ينطلق الأدب الفلسطيني المعاصر من واقع يصعب التعبير عنه. يحاول جاهداً صناعة حريته في فضاء ابداعي يراوح بين حالين: المنفى والحصار. كيف ينعكس التاريخ الفلسطيني في الأدب، رواية وشعراً وسيرة ذاتية ونصاً تسجيلياً، من قبل نكبة 1948 وحتى هذه اللحظة القاسية؟ انظر ايضاً ص 18 و19. الناقد الفلسطيني فيصل دراج يركز الضوء هنا على النص الروائي الفلسطيني ضمن الخريطة العامة لهذا الأدب المحكوم بظرفه التاريخي الصعب: كتبت الرواية الفلسطينية، كما النص الأدبي الفلسطيني بعامة، عن واقع محاصر وأضافت اليه رغبات كثيرة. وإذا كان في مواضيع الرحيل والمخيم والمنفى ما يعطي النص فلسطينيته، فإن في الرغبات المضافة اليه ما يعيّنه نصاً أدبياً للإنسان المقهور، فلسطينياً روّعته المجازر كان، أو أسود أفريقياً ألهبت ظهره السياط. فمن قُيّدت يداه يؤمن بيوم يحرره من القيود، ومن آمن بمستقبل مختلف يرى الى رغباته حقائق ثابتة. وفي جدل الرغبات والقيود الآفلة يكون النص الفلسطيني نصاً رغبياً بامتياز، تقترح عليه الرغبة البداية الملائمة والنهاية التي ترضي الروح. عاش النص الفلسطيني، بعد النكبة، حاضراً مرفوضاً، سمته المعاناة والغربة والتشوّه، ورأى في الحاضر مبتدأ لكل الأزمنة. وكان على الحاضر، الذي بدا مرضاً عابراً، أن يخلق ماضياً يستمد منه القوة، ومستقبلاً يعده بشفاء أكيد. وعن هذا الحاضر صدر أدب مسكون بالمفارقة، يبحث عن الحرية مقيداً، ويرى في قيودة الذاتية شرطاً للتحرر. انه نص الضرورة، الذي يزهد بحريته الداخلية، مبشراً بحرية أخرى لاحقة، تحتضن الكاتب والقارئ في آن، ولهذا كان للنص بدايته ونهايته، اللتان اقترحهما السياق، ولحظة بينهما لا تنقصها القيود. اقترح السياق، الحافل بكلمات اللاجئ واللجوء والهزيمة، ماضياً مضيئاً، إذ الأجداد يقطفون الزيتون ويحاورون السهول، ومستقبلاً منتصراً، يستأنف فيه الأحفاد غبطة أجدادهم المنقضية. وكان الحاضر العابر موقع الاختبار المكتوب، الذي يطالب اللاجئ المهان بإجابات لا تحتمل الخطأ. انطوى النص الفلسطيني، شعراً ورواية وقصة ومسرحية، على لحظات ثلاث ضرورية، تلائم أحوال الإنسان المقهور وتلبي رغباته: اللحظة الأولى هي زمن الأصول المباركة، حيث الماضي والإنسان السوي وعالم جميل لا تشوّه فيه. واللحظة اللاحقة هي زمن المحنة والاختبار، الذي يبرهن عن سواء الفلسطيني وجوهره الذي لا خراب فيه. وتعقب اللحظتين ثالثة، يعانق فيها الفلسطيني المنتصر ظلال أجداده، فيستعيد جوهره المفقود، ويودّع تجربة مؤسية لن تعود أبداً. استولد السياق النص وعلاقاته، وأنجز نصاً يحتفي بقيود الضرورة، منصاعاً الى قارئ يبحث عن الأمل ويبارك الأصوات المتفائلة. فالأمل يزامل من لا أمل له، والنص الذي لا يوقظ الأمل نافل ولا يحتاج اليه أحد. كان هناك الموجود المهين وواجب الوجود العالي الصوت، الذي يضع الكاتب والقارئ في قارب ذهبي ينتظره المرفأ السعيد. ارتكن النص الفلسطيني الى منظور إيماني، حدود اللعنة العارضة والاختبار الضروري والخلاص الأكيد، وأفقه فلسطين سرمدية. يُؤنسن غسان كنفاني الطبيعة في رواية "العاشق"، التي منعه الاغتيال الصهيوني من انجازها، محدثاً عن أرض مباركة ماضية، تحاور الإنسان وتحميه من رصاص الضابط الانكليزي. ولا ينسى عبق الأرض الضائعة في "رجال في الشمس". ويحيل عليها في "أم سعد" و"عائد الى حيفا". وهذا الماضي، الذي كان، يبعثه ابراهيم جبرا مشبعاً بالجمال في "البحث عن وليد مسعود" ويوقظه مثقلاً بالحنين في "البئر الأولى" و"السفينة"، ويتذكره متوجعاً في "صيادون في شارع ضيق". أما إميل حبيبي، الضاحك الباكي، فخلط ذكرياته بفلسطين شبابه وذهب في النشيج، موحداً بين شبابه المنقضي وفلسطين متخيلة، حروفها اللوعة والأطلال ووميض الذكريات. هنا أبداً الوطن البعيد الذي خلقته الذاكرة وأحسنت خلقه وأمدّه صقيع المنفى بدفء لا يضارع. بيد ان غسان لم يكن يرجع الى ماض مبارك، إلا ليخلق شبلاً فلسطينياً يصرع نقيضه الصهيوني في صحراء "ما تبقى لكم"، ويسلّم البندقية الى الفتى المتمرد في "عائد الى حيفا"، هاتفاً بصوت راعد مديد: "خيمة عن خيمة تفرق" في روايته: "أم سعد". وبسبب ذلك النشيد، الذي يجعل المستقبل المزهر قائماً في الحاضر، يعود بطل جبرا في "السفينة" مطمئناً الى أرضه الأولى، وتعود الأرض المباركة الى ابنها الطاهر الروح والجسد. وتنتظر الأرض ولدها النجيب في قصائد معين بسيسو، ويرجع بطل يحيى يخلف في "تفاح المجانين" الى أهله بعد عملية منتصرة، ويتحصن "عشاق" رشاد أبو شاور بزيتونة فرعها في السماء، وهم يواجهون صهيونياً يتحصّن بالعظام النخرة... هناك دائماً نهاية منتصرة، وخلاص لا يخذل من ينتظره، ذلك ان الأصل المبارك، وهو مرتكن المضطهد وملاذه، يعود منتصراً ومباركاً، كما كان، مساوياً بين المستقبل والماضي، ومؤكداً الحاضر لحظة مريضة متلاشية. في حدود ثنائية الوطن المفقود والوطن المستعاد انتج الأدب الفلسطيني نصاً مشبعاً بالايديولوجيا، يتأمل الموجود ويستولد منه واجب الوجود، كما لو كان النص الأدبي واقعاً آخر لا تشوّه فيه ولا غربة، أو وطناً ب"القوة" يمهد لوطن ب"الفعل" قيد الوصول. "قصيدة جديدة، فلسطين في الأفق" يقول معين بسيسو، واصلاً الى الوطن قبل ان يصل اليه، ومستأنفاً البشارة القديمة التي جاءت في قصص سميرة عزام. وما بطل جبرا ابراهيم جبرا، في رواياته كلها، إلا مرآة صقيلة لذلك الفلسطيني الذي لا يشبه غيره، الذي حرّرته تجربته من النواقص جميعها، ورمت عليه بكل ألوان الفضائل. وتسللت هذه الإيمانية الى بعض قصائد محمود درويش "مديح الظل العالي"، إذ على الفلسطيني ان يلتقط ذراعه التي سقطت في الطريق ويستكمل المسير. ولعل ايديولوجيا الوطن المستعاد هي التي وضعت في النص الأدبي الفلسطيني سلسلة من الثنائيات الباترة قوامها: الخير والشر، الوطن والمنفى، النصر والهزيمة، الفلسطيني والصهيوني، البندقية والمخيم، المستقبل والحاضر. كل ذلك في نص مغلق على مستوى البنية، ينفتح خارجه على الأمل والبشارة والطفل الباسم الذي يرث والده الشهيد. لم يكن بإمكان الأدب الفلسطيني، الذي حدّد الصهيوني تخومه، ان يتعامل مع المجزوء والمحتمل والإشكالي، بل أوغل في اليقين مطمئناً الى وظيفة وطنية ارتضى بها عناصرها: التحريض والتعويض والبشائر. بل ان هذه التخوم حددت الموضوع وضيّقت مساحته ناقلة "اختصاص المنفى والرحيل" من خارج النص الى داخله، منتهية الى شعار "أدب المقاومة"، الذي يجعل من الوطن أنثى ومن الأرض حبيبة ومن البندقية غراماً ومن الفلسطيني جنساً بشرياً غريباً. ولذلك بدت قصائد الحب عارضة بل ناشزة في الشعر الفلسطيني، وظهرت المرأة رمزاً، كأن الفلسطيني صنع من التحدي والمواجهة واستغنى عن أشواقه الداخلية. وما كان هذا النشيد الوطني المهيب إلا التعبير الأدق عن الحرمان الفلسطيني الشديد، الذي يختزل الفلسطيني الى حصار ومعركة لا أكثر. ولعل هذه التخوم الضيقة، كما تلك الإيمانية المغلقة، هي التي أملت على غسان كنفاني وجبرا وإميل حبيبي، في حقل الرواية، جهداً أدبياً استثنائياً، يكون النص المكتوب فيه ايمانياً وأدبياً في آن، كأن يبحث كنفاني قلقاً عن أشكال أدبية متجددة، وأن يركن جبرا الى الرموز والى ثقافة أدبية واسعة. وان يستأنس حبيبي بلغة الشدياق وطه حسين ويضيف اليهما شيئاً آخر... كيف تكتب نصاً أدبياً طليقاً محاصراً باليقين؟ بل كيف تكتب وعينك على صهيوني هزمك مرة وعليك أن تهزمه مرات؟ كان هذا، ولا يزال، سؤال الأدب الفلسطيني، الذي اربك غسان كنفاني مرة، ونقل محمود درويش من مراجع الأم وقهوتها والأب وعباءته والزيتون وظلاله الى فضاء التاريخ الماكر، حيث ذرات الرمل الواهنة تُفقد جنرالاً متغرطساً نعمة البصر. ومع ان نعمة اليقين لا تنتج أدباً إلا في لحظات سعيدة، فإن الأدب الفلسطيني، وفي علاماته الكبيرة، ما زال مرتبطاً بأزمنة البشارة، مبرهناً ان الضرورة تنتج حريتها وأن اليد المحروقة تبترد بسلام داخلي. فبعد الخروج من بيروت، وما تلا ذلك بعقد من الزمان، جاء منظور جديد يرى الإنسان قبل ان يذهب الى المعركة، ويرى الى السؤال قبل ان يمنح الاجابة، من دون ان يؤدي ذلك الى نصوص جديدة تقف أدبياً الى جانب النصوص الأولى، الا في استثناءات قليلة. استمرت الرواية، على سبيل المثال، في كتابات أحمد حرب وادمون شحادة وفاروق وادي وليانة بدر وابراهيم نصرالله وأبي شاور ويحيى يخلف وسحر خليفة... بيد ان أطياف جبرا وغسان ابتعدت، رغم جهد متميز وضعه ابراهيم نصرالله في "طيور الحذر"، ومساهمة ابداعية أصيلة قليلة الحظ جاء بها راضي شحادة في "الجراد يحب البطيخ". أما سحر خليفة، التي أنجزت عملاً أدبياً ممتازاً في رواية "الميراث"، فقد خلطت بين مآل المرأة ومصير فلسطين، منتهية، أحياناً، الى ايديولوجيا نسوية استشراقية النزعة، تجعل الهم الفلسطيني هامشاً من هوامش المرأة المضطهدة التي تنتظر الانعتاق. ذهب حصار اليقين، ربما، وحل مكانه حصار الشك وإن بدا، وفي مفارقة جديرة بالمساءلة، ان اليقين، أحياناً، أكثر خصباً وابداعاً من "شك" يكتفي بأسئلة منقوصة ويرد عليها بإجابات أكثر نقصاً. كأن اليقين المغلق، الذي لا يفتح النص إلا ليغلقه، شرط لا بد منه لخلق أدب يوافق الإنسان المقهور الذي تمرد، وان كان تحقق "أدب اليقين" بحاجة الى ما هو قريب من المعجزة. ويظل الحصار قائماً ومتواتر الطلقات، تتغير الأزمنة، ولا يتغيّر فيه شيء. كان المنفى بداية الحصار، وحاصرت فلسطين المرغوبة النص المكتوب، وإن كان فلسطيني المنفى الأولى مغايراً لفلسطيني الحصار الأخير، الذي أدمن استقبال الطلقات القاتلة والرد عليها بأمل كبير. وفي هذا الحصار الذي لا ينتهي أطلق الأدب الفلسطيني صرخة وكتب شهادة وبعث برسائل عاجلة، في انتظار يوم هادئ، ربما، يسطّر فيه القلم أحزان الألوف المتراكمة التي ابتلعتها المجازر. لقد خُلق الأمل لهؤلاء الذين لا أمل لهم. وما زال الأمل يأتي من خارج النص، قبل ان تصوغه أقلام أرهقتها البشائر المراوغة.