 ملايين و277 ألف دولار الى الشاه، اضافة الى الزامه دفع غرامة تبلغ مليوني دولار كما ذكر ل "الوسط" محامي رضا بهلوي الاميركي روبرت لوفتوس. اما اموال الشاه الراحل التي يعتقد بأنها تصل الى بلايين الدولارات، فيرى لوفتوس "انها على الارجح ليست موجودة في ارصدة مصرفية بل في خزائن حديد هي في الغالب من النوع المزود رقماً سرياً. وهذه الثروة ميتة تماماً كالشاه ذاته". وفيما اشيع ان تلك الخزائن الحديد مخبأة في أقبية مصارف سويسرية، قال المحامي الاميركي: "انني بصدق لا اعرف هل كانت للشاه الراحل اموال في مصارف سويسرية ام لا، وبطبيعة الحال لا يمكنني الاستفسار عن ذلك". لكن حكومة طهران تعرف ما ينفي المحامي معرفته او ما ترفض المصارف السويسرية مناقشته برفضها سماع مطالبات السلطات الايرانية الرسمية او اسئلتها المتعلقة بثروة الشاه السابق. ويعتقد ان السلطات الايرانية لا تزال تحاول مثل نظيرتها في جمهورية افريقيا الوسطى التي تطالب بحجر الاموال التي هربها الامبراطور السابق جان بيديل بوكاسا وأودعها في حسابات سويسرية سرية. لكن المصارف رفضت الخوض في قضية حسابات الديكتاتور المتهم باختلاس ما يزيد على 170 مليون دولار. لا يبدو ان حكاية بوكاسا تختلف كثيراً عن قصة ديكتاتور ثان هو جان كلود دوفالييه حاكم هايتي الذي اتخذ فرنسا منفى له بعد اطاحته، ربما ليكون قريباً من سويسرا حيث يتهم بايداع ثروة اضخم من ثروة نظيره الافريقي، وان كان مصدرها ايضاً الخزانة العامة للبلاد. وفيما جاء في بعض المصادر ان المبالغ التي أخذها دوفالييه وصلت الى 800 مليون دولار، فالأرجح ان الرقم لا يزيد على 400 مليون. ولكن ربما كان، مثل بوكاسا، ضحية عملية اختلاس نفذتها زوجته السابقة ميشال بينت وأبوها، اذ لا يستبعد ان يكونا اقتنصا اكثر الاموال التي أودعها دوفالييه باسميهما في مصارف سويسرية، وتقدر ب260 مليون دولار. وعلى رغم الضغط الذي مارسته الولاياتالمتحدة على السلطات في جنيف فقد رفضت المصارف فتح ملف الديكتاتور. لكن مثل هذا الفقر لم يعرف طريقه بعد الى عائلة فرديناند ماركوس، الرئيس السابق للفيليبين. اذ ان زوجته ايميلدا الشهيرة بمجموعتها الهائلة من الاحذية الباهظة لا تزال ترفل في أثواب الثراء. بفضل البلايين التي كدسها زوجها في مصارف سويسرية بدءاً من 1968 حتى اطاحته العام 1986. ثمة ما يشبه الاجماع على ان أرصدة ماركوس السرية لا تمثل سوى جزء بسيط من قيمة المجوهرات والأموال التي اتهمته حكومة الرئيسة كورازون أكينو باختلاسها. ويذكر ان اكينو التي انخبت بعد اطاحة الديكتاتور السابق توقعت ان تتراوح الثروة التي سرقها بين 5 و10 بلايين دولار، واتهمت ماركوس وزوجته بايداع نسبة محدودة من "ثروتهما" في المصارف السويسرية قد لا تتعدى 1.5 بليون دولار، تحت اسماء مستعارة منها ويليام سوندرز وجين ريان. ويبدو ان جيوب المصارف السويسرية منتفخة بأموال الفيليبين. فالمحاكمات استمرت فترة طويلة في الولاياتالمتحدة بهدف استعادة الاموال المختلسة. والغريب ان الحكومة الفيليبينية لم تستطع حتى الآن استعادة الكثير، ولم يبق لها من المبلغ الضئيل بعد دفع اتعاب المحامين الاميركيين سوى ألفي دولار. ولا يحق لمانيلا ان تشعر بفرح عامر لصدور حكم عن احدى محاكم لوس انجليس مطلع العام الحالي يُلزم مصرفي "كريدي سويس" و "سويس بانكورب" دفع حوالى 475 مليون دولار من أرصدة الرئيس ماركوس كجزء من التعويضات البالغة 1.9 بليون دولار يترتب عليه دفعها الى ذوي 9540 ضحية ممن يتحمل نظامه مسؤولية وفاتهم. فقد رفض المصرفان تنفيذ الحكم وهددت الحكومة السويسرية باتخاذ اجراءات للرد على قرار المحكمة الاميركية الذي يشكل تدخلاً سافراً في شؤون دولة اجنبية ذات سيادة. التنازل الكبير ولئن أفرجت المصارف السويسرية عن بعض اموال ماركوس، فهي قدمت هذا التنازل بعد شوط غير قصير من لعبة عض الاصابع المضنية التي لم تتمخص حتى الآن عن اعترافها بالقيمة الحقيقية لثروة الديكتاتور الراحل المودعة لديها. غير ان اصابع المصارف بدأت تدمى، كما يبدو، بعدما استغرقت اللعبة ذاتها اكثر من خمسين عاماً على جبهة اخرى هي النزاع على اموال ضحايا الهولوكست اليهود. وخلال تلك الفترة رجحت كفة مستودعات المال الحصينة التي اتقنت فن تقديم التنازلات المحسوبة جيداً. فالمواجهة بدأت العام 1946 بإقرار "اتفاقية واشنطن" التي كانت اشبه بباب دُفعت منه المصارف دفعاً الى مرحلة تنازلات لم تعرفها من قبل. فقد التزمت بموجب الاتفاقية تسديد 16 مليون فرنك سويسري تعادل حالياً حوالي 57 مليون دولار الى ضحايا النازية، شرط ان يُرفع الحظر عن الاصول السويسرية المجمدة في اميركا وعن الموجودات الالمانية في سويسرا. لكن هذه المصارف عاودت في السنة التالية نفي "إشاعات راجت عن وجود مبالغ يهودية كبيرة في أرصدة سويسرية". وأعلنت ان الودائع التي اختفى اصحابها لا تتعدى قيمتها 200 ألف فرنك سويسري. وواصلت الاصرار خلال السنوات العشر التالية على ان ودائع العملاء "مجهولي الاقامة" لم تصل في مجموعها الى مليون فرنك سويسري. الا ان الضغوط التي مارسها الحلفاء طوال اعوام عدة اسفرت اوائل الستينات عن التنازل الحقيقي الاول الذي قدمته بيوت المال الى اليهود من ضحايا المحرقة النازية. ففي 1962 صدر قانون سويسري يجبر المصارف على اعداد لوائح بالمبالغ التي لم يطالب بها اصحابها الاجانب او لاجئو الحرب. وتمخض البحث الذي كلفت المصارف اجراؤه العام 1963 عن رصد مبلغ 9.5 مليون فرنك سويسري تعادل حالياً 17 مليون دولار. ولم تُوزع هذه الاموال الا بعد عشر سنوات استغرقتها عملية تدقيق وتمحيص ل7 آلاف طلب تقدم بها الورثة. وفي نهاية المطاف ذهب 7.5 مليون فرنك سويسري الى 961 وريثاً، فيما نالت الجماعات اليهودية السويسرية حوالى 1.3 مليون فرنك تخلت عنها لاحقاً الى "لجنة التوزيع اليهودية - الاميركية المشتركة". اما المبلغ الباقي فكان من نصيب منظمة سويسرية لاغاثة اللاجئين. ولم تكف المنظمات اليهودية عن المطالبة بمزيد من الاموال، خصوصاً ان 6039 يهودياً تقدموا بطلبات ولم يشملهم سخاء المصارف السويسرية. كما لم تغير هذه الاخيرة عاداتها المألوفة. فبعد كثير من الأخذ والرد اعترفت "جمعية المصارف السويسرية" مستهل العام الحالي بأن في خزائنها 32 مليون دولار خاصة بيهود، استناداً الى تحقيق اجرته المصارف ذاتها. لكن رئيس "الوكالة اليهودية" ابراهام بورغ قال "ان الرقم لا يُصدق" اذا قورن بالأموال اليهودية التي يعتقد بأنها لا تزال في المخابئ السويسرية. ويذكر ان الصحيفة الاقتصادية الاسرائيلية "غلوبس" اشارت الى ان هذه الاموال لا تقل عن 6.7 بليون دولار. لكن هذا الرقم التقديري لم يحظ بقبول يذكر. ولم تلبث المصارف ان انحنت مرة اخرى للعاصفة التي اثارها الاعلان عن قيمة الودائع اليهودية فوافقت في ايار مايو الماضي على تكليف "لجنة الاشخاص البارزين المستقلة" المؤلفة من ستة اعضاء يختار نصفهم كل من الجانبين السويسري واليهودي للاشراف على التحقيق في مصير الاموال اليهودية المفقودة. واختارت "منظمة التعويض اليهودية العالمية" رئيس الكنيست الاسرائيلي العمالي السابق شيفاه فايس ورئيس "الوكالة اليهودية" بورغ الذي رشحه لذلك رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيريز ممثلاً لحكومته في اللجنة، الى جانب رئيس "الكونغرس اليهودي في اميركا اللاتينية" ريوبن بيراجا. اما المصارف فانتقت البروفسور كورت غازيير اضافة الى سويسريين من اصل يهودي هما البروفسور الان هيريش وسفير سويسرا السابق لدى واشنطن كلاوس جاكوبي. ومارست اللجنة صلاحياتها فانتخبت الرئيس السابق للاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الاميركي اليهودي بول فولكر رئيساً لها. وتأخر انعقاد الاجتماع الاول بضعة اشهر، وحين التأم قررت اللجنة عدم اصدار بيان رسمي في نهاية الجلسة الافتتاحية بسبب الفشل في "الوصول الى اتفاق واضح على آلية مواصلة العمل"، كما ذكر ل "الوسط" جيسي تولفيلد الناطق باسم وكالة "كيكست" الاميركية للعلاقات العامة المكلفة ايضاح موقف المصارف السويسرية في الولاياتالمتحدة. الاهتمام الاميركي لعل هذا التلكؤ في الاتفاق على خطة عمل مجدية هو اكثر المشكلات التي تعترض سبيل اللجنة بساطة، فالمهمات المنوطة بها كبيرة، وتكاد اهدافها تكون مستحيلة على رغم الاهتمام البالغ الذي يبديه الفريقان المتنافسان على رئاسة الولاياتالمتحدة بإنصاف ضحايا الهولوكوست! ويبدو ان اقتراب موعد انتخاب الرئاسة ساعد اللوبي الاسرائيلي على تحريك الديموقراطيين والجمهوريين الذين يتسابقون للظهور مظهر المتشدد في مطالبة المصارف باعطاء كل ذي حق حقه. هذه الحماسة الانتخابية لعبت دوراً كبيراً في دفع القضية الى واجهة الاحداث منذ اشهر، بعدما بقيت عشرات السنين في الظل. وأسرع الرئيس بيل كلينتون الى تكليف ستيوارت ايزنيستات مساعد وزير التجارة لشؤون التجارة الدولية الاشراف على جهود الادارة الاميركية بحثاً عن الاموال اليهودية، وتنسيق مساعي البيت الابيض مع الجهود الاخرى المبذولة للغاية ذاتها. ولم يتردد ايزنيتسات، لدى سؤاله عن سر التنازل السويسري والموافقة على تشكيل اللجنة المستقلة، في رد نصف النجاح الى البيت الابيض وموظفيه، اذ قال ان السبب يكمن في تضافر عوامل عدة منها "الاهتمام الاعلامي، وجهود ادارة كلينتون والسفارة الاميركية في برن والكونغرس اليهودي العالمي". اما الجمهوريون فلم يكونوا اقل اكتراثاً بالأمر من خصومهم السياسيين، بل يعتقد بأن الجلسات التي عقدتها اللجنة الفرعية للمصارف التابعة لمجلس الشيوخ برئاسة السناتور الجمهوري الفونسو داماتو للاستماع الى الشهادات المتعلقة بالأموال اليهودية استقطبت اهتماماً اعلامياً واسعاً ساهم في اقتناص التنازل السويسري. اذ تتمتع اللجنة بصلاحيات كبيرة تخول اليها تنظيم نشاطات المصارف الاجنبية في اميركا وفرض قيود عليها. وربما خشيت المصارف السويسرية التي اقامت في اميركا 13 فرعاً في ست ولايات على مصالحها من بطش اللجنة الذي قد يكلفها استثمارات ببلايين الدولارات في اسواق البورصة وغيرها. الا ان الضغط الاميركي على اهميته لا يفسر بمفرده التنازل السويسري النفيس، فقد لعبت الحكومة الاسرائيلية دوراً في ذلك، وتابعت الموضوع منذ الستينات وطالبت الجانب السويسري، رسمياً بصرامة متفاوتة بطبع قوائم لكل الحسابات التي فتحت قبل نهاية الحرب وبعدها. وألحت على ضرورة ان يحذو السويسريون حذو الالمان فيدفعوا تعويضات جماعية لليهود ولاسرائيل. ويعتقد ان الاتفاق على فض النزاعات الداخلية بين منظمات يهودية، منها "الوكالة اليهودية" و "الكونغرس اليهودي العالمي" و "لجنة التوزيع المشتركة"، كان من أهم العوامل التي جعلت التنازل السويسري ممكناً. فالخلافات الحادة احياناً بين المجموعة اليهودية التي تبنت قضية ضحايا الهولوكست اعاقت الجهود المشتركة للحصول على التنازل سنوات طويلة. غير ان المعوقات الحقيقية للهدف الكبير قد تكون ذاتية قبل اي شيء آخر. وهذه الصعوبات غابت عن بال كثيرين بسبب الضباب الكثيف الذي نسجته وسائل الاعلام حول المصارف السويسرية. وساد الافتراض ان المصارف مذنبة. وتعززت ادانة بيوت المال السويسرية بسبب سمعتها وما عُرف عنها من سرية وعناد، اضافة الى تسلل العاطفة الى احكام رسمت الخلاف وأطرافه بالاسود والأبيض. مرت سنوات كثيرة والمصارف تقف وحيدة صامتة امام سيل الاتهامات التي تنهال عليها من هنا وهناك، حتى طاول السخط البلاد كلها وغدت سويسرا وابناؤها مهتمين بلعب دور مباشر في صعود النازيين ومجازرهم. وباستثناء اخفاء اموال ضحايا الهولوكوست، ذُكر ان سويسرا أبعدت اليهود الهاربين من البطش النازي، وساهمت في مساعدة اقتصاد الحرب النازي، وأخفت الذهب الذي سرقه النازيون من الدول التي احتلوها" كما يقول البروفسور ديفيد سيزارين استاذ التاريخ اليهودي في جامعة مانشستر في بريطانيا. فيما لا ينفي الباحث هذه الاتهامات تماماً، فهو يؤكد ان بعضها يغفل السياق الذي ارتكبت فيه الخطيئة، مثل نسبة البطالة المرتفعة والحركة النازية النشطة اللتين منعتا سويسرا من الترحيب باللاجئين اليهود. وعلى رغم الجهد الكبير الذي بذلته سويسرا الضعيفة للحفاظ على حيادها، فقد كانت "قاعدة مهمة لوكالات الاغاثة والانقاذ اليهودية، وتحولت سياستها تجاه اللاجئين منذ منتصف العام 1943". قالت المصارف... أما بالنسبة الى التهمة الرئيسية فالخلاف يبدأ بالرقم التقديري للأموال "اليهودية" ولا ينتهي عنده. وتقول المصارف مثلاً ان معظم الأرصدة الاجنبية لم يكن من النوع الذي يحظى بفائدة مما يعني ان مبلغاً ضخماً في الاربعينات يعد متواضعاً بأرقام هذه الايام. ومن جهة اخرى تعتقد جمعية المصارف السويسرية بأن "ما يزيد على 80 في المئة من الاموال التي أتت من الخارج حُولت الى الولاياتالمتحدةوبريطانيا خشية ان تتعرض سويسرا لغزو ألماني. وللسبب ذاته، حولت المصارف السويسرية جزءاً كبيراً من موجوداتها الى اميركا كي تضمن بقاءها في مأمن". ويبدو ان مجلة "جيروزاليم ريبورت" لا تختلف مع جيسي تولفيلد في ما ذهب اليه، وكتبت في تحقيقها الرئيسي "أعيدو لنا أموالنا" 29/6/1995: "لا شك ان هناك أموالاً يهودية لا تزال منسية في المصارف السويسرية". لكنها لم تنف "ان الناجين الذين تحمل الارصدة اسماءهم الحقيقية وفي حوزتهم الوثائق المطلوبة استطاعوا ان يستعيدوا أموالهم حين امكنهم الوصول الى سويسرا بعد الحرب ... أو ان المراسل نفسه او الشخص المؤتمن غير اليهودي الذي هرب الأموال بادئ الامر الى سويسرا نزولاً عند رغبة اصحابها اليهود تولى سحبها بعد الحرب". أما الأموال التي يعتقد بأنه لم يكتب لها التحرر من أسر المصارف فتخضع بطبيعة الحال للقانون السويسري الذي ينظم المسائل المالية بمنتهى الدقة والصرامة. والمصرف غير ملزم الاحتفاظ بأموال لم يسأل عنها صاحبها خلال عشر سنوات، بل هو مطالب بتوريد جزء منها للخزانة العامة. اما الجزء الباقي فيصبح بطبيعة الحال ملكاً للمصرف يستثمره كما يشاء. ويفرض القانون على المصارف التقيد بأقصى درجات السرية مما يمنعها من الادلاء بمعلومات الى اي شخص ما لم يكن صاحب الرصيد او وريثه الشرعي. ولما كانت اكثر اموال اليهود ومناهضي النازية اودعت في مصارف سويسرا تحت اسماء مستعارة لتجنب وقوعها في أيدي الألمان، فإن بحث الورثة عن اموال ضحايا الهولوكست ينتهي غالباً الى طريق مسدود لعدم معرفتهم الاسماء التي انتحلها اقرباؤهم. واذا تنكرت المصارف لطبيعتها - خصوصاً انها باحثة دوماً عن مزيد من المال والارباح - واعادت اموالاً يهودية الى احد المطالبين بها فهي لن تخرق بذلك قانون السرية المصرفية فحسب، بل قد تجد نفسها ضحية عملية احتيال ذكية. وكما يحذر القانون المصارف من اعطاء اي معلومات، فهو يطالبها باعادة الودائع الى من يثبتون انهم ورثة مودعيها. ويشهد نوح فلوغ الامين العام ل "منظمة التعويض اليهودية العالمية" بالتزام المصارف هذه القاعة الذهبية. وكان فلوغ إبان الثمانينات قنصل اسرائيل الاقتصادي في زيوريخ ولاحظ، "ان السويسريين رسميون لكنهم عادلون جداً، حسب رأيهم. فإذا استطعت ان تثبت انك وريث مباشر وأبرزت الوثائق الضرورية كلها أمكنك ان تأخذ الاموال". ويذكر في هذا السياق ان احد ابرز المصارف السويسرية المطالبة باعادة مبالغ ضخمة هو "بنك جوليوس باير" الذي أنشأه مصرفي يهودي في زيوريخ ويديره حالياً حفيده هانس باير. ويؤكد السويسريون انهم دفعوا الكثير لورثة شرعيين، وكانوا على الدوام مستعدين للتراجع عن رفض المطالبات اذا ثبت ان اصحابها على حق. وهكذا تصبح العودة عن الانكار الجازم حسنة يفخر بها القائمون على المصارف، وليست وسيلة من وسائل المناورة التي يتهمون بالتفنن فيها. وعلى العكس فإن التردد، في رأي المصرفيين السويسريين، يكاد يكون صفة ملازمة للبحث عن اموال الضحايا اليهود. وهي دلالة على الصعوبات الشديدة التي تحف بها. ولو كان المصرفيون يخشون افتضاح سلوك مخالف للقانون والأخلاق في ما يتعلق بأموال ضحايا الهولوكست، لما عينوا اثنين من يهود سويسرا ليمثلوهم في "لجنة الاشخاص البارزين المستقلة". ويستخلص تولفيلد من هذا الاختيار معاني اخرى: "واضح ان ثمة من يعتقد بأن ثروة كبيرة مخبأة في مكان ما لدى المصارف لكن السبب الذي دفع المصرفيين السويسريين الى الانفتاح التام وتعيين مصرفيين يهوداً في اللجنة هو تأكدهم من عدم وجود شيء أموال يهودية لديهم". ان الاتفاق مع وجهة النظر هذه صعب، ويكاد الاختلاف معها يكون اكثر صعوبة، لأن السمة الجوهرية للبحث عن الاموال اليهودية انه في غاية التعقيد والغموض ويخفي الكثير من المفاجآت. وآخر هذه الحقائق التي بقيت مجهولة حتى الماضي القريب هو أدلة عُثر عليها في بعض ملفات تحقيق "الملاذ الآمن" وتوحي بأن الحلفاء كانوا يعرفون الكثير عن آلية استفادة النازيين من الدول المحايدة لاخفاء موجوداتهم المالية. ويقال ان "البنك الوطني السويسري" دفع للحفاء الثلاثة 250 مليون فرنك سويسري 133 مليون دولار في 1946 بعد الانتهاء من تحقيق "الملاذ الآمن" الذي اجرته الاستخبارات الاميركية لمعرفة كيف استخدم النازيون السويدوسويسرا مخبأ لأموالهم. وفي 1952 حل موعد دفع القسط الثاني الذي بلغ 121 مليون فرنك سويسري وحظيت به فرنساوبريطانيا. وفيما نفت حكومات البلدان الثلاثة تورطها في غض الطرف عن شراء السويسريين الذهب الذي سرقه النازيون من ضحاياهم اليهود وغير اليهود، لا يستبعد ان يكون الطرفان توصلا الى تفاهم يصعب اكتشاف طبيعته. فالتفاهم وحده يمكن ان يفسر سكوت الحلفاء على تمرد المصارف السويسرية التي لم تكن يوماً حملاً وديعاً، خصوصاً انها لم ترضخ لأوامر الحلفاء الا في الوقت الذي يناسبها. وتصلح قضية اطنان الذهاب التي صادرها النازيون من مصارف الدول التي احتلوها خلال الفترة 1939 - 1941 مثالاً للعلاقة الغريبة بين الحلفاء والسويسريين، اذ لم يستجيبوا لإلحاح بريطانيا وأميركا المستمرين على اغلاق المصارف السويسرية في وجه الذهب النازي المسروق الا عشية هزيمة الالمان. ولذلك اطلق دين اشيسون الموظف في وزارة الخارجية الاميركية عبارته الشهيرة "في نيسان ابريل 1945 استسلم السويسريون لرغبة الحلفاء قبل شهر واحد من استسلام الجنرال جودل المسؤول عن رسم الاستراتيجية الالمانية اثناء الحرب". ولم يكن انتصار الحلفاء الذين احتلوا المانيا كافياً لاقناع السويسريين بالاصغاء الى مطالب الحكومات الظافرة واعادة الذهب المسروق. وحين وافقوا في ايار مايو 1946 فان ذلك تم على اساس "صفقة" نظمت "اقتسام المبلغ" طبقاً لما ذكره البروفسور سيزارني. الاقوياء يصنعون التاريخ ويكتبونه، ولذا فهو دائماً ميدان خلاف ومساءلة. والغلبة في قضية الاموال اليهودية المفقودة لن تكون، كما يبدو، الا لمن ينتصر على ساحة التاريخ. ففي مساربها المظلمة مفاتيح الاسرار كلها مكفنة بستائر سميكة من النسيان، او التناسي، المنسوج من ورق البنكنوت ذلك الرحم الذي ولد منه النفوذ. ولئن اثبتت المصارف حتى الآن انها ليست خصماً سهلاً، فمن يدري ان كانت الحكومة قد انقلبت عليها حقاً، وماذا ستكون نتيجة قرار المجلس الاتحادي السويسري التحقيق في تعامل النازيين مع المصارف؟ والأهم ان هذه البيوتات المالية مطالبة بالتغاضي عن قواعد السرية واطلاع ممثلي الحكومة على سجلاتها كلها خلال الفترة 1933 - 1945! هتلر البليونير! مؤسس النازية أدولف هتلر كان بليونيراً، حسب المعايير الحالية، اذا ثبتت صحة الوثيقة التاريخية التي كشفت أخيراً في الولاياتالمتحدة. وكانت صحيفة "جويش كرونيكل" الصادرة في لندن نشرت ان باحثين لدى "الكونغرس اليهودي العالمي" عثروا بين ملفات الحرب العالمية الثانية التي سقطت عنها صفة السرية في "الارشيف الوطني الاميركي" في نيويورك، على تقارير للاستخبارات الاميركية تثبت ان هتلر احتفظ برصيد مصرفي سري في سويسرا. وأكدت الصحيفة اليهودية ان الوثائق التي اكتشفت مصادفة في سياق البحث عن اموال ضحايا الهولوكست، تدل الى ان الزعيم النازي كان بين زبائن "يونيون بانك أوف سويتسزرلاند" UBS الذي يعتبر واحداً من اضخم المصارف السويسرية الملقبة ب "الثلاثة الكبار". وتشير هذه التقارير الاستخباراتية المؤرخة في تشرين الاول اكتوبر 1944 الى ان الموظف الألماني ماكس أمان "المتعاون المقرب من هتلر" أشرف على الرصيد السري للفوهرر اولاً بأول. اما الاموال المودعة في الرصيد فكانت عائدات كتاب "كفاحي" الذي وضعه هتلر في السجن وصدرت طبعته الاولى عام 1925. ويذكر ان ملايين النسخ بيعت من هذا الكتاب في المانيا وحدها بعد وصول مؤلفه الى السلطة في 1933، اذ تقرر تدريسه للطلاب في طول البلاد وعرضها، لأنه تضمن المبادئ الاساسية للنازية والخطوط العريضة لفلسفتها وقناعاتها الجوهرية مثل التفوق الفطري للعرق الآري والعداء القاتل للشيوعية ومسؤولية اليهود عن الهزيمة التي لحقت بالألمان في الحرب العالمية الأولى! ويبدو أن الألمان فضلوا مصرف UBS السويسري على غيره، لأنهم أودعوا فيه - اضافة الى اموال هتلر - "عائدات الحزب النازي في الخارج بالعملات الاجنبية" التي وجدت طريقها ايضاً الى ارصدة سرية في المصرف "الكبير". واستقطبت انباء الرصيد السري اهتماماً واسعاً، مع ان اكتشاف ثراء ديكتاتور احتلت جيوشه دولاً عدة ونهبت ثرواتها يجب ان لا يفاجئ احداً. لكن السمعة الدموية التي عُرف بها زعيم النازية الذي حكم ألمانيا ورقعة واسعة من اوروبا واتهم بارتكاب جرائم الهولوكست، شغلت العالم عن الثروة الشخصية التي كدسها حتى جاءت الوثائق "الجديدة" لتسلط الضوء على ارصدة سرية يعتقد بأنه صاحبها. غير ان توقيت الاعلان عن وجود هذه "الأدلة الدامغة" لم يكن بريئاً تماماً، فهو تم خلال فترة ينشط البحث الدائب عن أموال ضحايا الهولوكست التي تُتهم مصارف سويسرية باخفائها. والتقارير الاستخباراتية التي "تثبت" تورط مصرف سويسري عريق في عملية حفظ اموال الحزب النازي وزعيمه يمكن ان تكون ورقة ضغط جديدة في أيدي ورثة ضحايا الهولوكست اليهود، خصوصاً بعدما تعثرت محاولة "لجنة الاشخاص البارزين المستقلة" للاتفاق على خطة تكفل احراز تقدم ملموس في البحث عن اموال الضحايا، وقررت الحكومة الاتحادية السويسرية رفع السرية عن الملفات المصرفية "اليهودية".