في اسرائيل الآن حزب حاكم جديد، وحكومة جديدة ورئيس جديد للوزراء. وكل من هذه التغييرات على قدر كبير من الأهمية. وهي معاً تمثل بداية فصل جديد تماماً في تاريخ اسرائيل. واتفق المراقبون على ان حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو الائتلافية حفلت بما يثير الاهتمام من جوانب عدة. الملاحظ - أولاً - ان معظم الشخصيات التي تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية الذاتية مثل رافائيل ايتان ودان ميريدور لم تحصل على مناصب مهمة. ثانياً: تعمد نتانياهو الحد من صلاحيات الوزراء المهمين والأقوياء في محاولة منه لمحاكاة النظام الاميركي الذي يركز السلطة في أيدي البيت الأبيض. وحرص على تعيين الشخصيات الموالية التي تدين له بصعود نجمها السياسي في المناصب المهمة والحساسة. علاوة على كل ذلك، أصبح الجميع في الحكومة الجديدة يقبلون مفهوم تعزيز صلاحيات رئيس الوزراء وزيادة سلطته. ولو كانت هذه الجوانب وحدها هي التغييرات المهمة في الحكومة الاسرائيلية لما كانت ذات أثر عميق على المدى البعيد. لكن نتانياهو يعد أول رئيس للوزراء يفوز بمنصبه عن طريق الانتخاب الشعبي المباشر: مما يعني انه حصل على تفويض شعبي للحكم بمعزل عن أداء حزبه في الانتخابات العامة وعدد المقاعد التي فاز بها. ويمثل ذلك تغييراً سياسياً جذرياً في اسرائيل، لأنه يعطيه من الصلاحيات والمرونة ما لم يسبق لاسلافه الحصول عليه. وهنا تكمن الخطورة لأن منح الصلاحيات لنتانياهو لم ترافقه مؤشرات عامة واضحة لضمان تحويل تلك الصلاحيات الى قيادة سياسية قوية. ولد نتانياهو ونشأ في بيئة يغلب عليها حزب حيروت، العقل الايديولوجي لتكتل ليكود. ولذا فمن البديهي ان يكون تأييد نتانياهو لمبادئ الحزب جزءاً من طبيعته وتفكيره ونشأته. وتلك المبادئ هي: حق اقامة "اسرائيل الكبرى" وحكمها، وحق اليهود في الاستيطان في أي جزء من تلك الاراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، واقامة علاقة مع العرب تستند الى تفوق اسرائيل العسكري وهيمنتها. وفيما عدا هذه المبادئ الاساسية ليست لنتانياهو أي سياسة واضحة. فطريقة وصوله الى حيث هو الآن أشبه بما حدث للرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون. أي انه ليس هناك وجه شبه بين نتانياهو ورؤساء الحكومة الاسرائيليين السابقين، مثل بن غوريون ومناحيم بيغن واسحق رابين. اذ ان نتانياهو مختلف عن أي زعيم سياسي اسرائيلي آخر لأنه ينطلق من حبه للسلطة ورغبته في الاستحواذ عليها وليس من تصور أو رؤية للعالم الذي يريد تشكيله وبناءه. هذا الغياب لأي برنامج سياسي واضح محدد يعني احتمال انتهاج الحكومة الجديدة سياسة مرنة وواقعية وعملية، لكن الخطورة تكمن ايضاً في ان غياب البرنامج السياسي الواضح سيؤدي الى فراغ يفتح الباب أمام الوزراء الذين يشعرون بأن لديهم الافكار الاكثر جدوى للنجاح والبقاء. استعراض قوة اذن ماذا سيفعل رئيس الوزراء الجديد بهذه السلطة والصلاحيات التي اضحى يملكها؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال المحللين السياسيين والزعماء في عواصم المنطقة بل والعالم أجمع. يبدو ان هناك مبادئ عامة سيسير عليها نتانياهو، فهو يؤمن بقوة اسرائيل ولا يرى ضرورة لانتهاج اللباقة في استعراض تلك القوة حين يريد التعامل مع العرب لا سيما مع القيادتين السورية والفلسطينية. ولهذا من المرجح ان تلجأ الحكومة الاسرائيلية الجديدة الى ضرب المصالح السورية ربما في لبنان مباشرة بدلاً من ضرب المدنيين اللبنانيين اذا ما قررت شن حملة على سورية لاجبارها على كبح حزب الله. وبالمثل فان اسرائيل ستوجه غضبها الى السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها بدلاً من الشعب الفلسطيني الذي طالما عانى في غزةوالضفة الغربية، اذا تعرضت اسرائيل لأي هجمات انتحارية. ومعنى هذا ان الحكومة الاسرائيلية الجديدة ستقلل من اللجوء الى العقوبات الجماعية وفرض القيود العامة على الفلسطينيين واغلاق الضفة والقطاع، وتميل الى اتخاذ اجراءات محددة قد تكون خفية، ضد السلطة الوطنية الفلسطينية. والواقع ان حكومات حزب العمل في العقود الاولى من نشأة اسرائيل كانت تلجأ الى هذا النمط من "الانتقام" اذ كانت ترسل فرق الكوماندوز الى مصر والأردن وتهاجم القوات المصرية في قطاع غزة. كذلك من المرجح ان يسعى نتانياهو الى كبح جماح المتطرفين داخل حزبه، ويطالب بانتهاج سياسة واقعية. لذلك قد لا يبدأ عهده باصدار تصريحات على غرار بيغن العام 1977 حين قال "سنبني عدداً من المستوطنات الجديدة قرب نابلس". ومن غير المرجح ايضاً ان يحذو حذو رابين الذي قرر انشاء ما أصبح يعرف ب "مستوطنات بيكر" - وهو قرار اتخذه عشية الزيارة التي قام بها جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي السابق الى اسرائيل في أوج حرب الخليج. الا ان هذا لا يعني مطلقاً ان حكومة نتانياهو لن تعلن مراراً حقها في "أرض اسرائيل" أو انها لن تبني المستوطنات في الضفة الغربية. ففي حكم اليقين انها ستفعل ذلك كله. ولكن اذا نجح نتانياهو في احتواء المتطرفين داخل حكومته كشارون فانه سينتهج طريقة عمل تشبه تلك التي سلكها رابين وبيريز حين ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية وحدها بنسبة تزيد على 25 في المئة ليصل الى اكثر من 150 ألفاً. أي ان نتانياهو سيلجأ كأسلافه الى بناء المستوطنات الجديدة "بهدوء". هناك نقطة مهمة اخرى وهي ان الحكومة الجديدة ليست ملزمة بالتعهدات التي قطعتها الحكومة العمالية السابقة على نفسها باجراء استفتاءات على الاتفاقات مع كل من الفلسطينيين والسوريين. فهذه الحكومة ترى انها تملك الحق في التقرير من دون استفتاءات. اذن كيف ستؤثر هذه المبادئ في سياسات اسرائيل المقبلة تجاه كل من السلطة الفلسطينية والحكومة السورية؟ من الواضح ان نتانياهو لا يشاطر كلاً من بيريز ورابين رأيهما الاستراتيجي حيال سورية. اذ ان تسوية النزاع مع سورية كانت شرطاً أساسياً مسبقاً لا بد منه في رأي رابين وبيريز من اجل ايجاد موقف سياسي وعسكري فعال في المنطقة لمواجهة الخطرين العراقي والايراني. لذلك كان كل من بيريز ورابين يعتبر ان عدم التوصل الى اتفاق مع سورية ستكون له عواقب وخيمة. أما نتانياهو فهو، مثل اسحق شامير، لا يؤمن بأهمية السلام مع سورية أو على الأقل لا يرى ان عدم التوصل الى سلام معها أمر على تلك الدرجة من الخطورة. كذلك يؤمن رئيس الوزراء الجديد مثل شامير في أشهر حكمه الأولى بأنه ليس هناك أي بعد جغرافي أو اقليمي للمفاوضات مع سورية، فهو ينطلق من افتراض وجوب استمرار السيادة الاسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة. ضغط على سورية ويرى نتانياهو ان الاتفاق على احلال السلام مع سورية على أساس الانسحاب من مرتفعات الجولان وتطبيق العلاقات أمر غير ممكن. ولذا فهو يرى ان اقامة علاقة بناءة ومثمرة مع سورية أمر ممكن من خلال ممارسة ضغط أميركي - اسرائيلي على الرئيس حافظ الاسد لاقناعه بقبول جدول الاعمال الاسرائيلي الذي يريده نتانياهو. لكن هذا الجدول يرفض مبدأ الأرض مقابل السلام الذي كان محور المفاوضات منذ العام 1992. وبدلاً من ذلك تقترح هذه السياسة الاسرائيلية الجديدة عدداً من النقاط التي ربما تبدو مهمة لأول وهلة، ولكنها ليست كذلك في الواقع: التفاهم في مجالات معينة من دون الاشارة الى القضية الاساسية وهي الخلاف على مرتفعات الجولان. اذ ان نتانياهو يعتقد ان الجولان تأتي في المرتبة الثانية من الأهمية عند الرئيس الأسد بعد قضايا أخرى تستطيع اسرائيل التنازل فيها مثل جنوبلبنان وعلاقات سورية الاقتصادية والعسكرية مع الولاياتالمتحدة. ويعتقد رئيس الوزراء الجديد ان هذه المسائل على درجة من الأهمية لسورية أكبر من استرداد الجولان، مما يعني ان بالامكان اقناع الرئيس الأسد بالتركيز عليها بمعزل عن الجولان. ما يريده نتانياهو اذن هو ان يحذو الرئيس السوري حذو الرئيس عرفات، وليس حذو الرئيس المصري السابق أنور السادات في التفاوض مع اسرائيل: ان يلحق الأسد بالقطار قبل ان يفوته من دون ان يعرف الى أين سيأخذه ذلك القطار! وفحوى تفكير نتانياهو باختصار ان عدم لحاق سورية بالقطار سيؤدي الى مواجهتها المصير نفسه الذي تواجهه ايران الآن أي العزلة وعدم اكتراث الغرب بها، لا سيما الولاياتالمتحدة. أما الفلسطينيون، الذين أمضى قادتهم ومفاوضوهم آلاف الساعات في التفاوض مع قادة حزب العمل وممثليه في مختلف انحاء العالم، فلم يتصلوا اطلاقاً، قبل فوز نتانياهو وبعده، بأي من زعماء ليكود. وفي ظل انعدام تلك الاتصالات وعدم وجود أي تالف بين الفلسطينيين والسلطة الجديدة في اسرائيل فان الجدول الزمني السابق سيشهد الكثير من التأجيل والتغيير. وفوق ذلك فهناك الآن قضية أساسية مهمة جداً وهي العلاقة الاساسية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية. اذ ان رابين وبيريز كانا يعتبران عرفات والسلطة "الشريك الاستراتيجي". وهذه الشراكة هي التي أرست حجر الاساس في اتفاق أوسلو وما تلاه من ترتيبات. أما نتانياهو الذي اعترف بأهمية أوسلو فلم يقرر حتى الآن ما اذا كانت تلك الشراكة الاستراتيجية مع عرفات لا تزال قائمة أم لا. وهناك نقطة مهمة ايضاً وهي ان معظم الثمار التي جناها حزب العمل ومنظمة التحرير الفلسطينية كانت نتيجة اتصالات ديبلوماسية سرية بين الطرفين. لكن نتانياهو لم يقرر حتى الآن الطريقة التي ستسلكها حكومته في التفاوض مع السلطة الفلسطينية وهل هناك ضرورة لأي اتصالات سرية؟ غير ان السؤال الأهم بالطبع هو: ما الذي سيتفاوض عليه نتانياهو؟ على المدى القصير وباختصار: لا شيء تقريباً، باستثناء امكان الانسحاب من مدينة الخليل. وهو ما كان ينبغي ان يحدث أصلاً في شهر آذار مارس الماضي. ففي اعتقاد نتانياهو ان اتفاق أوسلو الثاني الذي أعطى السلطة الفلسطينية حق السيطرة على ثلاثين في المئة من أراضي الضفة الغربية وعلى تسعين في المئة من قطاع غزة يشكل نهاية جميع التنازلات الجغرافية الاسرائيلية لا بدايتها. والهم الاساسي لنتانياهو هو سحق معارضي أوسلو بين الفلسطينيين. فاذا أخفق عرفات في سحقهم أو امتنع عن ذلك فان رئيس الوزراء الجديد سيخرج على الارجح عن النص الذي التزمه سلفه بيريز، وقد يتخذ اجراءات مباشرة ضد نظام الحكم الفلسطيني بدلاً من فرض العقوبات الجماعية. الا ان نتانياهو، مثل جميع من سبقوه، مضطر الى مواجهة الدوامة الاساسية: هل يعتبر عرفات حليفاً وصديقاً أم عدواً؟ فاذا كان صديقاً فان اسرائيل لا تستطيع تقويض قيادته من دون تعريض مصالحها للخطر. أما اذا كان عدواً فان الخيارات المتاحة أمام نتانياهو لن تكون معقدة ولكنها ستكون خطيرة جداً.