يواصل ابراهيم نصرالله انتقاله بين أقاليم الشعر والرواية، فبعد دواوين شعرية عدّة، وثلاث روايات هي: "براري الحمى"، "عَو"، "مجرد 2 فقط"، ها هو يكتب "طيور الحذر". وروايته الرابعة، الصادرة أخيراً عن "دار الآداب" في بيروت، هي الأكثر طموحاً في مسار نصرالله الأدبي، فهي تمزج بين العناصر الروائية والمنظور الشعري، هادمة الحدود بين جنسين أدبيين مختلفين، كما لو كانت الرواية استكمالاً لنص شعري، أو كما لو كان الشعر يحرر أقواله في الفضاء الروائي. ونصّ نصرالله، على الرغم من شعريته العالية، يحتفظ بمراجع الرواية وينصاع إليها، يعود إلى التاريخ ويكتبه بشكل آخر، أو انه لا يقف أمام التاريخ الا ليكتبه بشكل آخر، حيث يكون الحاضر حاضراً ويشير إلى جميع الأزمنة في آن. تروي "طيور الحذر" سيرة الانسان الفلسطيني بأشكال متعددة، فهي سيرة الوطن والمنفى، الفردي والجماعي، الواقع والحلم، وسيرة الأشياء كما هي وكما يجب أن تكون، مع فرق جوهري هو أن "واجب الوجود" لا يحيل على المستقبل، بقدر ما يستدعي الحلم ويتوارى فيه، كأن ما يرغب فيه الانسان يظل رغبة حتى يوم الرحيل. في السيرة الأولى يكون الفلسطيني طريداً، تجرّحه أظافر غربة عاتية، يطرد الثعالب من أوكارها وتعود إليه محتجّة وصارخة، ويختلس خبزه اليومي من عمل مرهق يبدّد أوصاله، قبل أن يأوي إلى خيمة تحجب الكرامة ولا تمنع البرد إلا قليلاً. وتحكي السيرة الثانية عالم الأطفال في مخيمات تلغي الطفولة وتصادر البراءة وتحتفل بالحرمان. أما السيرة الثالثة فتدور حول طفل أدمن تأمل السماء وأجنحة الطيور، حتى ظن نفسه طيراً، وعهد إلى ذاته بواجب حماية الطيور وحراسة الأجنحة الطليقة، فبدأ يعلمها الحذر، كي تتجنب الفخاخ وشباك الصياد القاتلة. وتكون السيرة الرابعة مرثاة "الصغير" الحالم وطيوره. فالصغير المتدثر بالبراءة يمضي قتيلاً، يمضي بلا اسم ويظل "صغيراً" بعد أن حاصره عالم الأسماء، الذي يساوي بين الطيور والأقفاص. ومن أجل أن تحكي الرواية السير المركبة، فإن ابراهيم نصرالله يخلط الرواية بپ"الفانتازيا"، ويخلق طفلاً رائياً عجيب الأوصاف، طفلاً جاء من نبوءة الشعر وانتهى إلى مقابر النثر والأحلام. و"الصغير" الذي لم يلتق باسمه، يحدث عن الأشياء كما هي وكما يجب أن تكون، بل انه يروي فصيحاً، وقائع ولادته، ووقائع الزواج الذي كان ثمرة له. يحكي عن زمن لم يرَه، وعن ظلمة الرحم الدافئ وأوجاع الولادة. ولأنه رأى أحداث الزمن الذي لم يعش فيه، فهو قادر على رؤية الزمن الذي لم يأت بعد، ولا يلوح بالبشائر. بين "صغير" نصرالله وطفل غونتر غراس في رواية "الطبل" ملامح، وإن كان اندراج الطفل الفلسطيني في مسار المنفى و"الأشبال" يجعل الاشارة عارضة، أو يفصح عنها كاستعارة خلاقة. يحقق عاشق الطيور المذبوح مجاز الشاهد والشهيد، فهو القاتل والضحية ربما. ويحقق عالم الطير مجاز القضية الفلسطينية، إذ يقع الفلسطيني في القفص ويتمرد عليه، لكنه ينتهي إلى قفص آخر. كأن الأخير لا يعيش طيرانه إلا لحظة الانتقال بين قفصين. ولعل هذا الوضع الحزين الذي يبني الأشياء، ويهدمها في آن، هو الذي يجعل "طيور الحذر" تقوم على سلسلة من الثنائيات المترابطة: المنفى يستدعي الوطن والضحية توقظ الجلاد والمسلح يحرّض الأعزل، والقفص ضرورة لاحتواء الاجنحة الطليقة. والرواية المثقلة بالأسى، تنفتح على عبث الوجود، أو تكاد. فپ"الصغير" الذي لم تفترسه الثعالب التي خسرت أوكارها، ولم يقتله الجوع وغياب والده الطويل في السجن البعيد، تقع عليه القذائف والرصاص، إذ لا فرق بين العصفور والثعبان، ولا بين "البندقية الجديدة" والسوط القديم. مع ذلك فان رواية نصرالله لا تهجو فرداً أو أفراداً، إنما ترثي حلماً عصيّاً على الوقوف. ذلك أن "الصغير" الذي أراد أن يعلّم طيوره الحذر نسي ذاته، وأمعن في النسيان والبراءة، حتى وقع في شباك قابض الأحلام. ينتمي هذا العمل الأدبي إلى عالم الانسان المقهور، لأنه يذكّر بما لا يجب نسيانه، فيأتي حواراً مع الذاكرة الغافية، إنطلاقاً من كون الحاضر الفلسطيني يتضمن ما سبقه من الأزمنة، ويحتضن طرق الشوك التي أفضت إليه. و"طيور الحذر" عمل مميّز لأنه يحتفل بالذاكرة اليقظة ويتجنب الأساطير، بعيداً عن أدب رسم، ذات مرة، فلسطينياً ينتمي إلى الملائكة. لذا فإن "الصغير - الطائر" لا يخسر جناحيه في مخيم اللاجئين بل في "معسكر الأشبال" المتمرد على المخيم واللجوء. ولعل احتفال العمل بذاكرة تخففت من أوهامها، هو الذي يجعل من "طيور الحذر" رواية عن الانسان المقموع بشكل عام، قبل أن تكون رواية عن فلسطيني عرف هوان اللجوء. لكنّ رواية نصرالله التي تحاور الفلسطيني المقموع وما عداه، لا تخطئ معنى التاريخ أبداً، ولا تضيع في زمن الحكايات البسيطة. فهي تحكي عن التاريخ البسيط الذي كان، زمن الخروج والمعاناة وأغاني "البندقية الجديدة". كما أنّها تقارب التاريخ في معناه الحقيقي، حيث الأشياء تنقسم والأخلاق تنقسم، والفلسطيني يذهب إلى نهاية الانقسام، وحيث المستقبل لا ينخلع عن الأزمنة التي مهدت له. وبسبب هذا الانقسام الملازم للوجود، يبتعد نصرالله عن رواية جبرا ابراهيم جبرا، المأخوذة بالفلسطيني الجميل الموحد، مثلما تبتعد عن رواية غسان كنفاني التي تقسم الأشياء وتساوي بين الرغبة والحقيقة. تتأمل "طيور الحذر" الفلسطيني في مساره الطويل، بقدر ما تحاور الوعي اليومي الفلسطيني الذي يتقدم في طريق ويتقهقر في طريق آخر، كما لو كانت ذاكرته تحتفظ بأشياء وتتخفف من أشياء أخرى. حالة تقترب من قول لنيتشه وتنفيه، إذ يقول الفيلسوف الألماني: "في مطاردته للتنين يصبح الصياد تنيناً بدوره". والفلسطيني يطارد ما اعتقد أنه طارده، من دون أن يحسن توجيه ضربة صائبة. أسئلة كثيرة توحي بها رواية متعددة المستويات. أسئلة عن المعاناة والمقاومة والحلم والعبث. وأسئلة أيضاً عن كتابة فلسطينية متعددة الوجوه. فإذا كانت الرواية الفلسطينية احتفلت بالمجرّد غالباً وهمّشت المشخص، فإن رواية نصرالله تنبني في تفاعل المشخص والمجرّد، فترسم تفاصيل الحياة في وجوهها المتضاربة. وتحتفظ برموز الوطن والبراءة والحلم المستحيل، لكنها لا تلبث أن تخلع عن الرموز هالاتها المضيئة، بعد أن تدفع بها إلى الموت والخيبة والتفكك في الانتظار الطويل. إنها رواية عن واقع يدمر الحلم ولا يسمح به، ورواية عن أحلام لا يطالها الواقع. والشعر هنا في الحالتين، ف "الأيام تتدحرج من أعلى الجبل إلى عمق الوادي" تارة، و"الحلم له جسد شبيه بذكرى قديمة" تارة أخرى. وأخيراً فإن ابراهيم نصرالله يقدم نصاً بالغ الجمال، قد يقبل القارئ بمنظوره السياسي، وقد يختلف معه، من دون أن يغيّر ذلك من قيمته الأدبية في شيء.