رواية سعدي يوسف الأولى "مثلث الدائرة" "دار المدى"، دمشق، تستأنف في سطورها حديث الغربة الطويلة الذي حكاه الشعر، سابقاً، بشكل مختلف. لكن الاغراق في التفاصيل يرضي هواجس الشاعر العراقي المعروف من دون أن يلبّي حاجات الكتابة الروائية، ونصّه يحيل إلى الأدب وعلم النفس وتختلط فيه أشياء من السيرة الذاتية والرواية والتقرير الاخباري والمذكرات. كأن الغريب المهدّد في ذاتيته يجعل منها وطناً له، في انتظار الوطن القديم الذي حاصره الهلاك. إنتقال الشاعر من سماء الشعر إلى أرض الرواية أمرٌ مألوفٌ ولا جديد فيه. فحين كانت الرواية العربية تحبو في مطلع هذا القرن، جرّب حافظ ابراهيم حظه فيها وكتب: "ليالي سطيح"، ولم يكن نصيبه من النجاح كبيراً. وفي نهايات هذا القرن طرق باب الرواية شعراء آخرون. دخلها سليم بركات وأعطى ثلاث روايات جميلة، وكتب شوقي بغدادي رواية وحيدة، وقدّم ابراهيم نصرالله ثلاث روايات لا ينقصها الجمال. وآخر من قصد الرواية الشاعر العراقي سعدي يوسف في عمل كثير الصفحات، عنوانه "مثلث الدائرة"، يتحدث فيه عن تجربة المنفى بعيداً عن الايقاع والقصيدة. وسعدي يكتب الشعر ويرحل، كأن حياته تتوزّع على قصيدة متجددة وعلى منفى لا يعرف الثبات. عاش تجربة المنفى الأول لمدة سبع سنوات 1964 - 1971، ثم ما لبث أن دخل في تجربة جديدة وطويلة، تمتد منذ منتصف السبعينات، تقريباً، حتى اليوم. والشعر في التجربتين ملاذٌ ووثيقة، يلوذ به الشاعر كي يتحمّل غربته، ويقصده ليحفظ فيه هواجس حياة مسكونة بالاغتراب. وإذا كانت الاقامة المتعثرة في الوطن دعت الشاعر إلى تأمّل القصيدة، فان تيه المنفى حمل الشاعر على تأمّل الوطن. ولعل التوزع على الشعر والرحيل رفع الشاعر إلى مقام تجربة انسانية بالغة الخصب والأسى في آن. وفي هذا المسار تحدّث سعدي طويلاً عن دخوله مكان الغريب، وعن هشاشة أرض لا يستقر فوقها المنفى الا ليرحل من جديد. ولم تكن هشاشة المكان إلا صورة عن روح الغريب المحاصرة باللوعة والاضطراب. ورواية سعدي الأولى تستأنف في سطورها حديث الغربة الطويلة الذي حكاه الشعر، سابقاً، بشكل مختلف. يُعيد كتاب "مثلث الدائرة" صياغة موضوع أرق الشاعر حتى التعب، حيث "النجوم الشريدة" و"المسافر الذي ينسى الحقيبة" و"المسافات التي تنأى". كأن الكتاب الجديد يحتضن عذابات قديمة للشاعر الذي قال: "أسير مع الجميع وخطوتي وحدي"، ثم أعاد القول حزيناً وصرخ: "ان تقضي العمر مغترباً، حرفة ترتديها ولا ترتضيها". وسعدي يوسف يلتقي بما وجد لا بما أراد، فيعيش لقاء الكآبة والرضا، اذ على المسافر المطارد أن يبحث عن حقيبة وجواز سفر جديدين. وعن هذا المرغوب والهارب في آن يتحدث كتاب "مثلث الدائرة"، ويحكي أحوال الغريب في مدن مختلفة يوحدها الاغتراب. ذاكرة المنفى تظهر بيروت، في الفصل الأول، في ساعة رحيل خانقة، وتُوقظ في ذاكرة المنفى صورة مدينة البصرة التي تحتضن أطياف الطفولة وظلال حبل المشنقة. وبعد ان تصحو صورة البصرة وتنام تأتي باريس باردة، وتتبعها عدن ملفوفة بالقيظ والاغتراب، إلى أن يصل المسافر التائه إلى نيقوسيا وقد هدّه التعب. امكنة متعددة يحطّ فوقها المنفيُّ من دون ان يظفر بالراحة أو يهجره القلق، فيتأمل المكان وينجذب إلى التفاصيل، كما لو كان يخشى أن يهرب منه المكان، أو ان تهرب منه ذاته إلى أرض مجهولة لا يعرف عنها شيئاً. ومثلما تكون دلالات الأمكنة صورة للانسان الذي يتأملها ويمنحها الدلالة، فإن ولع الغريب بتفاصيل المكان مرآة لقلقه وإضطرابه، ذلك ان تأكيد وجود المكان اعلانٌ عن استمرار وجود الانسان الذي يقف فوقه. وقد يطرح القارئ سؤاله البسيط: إن كان قول هذه الرواية يستأنف قولاً شعرياً سبق، فما ضرورة السعي إلى الكتابة الروائية؟ والسؤال في بساطته صحيح، يجيب على هاجس المكان الذي يسكن الشاعرَ المنفيَّ بقدر ما يحتلّ الجنس الادبي القادر على تجسيد المكان في جزئياته وتفاصيله ودقائقه. ولغة النثر هي القادرة وحدها على احتضان المكان في تفاصيله، على نقيض لغة الشعر المشغولة بقضايا الروح والأقاليم الغامضة. وربما كان سعدي، في انتقاله من ضوابط القصيدة إلى النثر الطليق، يقصد إلى بناء صورة المكان المشخّص كاملة، بقدر ما يرغب في صياغة مكانه الأثير في الكتابة بعد أن افتقد هذا المكان في الواقع. إغراق في التفاصيل غير أن هذه المحاولة لا تنصاع في "مثلث الدائرة" إلى رغبات الشاعر الواضحة والمكبوتة. فهو يكتب سيرة ذاتية ناقصة تارة، ويغرق في تفاصيل الأمكنة تارة أخرى، إن لم تطرد التفاصيل قضايا أساسية متعددة. وقد ينبئ الاغراق في التفاصيل عن لوعة الغريب، لكن هذا الاغراق يرضي هواجس الغريب من دون أن يلبّي حاجات الكتابة الروائية. فرواية سعدي يوسف، في صفحاتها الكثيرة، تسرد جملة من الحكايات اليومية المتتابعة التي تخبر عن أفعال الغريب، من بداية النهار إلى هزيع الليل الأخير. وفي كل هذا يبدو الغريب مركزاً مطلقاً، يهمّش كل علاقة أخرى، بل تصبح العلاقات كلها مرآة له، يقرأ فيها غربته ووسائل تجاوزها وقدرة المنفي على التمتع بالحياة. كأن الغريب المهدّد في ذاتيته يجعل منها وطناً له، وطناً جديداً في انتظار الوطن القديم الذي حاصره الهلاك. حين ينهي سعدي يوسف كتابه، يكتب في الصفحة الأخيرة "438": انتهت الرواية. والصفة التي يعطيها الشاعر لكتابة لا تغيّر من حال الكتاب شيئاً. فهو كتاب يحيل إلى الأدب وعلم النفس ويتأبّى على التصنيف، تختلط فيه أشياء من السيرة الذاتية والعناصر الروائية والتقرير الاخباري والمذكرات اليومية. بهذا المعنى، فإن سعدي يوسف، في كتابه الجديد، يتحرّر من قيود الكتابة الشعرية لا أكثر. انه يخرج من الشعر ويدخل إلى لامكان، كما لو كان يقول: إن تجارب الحياة تدفع بالشاعر إلى تجريب كتابي ضائع الصفات.