ما خلا الاحتفالية التي أقامتها «دارة الفنون»، في الذكرى العشرين لرحيل جبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994)، يكاد يكون هذا المبدع غائباً تماماً عن المنابر والمناشط الثقافية العربية، وكأنه لم يكن من الجيل المؤسس في الرواية العربية، ولم يشارك بفاعلية في إطلاق جماعة «شعر» ومجلّتها العتيدة، ولم يترجم عن الإنكليزية من جميل شعرها ومسرحها، فأيّ غبن يلحق بهذا المبدع المتعدد والمختلف، بعد عشرين عاماً فقط على رحيله؟ أكتب هذا، في ضوء احتفالية بسيطة حضر من خلالها في صالة صغيرة في «دارة الفنون»- عمّان، بالتزامن مع ذكرى رحيله. وعلى بساطة هذه الاحتفالية، فقد انطوت على جانبين مهمّين، الأول تجسّد في توقيع كتاب الناقد الفلسطيني فيصل درّاج (المستشار الثقافي للدارة) كتابه «جبرا إبراهيم جبرا: وجوه المثقّف الرومانسي»، الصادر حديثاً عن «دارة الفنون»، والثاني في ندوة بمشاركة درّاج نفسه، وورقة قدّمها الكاتب هشام البستاني بعنوان «جبرا في عيون جيل جديد»، أمّا ماهر الكيّالي، صاحب «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» التي عُنيت بمؤلفات جبرا، فقدّم شهادة بعنوان «20 عاماً مع جبرا». الناقد درّاج بدأ ورقته «أطياف جبرا... وأطياف القدس»، بالتساؤل: «لماذا نعود إلى جبرا إبراهيم جبرا بعد عشرين عاماً من رحيله؟». ويجيب: «إنه واجب الاعتراف بجهود المبدع المختلف، الذي تدلّ عليه آثاره المضيئة». ويتابع درّاج الذي يكتب في كتابه الجديد عن «جبرا إبراهيم جبرا: وجوه المثقّف الرومانسي»، بأن جبرا «استهل حياته قاصاً يستمد الحكايات من بشر عايشهم في القدس. جمع بعض قصصه القصيرة في كتابه «عرق وقصص أخرى» (بيروت 1956)، ظلّت هذه القصص ملازمة لروحه، لامسها في رواياته اللاحقة، فكل ما كتبه كان عن القدس، حتى حين كان منفياً في بغداد، حتى أن القدس ظهرت واضحة بعد الهجرة في رواية «صيادون في شارع ضيّق»، التي يستهلها الكاتب بشخص فلسطيني متعلّم فقير يبحث عن عمل في بغداد، أُبعد من مدينته الأثيرة». ويخلص درّاج إلى أن جبرا انصرف (في كتابته، وحياته ربما) إلى «دلالات الحقّ والكرامة والتمرّد، ولم يتوقّف طويلاً أمام العلل والأسباب والمقدّمات المنطقيّة». ولأن كلّ «أرشيف» هو -وفق درّاج- «مرآة لدروب وآثار»، وقيمة «الأرشيف» من الدروب والآثار التي احتفظ بها، خلق جبرا «أرشيفه» وقصّر المسافة بين الدّروب والأحلام، ذلك أنّ الفلسطيني الذي حلم به مجرّد احتمال لا أكثر». وختم بالقول» «نرى في جبرا اليوم وجوهاً من فلسطين راحلة، كانت واضحة واندثرت، وأديباً شاملاً أزهر في المنفى، وتلقي علينا أطيافه أسئلة مرّة المذاق». و يقرأ درّاج مفاهيم لدى جبرا من نوع «رؤيا»، «انبعاث»، «حلم»، «رمز»، «الكمال»، وغيرها، مما يقرّب المسافة بين الحلم والواقع، أو ينجز المصالحة بين التأمل والفعل، وتجسير الهوّة بين المتناقضات. ونقرأ كذلك عن «الإنسان- المثال في رواية جبرا»، فالبطل المفرد المتفرّد مدفوع إلى حدوده القصوى، ويشتمل على صفات خاصة لا توجد في غيره، كأنما يتصور «عزيمة الأنبياء» و «شغفاً إلى إنسان لا نقص فيه»، وربطهما بمرجعين، خارجي يفرضه المجتمع، وداخلي مشدود إلى العقل والقلب، ورؤيا متفردة في النظر إلى الأشياء. وفي دراسته بعنوان «جبرا.. المنفى وأسطورة الفلسطينيّ الكامل»، يرى أن جبرا «منذ كتب روايته الأولى «صراخ في ليل طويل» (1946)، انشغل بفكرتين أساسيّتين: تعيين الثقافة الحديثة أداةً لإيقاظ المجتمع الفلسطيني وتحريره، وتقرير دور رسوليّ للفلسطينيين في العالم العربي، ينقذ العرب من تخلّفهم، فلم تهزم الصهيونية فلسطين، إنما هزمت «الحداثة الأوروبية» مجتمعاً فلسطينياً متخلّفاً». كتاب درّاج يحتاج قراءة مستقلّة، ونعود إلى الندوة، ومما قال الناشر ماهر الكيالي في ورقته «20 عاماً مع جبرا»، الذي عرفه منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي: « إن شقيقي عبد الوهاب هو الذي أرسى دعائم العلاقة معه، عندما قام بنشر كتبه، نثراً وشعراً ورواية، وأكملتُ أنا المسيرة بعد وفاته . وكان جبرا –وهذه حقيقة يعرفها أصدقاؤه- يبدي إعجابه وتقديره دوماً للمعاملة التي يلقاها من الدار كمؤلف ومبدع. وكانت زيارة جبرا إلى عمان صيف 1993 مميزة بتلك الاحتفالية التي أقامتها دارة الفنون، وتضمنت أمسية فنية جمعت الشعر والرقص والغناء والموسيقى». المبدع المغترب الورقة التي قدّمها القاص هشام البستاني حملت عنوان «البحث عن جبرا إبراهيم جبرا، أو في القفز من الماضي إلى المستقبل»، ويرى فيها أن مدينة جبرا الأولى «كانت دائماً بيت لحم طفولته»، وأن ما كان يبغيه جبرا من رواياته ليس «رواية»، بل «لعلّها نوع من السيرة المعكوسة، محاولته –التي لا طائل من ورائها- للعودة إلى طفولة مضت وصارت ماضياً، ومع مرور الأيام تحوّل الماضي إلى ماضٍ مُتخيّل محمّلٍ بما يأمل المستقبل أن يُحقّقه.. وانتقالات جبرا مع التقدّم الخطيّ للزمن كانت من البراءة إلى الدنس، من الفردوس إلى جحيم «الآن» و «القادم»، وبوساطة الهبوط إلى المدينة/ الخطيئة». ومن بين أعمال جبرا، يعتبر البستاني أن «صراخ في ليل طويل»، بما تنطوي عليه من نصوص قصصية شبه مستقلة، هي «أفضل ما كتب جبرا في هذا الجنس الأدبي.. كتبت بعقلية القاصّ ومنهجيّة القصة القصيرة: التكثيف الشديد مترافقاً مع حفرٍ عموديٍّ لا استرسال أفقيّ»، بل يرى أن بعض «قصص» الرواية هو «مفتتح الحداثة السردية بمعناها التركيبيّ والمركّب». وفي «خاتمة» دراسة البستاني، نتبيّن «راهنيّة جبرا، التي هي انعكاس لراهنيّة مشروعه التنويري التثقيفي الطليعي الحداثويّ الذي لم يُستكمل، بل انتكس ما إن حلّق قليلاً فوق الأرض وارتفع».