مهرجان "لبنان 96" حقّق في باريس نجاحاً مقبولاً، وأثار الكثير من الجدل. والتظاهرة يقف وراءها المخرج شريف الخزندار الذي أخذ عليه البعض اسرافه في التفاؤل بعودة بيروت إلى دورها الريادي. لكن مدير بيت ثقافات العالم "غير نادم على شيء". أما مسرحيّته "جوليا دومنا" فتقدّم في جرش خلال الأيّام الأخيرة من الشهر الجاري. شهدت العاصمة الفرنسيّة خلال الموسم الماضي مهرجاناً خاصاً بالثقافة اللبنانيّة، هو الأضخم ربّما منذ انتهاء الحرب الأهليّة. وتظاهرة "لبنان 96" التي تميّزت بحجمها وامتدادها الزمني وتنوّع فعالياتها، لم تلقَ أي دعم من جهات رسميّة لبنانيّة كوزارة الثقافة، بل قامت بمبادرة مسرح باريسي معروف باهتماماته الثقافيّة الخارجة على الدائرة الأوروبيّة المكرّسة، وبدعمه للمسرح العربي والموسيقى العربيّة. هذه المؤسسة يشرف عليها المسرحي السوري الأصل شريف الخزندار، وتحظى بدعم رسمي فرنسي. وكان من الطبيعي أن يثير الحدث مجموعة من ردود الفعل والنقاشات والانتقادات التي قصدنا الخزندار لنحاول حصرها. فجاء هذا الحوار نوعاً من جردة الحساب، بعد سقوط ستارة الفصل الأخير على هذا الموسم الحافل الذي امتاز بصخبه. ما الدافع إلى تنظيم مثل هذه التظاهرة في باريس سنة 1996؟ هل هي لفتة وفاء إلى حركة مسرحية رائدة كنتَ طرفاً فيها، وإلى مشروع حداثة عربية عانى ما عاناه، ثم عاد إلى نقاهته الصعبة أخيراً؟ هل جاءت مبادرتك امتداداً للسياسة الخارجية الفرنسية، في سياق انفتاحها مجدّداً على لبنان؟ - كل التظاهرات التي ننظّمها تنبع بالدرجة الأولى من تفاعلنا "العاطفي" مع ما نشاهده، أو ما نسمع به، من ثقافات العالم. ليست هناك في "بيت ثقافات العالم" أية برمجة تستند إلى دوافع سياسية أو اقتصادية أو غيرها... نحن نتابع الانتاج الثقافي في هذا البلد أو ذاك، ويلفت نظرنا عرض مسرحي معين أو نسمع بفرقة موسيقية ما، فننتقل إلى المكان للاطلاع المباشر، والحكم على نوعيّتها وإذا ما كانت تستحق التعريف بها في فرنسا. ثم نبدأ في التفكير والبحث عن وسائل وكيفية تقديمها. وتظاهرة "لبنان 96" وُلدت فكرتها الأولى بهذا الشكل، انطلاقاً من لقاءات معينة، ومن نقاش مطوّل جمعني بأرواد إسبر، حيث تحدثنا عن لبنان وأحداثه، وعمّا ينتج حالياً في الثقافة اللبنانية. بعد ذلك سافرت إلى بيروت، وعدتُ مقتنعاً بضرورة تقديم صورة أخرى عن لبنان للجمهور الفرنسي، غير التي تعوّد عليها من خلال وسائل الاعلام، منذ قرابة عقدين. أحسست بضرورة التأكيد على استمرارية الحركة الثقافية، على الرغم من كل ما عاشه هذا البلد من ويلات، كما فعلنا أثناء الحرب حين استضفنا عرضاً لروجيه عسّاف و"مسرح الحكواتي"، وعروضاً موسيقيّة ومسرحيّة أخرى. أردت هذه التظاهرة إذاً وقفة لرصد ما هو موجود وما يُنتج حالياً في الثقافة اللبنانية. بالطبع لم يكن بالامكان تقديم كل شيء، وكان لا بد من عمليّة اختيار وانتقاء تستند إلى رؤية معينة للوضع الثقافي في هذا البلد. وهي تبقى نظرة ذاتية، فكلّ اختيار ينطوي حكماً على جانب من عدم الموضوعية... طرحت تساؤلات عدّة حول كيفية اختيار الأعمال المشاركة: وهل العروض التي قُدِّمت تمثّل واقع الحركة المسرحية اللبنانية اليوم بمختلف تياراتها ورموزها؟ والسؤال نفسه طُرح حول الاسماء التي شاركت في ندوات الشعر والمسرح والرواية؟ - لا يمكن لأي تظاهرة ثقافية أن تدّعي لنفسها طابع الشمولية. ولكننا حاولنا تقديم أعمال متنوعة تمثّل مختلف التيارات والحساسيّات، وحرصنا على تفادي السقوط في فخّ البقاء أسرى خندق معيّن. كما عملنا على الاستعانة بالعناصر والاشخاص الذين نرى أنهم يعكسون أهم ميزات الثقافة اللبنانية الحاليّة، وهي ميزة التعدّد. ففي ندوة المسرح مثلاً، شاركت شخصيات من تيارات مختلفة، ومن تخصّصات متنوعة. كان هناك مخرجون وناقد وممثّلة ومدير مسرح إلى جانب مؤلف هو مسؤول ثقافي فرنسي من أصل لبناني، وساهم كلّ من هؤلاء في اغناء النقاش انطلاقاً من تجربته ورؤيته الشخصية. أما في مجال الرواية فاستندنا إلى معيار آخر مختلف، إذ تعمّدنا ألا نستدعي سوى الروائيين الذين تُرجمت أعمالهم إلى اللغة الفرنسية... وهل يعني ذلك أنهم أكثر تمثيلاً للرواية اللبنانية من زملائهم غير المترجَمين؟ - لا طبعاً! ولكن هذه القاعدة على الرغم من أنّها ضيّقت علينا مجال الخيار، تبقى ضرورية لكي يكون لدى الجمهور الفرنسي، الذي يتابع الندوة ومناقشة هؤلاء الروائيين، حد أدنى من الاطلاع على أعمالهم. المعايير التي اعتمدناها قابلة للنقاش، ولكن يجب أن يكون في الأذهان أننا نتوجه إلى جمهور فرنكوفوني. وإلا فإن تلك النشاطات ستبقى غير مجدية أو ذات أثر محدود. فخّ الصداقة... لم تسلم ندوة الشعر، بدورها، من النقد. حيث أُثيرت تساؤلات كثيرة عن خلفيّات تغيب أنسي الحاج عن أمسية التكريم والقراءات التي كان من المفروض أن تجمعه وعبّاس بيضون. هل صحيح أنه احتجّ على اختياركم أدونيس لتقديم الشاعرين والتعريف بهما؟ وهل كنتم على علم مسبق بهذه الانتقادات وبقراره الانسحاب من التظاهرة؟ - قدّمنا أنسي الحاج وعبّاس بيضون، اعتقاداً منّا أنّهما يمثلان طليعة الحركة الشعرية اللبنانية. وإضافة إلى الأمسية المخصصة لهذين الشاعرين اللذين قدّمهما أدونيس، افتتحنا المهرجان بأمسية شعريّة شاملة، أدّت خلالها الممثلة نضال الأشقر مختارات شعرية لأهم الأصوات على الساحة اللبنانية. أما أنسي الحاج، فلم يعبّر لي عن أي اعتراض أو احتجاج على اختيار ادونيس لتقديم الامسية. ولا أعتقد أن هذا هو سبب انسحابه، فهو اعترض على مشاركة شاعر أو شعراء آخرين في الأمسية المخصّصة له، وطالب بأمسية له وحده. لكن طلبه لم يكن ملائماً مع الأسلوب الذي اعتمدناه في برمجة فعاليات هذه التظاهرة. وما حكاية احتجاج ريمون جبارة بعد مشاركته في التظاهرة ب "زردشت صار كلباً"، فهو عاد إلى بيروت وكتب مقالة قاسية بحق المهرجان. فما هي مآخذه عليكم؟ - لم أطلع على هذه المقالة، ولا أدري ما هي مآخذ ريمون جبارة علينا. ولكن يمكن أن أقول ما هي مآخذنا نحن عليه، أو بالأحرى على عرضه المسرحي الذي لم يعطِنا الوسائل اللازمة لجعله في متناول جمهورنا. فنحن حرصنا على أن تكون العروض المسرحية المقدَّمة إما ناطقة باللغة الفرنسية، أو مرفقة بترجمة فرنسية مكتوبة. وبذلنا جهوداً كبيرة لانجاز الترجمات، ورصدنا لذلك موازنة كبيرة، خصوصاً بالنسبة إلى "زردشت صار كلباً". كان همّنا أن نتيح لريمون جبارة فرصة العودة بعمل مسرحي جديد، بعد سنوات طويلة من الغياب. وعلى الرغم من إلحاحنا، لم نتمكن أبداً من الحصول على الصيغة النهائية لنص هذه المسرحية، كي نترجمه. كما لم نحصل على تسجيل فيديو للعرض، علماً بأنها ضرورية للاطلاع على ايقاع التمثيل، وضبط الترجمة المرافقة. وكل ذلك أدّى إلى تقديم العرض بشكل جعله مستعصياً على معظم المشاهدين. والمسؤولية تقع على المخرج الذي كان لديه جهل بتركيبة هذا الجمهور، أو ربّما احتقار له. خلال اعداد برنامج "لبنان 96"، كان علينا تفادي السقوط في مطبّات عدة، منها ماتمكننا فعلاً من اجتنابه، مثل فخ الصداقات والميول والعلاقات الشخصية. لكنّني اعترف أن هناك فخّاً لم أنجح في تفاديه، هو فخ الشفقة! هناك قضيّة أخرى أثارت التأويلات والتكهّنات. ما جرى بينك وبين نضال الأشقر؟ في البدء أعلنت عن قيامها ببطولة مسرحيّة "جوليا دومنا" التي قمتَ باخراجه، وكتبتها مع فرنسواز غروند. ثم عهدت بالدور إلى الممثلة اللبنانية، المعروفة عالمياً، ميراي معلوف. لماذا تم استبدال ممثّلة بأخرى؟ تردّد أن الاشقر انسحبت لكثرة أشغالها، فيما أوردت مصادر أخرى أنك أنت الذي اعتذرت منها، لأن الدور لا يناسبها؟ - هنا أيضاً يتعلق الأمر بتفادي فخّ معين، هو فخ الصداقة. ونضال الأشقر شخصية متميزة، وهي شاركتْ في المهرجان بشيء تتقنه جيداً هو إلقاء الشعر. والصداقة التي أكنّها لها، وأعتقد أنها متبادلة، كانت تقتضي أن ننجز معاً "جوليا دومنا". ولكن الصداقة لا يجب أن تنسينا بعض مقتضيات العمل المهمة، وفي مقدّمها تخصيص غالبيّة وقتنا للمسرحيّة، على مدى أشهر عدّة. وتبيّن لي بسرعة أن نضال الأشقر أخذتها مشاغل أخرى، وأن ذلك سيحدّ من قدرتها على انجاز هذا العمل. لذا عدلت عن المشروع بسرعة، وتوجّهت إلى فنانة أخرى هي ميراي معلوف. عملنا على المسرحية في باريس وليس في بيروت كما كان مقرّراً ، وسمحت لي الصيغة الجديدة بتقديم العرض باللغتين العربية والفرنسية. المشكلة التي اعترضتنا تقنية وعملية، وأنا استبدلت مشروعاً بآخر، وليس ممثلة بأخرى... تأمّل في السلطة في "جوليا دومنا" تتعدّد مستويات القراءة، ويتقاطع المشروع مع الأرضية اللبنانية، من دون أن يكون لبنانياً بحتاً. هل أردت ان تتناول الراهن العربي، انطلاقاً من الجرح اللبناني وربما غيره - بصيغة الكناية التاريخية والاستعارة والمجاز؟ - علاقة المسرحيّة بلبنان تدور في اعتقادي حول نقطتين. الأولى تكمن في بعض العناصر التاريخية، مثل عشتار وهي لبنانية، وجوليا دومنا التي تنتمي إلى المنطقة. أما العلاقة الثانية فهما الممثلتان ميراي معلوف ونينار إسبر اللتان تؤدّيان العرض. أما الرؤية التي حدّدت مسار النصّ والاخراج، فالتأمّل في السلطة عموماً، من دون تحديد الزمان أو المكان. وهي أيضاً تأمل في العلاقات بين الشعوب، عبر قصة هؤلاء الأجانب الذين تولّوا السلطة في الامبراطورية الرومانية وأسهموا في ازدهارها... وما هي الأصداء التي لاقتها مسرحيّتك، والمهرجان بشكل عام، في الاعلام الفرنسي؟ - كانت هناك متابعة ايجابية لفعاليات التظاهرة في الصحافة الفرنسية. والاصداء الاعلامية الطيبة التي لاقتها "جوليا دومنا"، أتاحت لها فرصة الاستمرار لمدة سنة ونصف بعد الآن، إذ تلقّينا دعوات للمشاركة في العديد من المهرجانات، مثل مهرجان جرش، مهرجان مارسيليا، مهرجان لشبونة، مهرجان المدينة في تونس، مهرجان جامعة جورجتاون في واشنطن، ومهرجان مسرح الأمم في سيول، إلخ. لو طلبنا منك أن تقوم بجردة حساب لتظاهرة "لبنان 96"، وربما بعملية نقد ذاتي، فماذا تقول؟ - أولى ايجابيات التظاهرة أننا تمكنا من تحقيق كامل فقراتها. وذلك لم يكن مؤكداً، إذ واجهنا مصاعب فاقت كل ما توقعناه. وعشية كل فقرة، كنا نتساءل هل سنتمكّن فعلاً من تقديمها. تخطينا كل المصاعب المالية والتنظيمية، وحقّقنا كامل فقرات البرنامج. والجانب الايجابي الثاني يكمن في الصدى الاعلامي الواسع الذي لاقته التظاهرة، سواء في الصحافة العربية أو الغربية. كما انها نجحت في إثارة النقاش والجدل، وذلك شيء إيجابي دوماً... حيث أن هدف تظاهرة مثل هذه هو اثارة الاسئلة وإفساح المجال للحوار ولمختلف وجهات النظر... أما الجوانب السلبية، فهي برأيي تكمن في غياب الجمهور عن بعض فعاليات التظاهرة. وإذا كان الغناء والرقص والندوات لاقت اقبالاً جيّداً، فان المسرح للأسف لم يجذب سوى جمهور محدود. لكنّني سأعاود الكرّة في مناسبات مقبلة، ولست نادماً على شيء! لوحظ في العدد الخاص من مجلة "أممية المتخيّل"، الذي صدر على هامش "لبنان 96"، أنك شخصياً كنت متفائلاً كثيراً بواقع الثقافة اللبنانية، فيما معظم الكتّاب والفنانين اللبنانيين الذي شارك في العدد، كانت له نظرة سوداوية إلى الواقع. هل خفّفت التجربة من تفاؤلك حيال ثقافة هذا البلد؟ - لا! لم يتغيّر رأيي مطلقاً، وأنا ما أزال متفائلاً، على رغم كلّ شيء. لا بدّ في اعتقادي من أن نتوخّى بُعد النظر، فعلى المدى القريب أو الآني يمكن أن نتشاءم. لكن قناعتي تبقى راسخة بأن بيروت ستبقى عاصمة للحرية في البلاد العربية. وحيثما وُجدت الحرية سيوجد الابداع والابتكار بالتأكيد. ومهما كانت النقائص أو المصاعب الحاليّة، فإني متأكد من أن بيروت ستستعيد مكانتها السابقة تدريجاً. قد يتطلب ذلك أشهراً أو سنوات أو عقوداً، لكني أبقى متفائلاً بالمستقبل.