ننطلق في هذا المقال من كتاب «الدين في الديموقراطية.. مسار العلمانية» (1998) للباحث والفيلسوف والمؤرخ الفرنسي، مارسيل غوشيه، مدير الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، وصاحب المؤلِّف الشهير: Le) Désenchantement Du Monde) سنة 1985، والمُشرف على رئاسة تحرير المجلة الشهيرة Le) Débat)، التي أسسها بمعية رفيقه بيار نورا سنة 1980. يرى غوشيه أن العلمانية تمثل أكبر مواضع القلق بالنسبة إلى فرنسا تحديدًا، وهو أمر ارتسم عبر تاريخها الخاص، من دون أن ينفصل عن التحولات الكبرى الممتدة عبر التاريخ، والتي يلخصها مفهوم «الخروج من الدين»، من حيث هو مَلمح مهم يعبر عن الحداثة، وتفاديًا لمفاهيم العلمنة (Laïcisation) والدهرنة (Sécularisation)، التي همت عددًا من الدول والمجتمعات الغربية عبر أشكالٍ مختلفة، أخذتِ العلمانية (La laïcité) في فرنسا معنى نوعيًا وأكثر نسبية بفعل سيرورة تنسيب بدت قوية وواضحة عبر مجموعة من المراحل التاريخية. من هنا سعى إلى فحصِ العلاقة بين العلمانية والديموقراطية، ومن ثمة إعادة تعريف لهما؛ فقد منح فصل الكنيسة عن الدولة، وفصل الدين عن السياسة، تجليًا خاصًا وبديعًا للسياسة، ولأن «مدينة الإنسان هي منتوجة»، أصبحنا ميتافيزيقيًا ديموقراطيين بفعل فكرة الإله المقدس، وقد حصل التغير أيضًا في الديموقراطية ذاتها، غير بعيد عن علاقة الدولة بالمعتقد وعلاقة الجمهورية بالأديان؛ فكيف يتحقق فهم هذه التحولات؟. أولاً، إن الخروج من الدين لا يعني الخروج من المعتقد الديني، لكنه خروج من عالم كان فيه الدين يُبَنيِن ويتحكم بالشكل السياسي للمجتمعات، هي أطروحة تقع على الضد من فهم الظاهرة الدينية بوصفها بنية فوقية، ففي المجتمعات التي يخرج منها الدين، يستحيل الديني (Le religieux) إلى بنية فوقية بالنظر إلى أخرى تحتية تعمل جيدًا من دونه، أما في المجتمعات السابقة لهذا الأنموذج، فقد كان الدين مندمجًا في عمل الاجتماعي أو لنقل مرتبطًا بتوظيفاته الاجتماعية، وبهذا، فإن الخروج من الدين هو ممر من داخل عالم الأديان ما زال يستأنف، لكن داخل شكل سياسي ونظام جماعي لا يتحدد أساسًا بالدين. نحن إذن أمام تحول مهم جدًا، لأنه لئن كان الدين في المجتمعات السابقة يسهِم في بناء الجماعي (Collectif) وصوغ الالتزام نحوه، وتمارِس السلطة -قادمة من الأعلى نحو الأسفل- قوتها على الأفراد، على الرغم من إرادتهم فيما يشبه مفعول السحر، فإن الثورات المختلفة البريطانية والأمريكية ثم الفرنسية، جعلتها تصدر من أعلى، وذلك عبر عقد تأسس بإرادة الأفراد/ المواطنين، وبمقتضاه صارت هذه السلطة نيابية، بالنظر إلى رغباتنا وطموحاتنا، ومن هنا ندعوها «تمثيلية». تعمل السلطة الديموقراطية إذن وفق إشارة خاصة، لكونها محايثة لامتعالية، وهي ليست شيئًا آخر سوى أنها تعبير للمجتمع عن ذاته ومن خلال ذاته، لكن عبر مسافة هي التي صنعت الديموقراطيات الحديثة، بعيدًا من التقاطع الميتافيزيقي الذي يقرب ما بين السلطة والمجتمع. من هنا، يصبح «خروج الدين» نقلاً للعنصر الديني القديم إلى شيء آخر غير الدين، وهو مبرر رفض مارسيل غوشيه مفاهيم العلمنة والدهرنة، لأنهما لا تفيان بالمعنى، فهما من إنتاج المؤسسة الكنسية، ويحددان ما ليس كنسيًا أو كل ما ابتعد عن هذه المؤسسة؛ أي أنهما لا يحيلان إلا على مستوى محدد من الدين وبعده التشريعي فقط. ثانيًا، لمفهومي العلمنة والدهرنة وجاهة وصفية وتفسيرية، لكن مفهوم «خروج الدين» يبقى قويًا، لأنه تحليلي تأويلي، مثلما يتمتع بأصالة مميزة تعكس تحولات العالم المعاصر الغربي، بينما مفاهيم مثل العلمانية والدهرنة لا تُنهي المشكلة المطروحة، لأننا أمام سيرورة حداثة سياسية بدت ملامحها في المراحل المتأخرة لما صار الديني ثانويًا وخاصًا جدًا، ونتيجة لتحرير الأفراد وإرادتهم تحديدًا؛ لم يعد الدين أولوية وشأنًا عامًا، مثلما لم يعد النظام السياسي محددًا على نحو مسبق بالدين أو بغايات دينية، بل بات فصل الدين عن الدولة، وفصل السياسة عن الديني يستلزم حيادًا دينيًا للدولة. ثالثًا، ليس خروج الدين أمرًا قديمًا أو استهلكه التاريخ، بل هو سيرورة قائمة وممتدة ومُستأنفة؛ لذا يتحدث البعض عن منعطف في الثقافة الأوروبية، لأن سيرورة تراجع الممارسات والارتباطات ملموس ومستمر حتى بين من ظلوا يعتبرون أنفسهم مخلصين للكنيسة؛ فلم تعد للكنائس سلطة تحديد الاعتقاد، بل بلغ التغير مستوى قويًا حد فردنة الإيمان وخصخصة الإحساس، حتى في مؤسسات التقليد. والواضح أن «سيرورة خروج الدين، بدأت في تحويل الدين نفسه لفائدة أنصاره وأتباعه»، باستثناء انعطافات ممكنة وغير متوقعة ما دام يتم تضخيمه من قبل الشباب، فكبرى التراجعات هي التي حصلت داخل الحقل الديني نفسه، من هنا يطرح «مارسيل غوشيه» مفهوم «أديان دهرانية» (Religions Séculaires). إننا لا ننتبه أحيانًا إلى أن أكبر حدث روحي حصل في عصرنا هذا، وتحديدًا في القرن 20، يمكن عده موتًا؛ فقد مات تحت أعيننا، من دون أن ننتبه كفاية، ذلك الإيمان الثوري في الصراع الأرضي، لكن يبدو أننا لا ننتبه كثيرًا لما نفقده أو لما يختفي، لأننا «محمولون على تمجيد الولادات في حضور التاريخ، مهملين كثيرًا ثقل دلالة الاختفاءات»، تراجعت إذن أمام أبصارنا، إمكانية تقديس التاريخ بعدما تفتت ما نؤمن به ذاته، وخلاصة الوضعية الدينية، يجب أن تحاكم في ضوء هذا الاختفاء، لأنه تم الابتعاد عن زمن التقليد والإرث الذي يعطي قيمة للفكر الديني، إلى زمن يفرض المستقبل والتقدم المشروع، بوصفه أفقًا جديدًا للتجربة الجماعية، وفي هذا لعب التاريخ لعبته، بعدما طور الفلاسفة أمثال كانط والمخلصين لفلسفته، مرورًا بهيغل، المعرفة ما فوق الحسية، ولعل قوة الحداثة أنها أذابت أشياءً كثيرة، وجاذبيتها الكبرى تمثلت في سحر الجمع بين الإيمان والإلحاد، بين المفارقة والمحايثة، مقدمة لعمل الإنسان قيمة وفعالية لم تعطيا له من قبل. كان لماركس الفضل الكبير في نقد هيغل، ومن ثمة تعرية الجدل الهيغلي عبر إضعاف صورة الدولة الإلهية - الأرضية، وكشف الجوانب السحرية وإزالتها بإدخال النور المشع الذي تمثله الحقائق الدنيوية، إنها وقائع الرأسمال والصناعة والصراع الطبقي، ومع ذلك التفت ماركس كثيرًا، وربما أكثر من هيغل، إلى الدين ودوره، ههنا يبدو ما يعارِض الدين بمثابة دين مضاعف؛ فالأديان الدنيوية ليست كالأديان العلمانية، مثلما أنها ليست كالأديان الأخرى، فهي نتاج لسيرورة من العلمنة مست التاريخ. فقد غطت العلمانية الدين، وحاولت أن تملأ جوانب كان هو يملؤها، لكن المشكلة المطروحة هي كيف يمكن أن نصنع ديموقراطيين مؤمنين؟، ولاسيما إذا حاربنا من أجل إيمان مشفوع بسياسة تعددية؟، فهذا يقع في صلب مشكلة العلمانية، إذ «لا أحد يمكنه أن يعتقد بعد، حتى لو أراد، على الأقل في الأرض المسيحية، بأن النظام الذي يربطنا يأتي من الله ويربطنا به»، هذا ما يغير الديموقراطية ومنزلة الأديان داخلها، لأنه تم إضعاف الدين بقوة، عبر مسار متنام، والعلمانية أكبر قوة تستفيد من هذا الضعف والإضعاف. يبقى أن العلمانية التقليدية/ القديمة ولنقل اللائكية، شيء والعلمانية المعاصرة شيء آخر؛ يتعلق الأمر إذن بإعادة صوغ أو تعريف لأبعادها، فما حدث بشكل معكوس، هو أن الأديان تصدرت الساحة بدا هذا واضحًا عندما تراجعت إلى الخلف، وسنرى كيف أسهم ذلك في تغيير الديموقراطية ليعطيها حق المدينة، هكذا صارت الأديان بالتدريج، اجتماعيًا وتاريخيًا، على الهامش، ومن ثم برزت ردود فعل كبرى منها التعصب السياسي كما حصل في دار الإسلام. ختامًا، تبدو أطروحة «عودة الديني» موافقة لأي شيء إلا أن تكون عودة للدين، فهي عودة تأتي من تكيّف الاعتقاد مع الشروط المعاصرة للحياة الاجتماعية والشخصية التي تقودنا إلى البنينة الدينية للاجتماع البشري، فالتاريخ والفن، وكذا الزعماء الدينيون صَنعوا الدّيني «بالجمع»، بل إن الأديان، أسهمت في تنامي عالم معارض للعالم الديني نفسه، وعلى نحو واضح، يمكن القول إن العلمانية انتعشت من تهميش الكنائس، لكنها صارت واقعًا من دون مبادئ. تغيرت إذن شروط فهم العلمانية؛ لأننا أمام حركية قوية، لا هي دينية ولا هي علمانية، وبهذا تم تجاوز الأنموذج الفرنسي التقليدي، مثلما أن الدول ذات البعد العلماني صارت أيضًا أكثر استفادة من هذا التغير المهم، يبقى أن المطلب الأساس هو الاعتراف العمومي للعقيدة الفردية، ذلك هو التحول المهم، وتلك هي القطيعة الكبرى. *أكاديمي من المغرب * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.