نتنياهو: قوات إسرائيل باقية في لبنان لما بعد انتهاء مهلة الانسحاب    الجبير يُشارك في جلسة حوارية في منتدى دافوس بعنوان «حماية البيئة لحفظ الأمن»    «سلمان للإغاثة» يوزع مستلزمات تعليمية متنوعة لدعم مدارس محو الأمية ومراكز ذوي الإعاقة في اليمن    40 ألف ريال تكاليف ليلة الحناء    ترمب يلغي الحماية الأمنية عن فاوتشي: «ليحمي نفسه»    الخطيب: «السياحة قوة تحويلية للاقتصاد»    السعودية تعلن استضافة اجتماع عالمي دوري للمنتدى الاقتصادي العالمي    بوتين: مستعد للتفاوض مع ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي رئيس البرلمان التايلندي    بدء ترحيل المهاجرين غير الشرعيين من أمريكا    آل سمره يقدمون شكرهم لأمير نجران على تعازيه في والدهم    من بلاطة متصدعة إلى أزمة بناء.. هل الكفاءة الوطنية هي الحل    الجوف: القبض على شخصين لترويجهما أقراصا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    القصيبي مسيرة عطاء    القيادة وجدارية المؤسسات    الوقاية الفكرية درع حصين لحماية العقول    عبد العزيز بن سعد يشكر القيادة لتمديد خدمته أميراً لحائل    قائد الإدارة الجديدة في سوريا يستقبل وزير الخارجية فيصل بن فرحان    أكثر من 20 ألف جولة رقابية تنفذها بلدية محافظة الأسياح لعام 2024م    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الإساءة إلى جيرانكم وأحسنوا لهم    ماذا يحدث في اليوم السابع من هدنة غزة؟    سدايا تمنح شهادة اعتماد لمقدمي خدمات الذكاء الاصطناعي    "ليلة فنانة العرب أحلام: احتفاء بالألبوم الجديد ضمن فعاليات موسم الرياض"    بعد الهدوء الهش في غزة.. الضفة الغربية على حافة الانفجار    خطيب المسجد الحرام: حسن الظن بالله عبادة عظيمة    أمير الباحة يشكر القيادة بمناسبة تمديد خدمته أميراً للمنطقة    إحباط محاولة تهريب أكثر من 1.4 مليون حبة كبتاجون عبر ميناء جدة الإسلامي    الذهب يسجل أعلى مستوى في 3 أشهر مع ضعف الدولار وعدم وضوح الرسوم    "المركزي الروسي" يخفض سعر صرف الروبل أمام العملات الرئيسية    قاضٍ أمريكي يوقف قرار تقييد منح الجنسية بالولادة    انطلاق ثاني جولات بطولة "دريفت 25" الدولية لقفز الحواجز في تريو الرياضي بجدة    أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    من التمريرات إلى الأرباح    المشي حافياً في المنزل ضار للقدمين    العمل المكتبي يُبطئ الحركة ويزيد الأرق    عقل غير هادئ.. رحلة في أعماق الألم    سلمان الشبيب.. من ضفاف الترجمة لصناعة النشر    %2 نموا بمؤشر التوظيف في المملكة    الأخضر تحت 16 يفتتح معسكره الإعدادي في جدة بمشاركة "27" لاعباً    400 مشارك في جائزة "تمكين الأيتام "    "خالد بن سلطان الفيصل" يشارك في رالي حائل 2025    كل التساؤلات تستهدف الهلال!    رحلة نفسيّة في السفر الجوّي    أعطته (كليتها) فتزوج صديقتها !    أمانة جدة تضبط 3 أطنان من التبغ و2200 منتج منتهي الصلاحية    الثنائية تطاردنا    تاريخ محفوظ لوطن محظوظ برجاله..    تمديد فترة استقبال المشاركات في معسكر الابتكار الإعلامي «Saudi MIB» حتى 1 فبراير 2025    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة فيفا    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس منغوليا في وفاة الرئيس السابق    فعالية "اِلتِقاء" تعود بنسختها الثانية لتعزيز التبادل الثقافي بين المملكة والبرازيل    إنجازات سعود الطبية في علاج السكتة الدماغية خلال 2024    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين ك"منظمة إرهابية أجنبية"    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    وصية المؤسس لولي عهده    القيادة تعزي الرئيس التركي في ضحايا حريق منتجع بولو    ندوة الإرجاف    سليمان المنديل.. أخ عزيز فقدناه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انتخابات السودان : مخاوف التفكيك وتحجيم الترابي
نشر في الحياة يوم 11 - 03 - 1996

احكمت الأزمة خناقها على السودان والسودانيين، حتى بدا لأطراف عدة منهم ان الأيام المقبلة لا بد من ان تكون حبلى بتغيير ما. وحكومة الفريق عمر حسن البشير هي اكبر الحالمين بأن الفرج قريب، والانفراج آتٍ. والشارع السوداني يتفرج، في سلبية غير مسبوقة، على حاكميه ينتخبون انفسهم بأنفسهم، ويعد الأيام كم بقي منها قبل انتهاء المهلة التي حددها مجلس الأمن للحكومة السودانية لتنصاع لمتطلبات قراره الرقم 1044 الخاص بتسليم ثلاثة مطلوبين للعدالة الأثيوبية اثر محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في اديس ابابا الصيف الماضي.
الخرطوم تجتاحها هذه الأيام حمى الانتخابات. أكثر من 40 مرشحاً تقدموا لمنافسة الفريق البشير على رئاسة الجمهورية. مئات رشحوا أنفسهم لعضوية البرلمان الاتحادي الجديد. غير ان هذه الحمى ليست مثل "ملاريا" الانتخابات التي عرفتها الخرطوم ومدن البلاد الأخرى في عهود سابقة. اذ تنظم الانتخابات وتديرها حكومة تولت السلطة اثر انقلاب عسكري أطاح حكومة مدنية منتخبة ديموقراطياً.
وتساءل الشارع السوداني مراراً يوم أعلنت السلطات انها قررت اجراء انتخابات: لماذا الانتخابات ما دامت الحكومة انقلبت أصلاً على حكومة منتخبة؟ وقبل ان يفيق من دهشته توالت عليه المفاجآت:
- قرار بأن تتزامن الانتخابات الرئاسية مع الانتخابات النيابية.
- الدكتور حسن الترابي، رجل الحكم الأقوى، يرشح نفسه في الدائرة نفسها التي تجرع فيها كأس الهزيمة العام 1986.
- مجلس الأمن يصدر قراره الرقم 1044 مطالباً حكومة السودان بالتعاون مع منظمة الوحدة الافريقية لتسليم المطلوبين الثلاثة في محاولة اغتيال مبارك الى اثيوبيا.
- غازي صلاح الدين الأمين العام للحزب الحاكم يؤكد ان النية معقودة على ترشيح الترابي رئيساً للبرلمان الجديد.
- المعارضة تعلن مقاطعة الانتخابات وتصفها بأنها "مسرحية هزيلة".
وفيما كانت الحكومة التي تسيطر عليها الجبهة الاسلامية القومية التي يتزعمها الترابي، تأمل بأن تتيح الانتخابات انفراجاً داخلياً يعينها على تجاوز صعوباتها الداخلية وعزلتها الخارجية، اجبرت المفاجآت المتوالية الشارع السوداني على التفكير بصوت عالٍ في ما يتعين ان يؤول اليه نظام الحكم الجديد، بكل ما ينطوي عليه ذلك من اثارة للأسئلة الصعبة: هل "تسلِّم" هذه الحكومة "لتَسْلَم" كما قال خصمها الأكبر السيد محمد عثمان الميرغني؟ أم تعمد الى "تفكيك سلمي" للنظام يحتم تأجيل الانتخابات لتكون خطوة لاحقة في صفقة تسوية محتملة بين المعارضة والنظام حسبما ينسب الى مصادر في الادارة الأميركية؟
يقول أركان الحكم السوداني ان الانتخابات الحالية تمثل انتقالاً من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية. غير ان خصومهم يقولون "ان أي نظام غير شرعي لا يملك ان يعطي نفسه شرعية يفتقر اليها…"، وهي اشارة الى ان انقلاب الفريق البشير هدّ نظاماً ديموقراطياً منتخباً.
ويعتقد آخرون ان الخرطوم كانت تنظر بعين الإعجاب الى الانتخابات الرئاسية التي اجريت في الجزائر في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. غير ان مقارنة الوضع الجزائري بالسوداني تنم عن مفارقات عدة، إذ إن الرئيس الأمين زروال طلب شرعية الصندوق الانتخابي لأن ناخبيه كرهوا الحرب الأهلية، ولأن الغرب لا يريد ان تلوح للاسلاميين فرصة للاستئثار بالحكم. أما في السودان فمع ان الحرب الدائرة بين الجيش ومناوئيه الجنوبيين اهلية فهي لا تزال جهوية، ولم تصل بعد الى شوارع مدن العاصمة المثلثة مثلما يحدث في الجزائر العاصمة.
والمفارقة الكبرى تتمثل بالطبع في ان القوة السياسية السودانية المعزولة من السلطة الحالية رفضت المشاركة في الانتخابات بأي صورة. وقال مقربون الى رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الأمة السيد الصادق المهدي انه اعتبر ان علاقته بالنظام الذي يرعاه صهره "علاقة سجان بمسجون واذا كنت لست حراً في ادارة شؤون بيتي فكيف يطلب مني ان اشارك في ادارة البلاد كلها؟".
واذا كانت الجبهة الاسلامية للانقاذ قد وجدت من يتعاطف معها، ومن غضت طرفها عن مشاركته في الانتخابات بجامع الدعوة المشتركة الى تحكيم الشرع، مستفيدة من النظرة الغالبة اليها باعتبارها الطرف المُعتدَى عليه، فإن السودانيين يعتبرون الجبهة الاسلامية القومية الطرف المُعْتدِي، "لذلك يبدو الشارع مقتنعاً بأن انفجاراً سيحصل، أما موعد حدوثه فعلمه عند الله" على حد تعبير لاجئ سياسي سوداني في لندن.
اعترف رئيس هيئة الانتخابات السودانية القاضي عبدالمنعم الزين النحاس بأن غالبية المرشحين لرئاسة الجمهورية ليست جادة بما فيها الكفاية. وبدا لكثيرين عندما فتح باب الترشيح في شباط فبراير الماضي ان المسألة برمتها لا تعدو ان تكون فصلاً في لامعقول الساحة السياسية السودانية منذ تولي الفريق البشير الحكم العام 1989. إذ تقدم أكثر من 48 مواطناً بطلبات ترشيح، منهم سباح محلي معروف، وضابط شرطة سابق برتبة نقيب، وضابط في الجيش برتبة عقيد، وطبيب أسنان، ولاجئ سياسي في بريطانيا، وعمدة، ومساعد تدريس في جامعة الخرطوم، وأكاديمي غير معروف يقيم في جدة.
غياب "التلميذ الفاشل"
وقبل ان يبدأ المرشحون للرئاسة والبرلمان حملاتهم الانتخابية، اعلنت السلطات ان أكثر من 50 مسؤولاً في مؤسسات الحكم الحالي فازوا بالتزكية في دوائر جغرافية. وأطلق رسمياً على ذلك الأسلوب في الفوز "الاجماع السكوتي"! وهو أمر اعتبره خصوم النظام دليلاً على عدم حماسة الناخبين الى المشاركة في الانتخابات.
قال عبدالمحمود نورالدائم الكُرُنكي المسؤول عن الاعلام في سفارة السودان في لندن لپ"الوسط": "غياب من يغيب عن الانتخابات لا يعدو ان يكون كتعمد التلميذ الفاشل الغياب يوم الامتحان. لأن السجل الانتخابي يضم 9 ملايين ناخب في مقابل 5 ملايين شاركوا في انتخابات 1986. السجل الانتخابي هو الذي يحكم على جماهيرية أي طرح سياسي".
غير ان رئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي في بريطانيا السيد عادل سيد أحمد عبدالهادي قال لپ"الوسط" ان حزبه يملك معلومات مؤكدة ان الحكومة استخدمت سجلات "البطاقة التموينية" واعتبرتها سجلاً انتخابياً. وأضاف: "شباب المدن والقرى لم يذهبوا بمعظمهم لتسجيل اسمائهم. بعض قادة اللجان الشعبية في الأحياء من متشددي الجبهة هدّد أرباب الأسر بحرمانهم من حصصهم التموينية اذا لم يسجلوا اسماءهم". وتساءل عبدالهادي: "لماذا يتحمس الناخب السوداني وهو يرى الجبهة الاسلامية التي تحكمه وترشح نفسها لتدعي شرعية تكيل له بها مزيداً من العذاب والعزلة؟".
وقال الكرنكي: "ان 80 في المئة من عضوية الأحزاب الطائفية يشارك في مسار ثورة الانقاذ الوطني وفعالياتها على المستويين الاتحادي والولائي. وهذا يعني ان شرعية تلك الأحزاب غدت جزءاً من شرعية النظام".
وأضاف: "عندما تبنينا الفيديرالية وجد كثيرون من القيادات الاقليمية انفسهم في طرحنا وصاروا "انقاذيين"، وهم عناصر الأحزاب التقليدية نفسها، خصوصاً الأمة والاتحادي الديموقراطي. لأنهم وجدوا ان ليست هناك خلافات بينهم وبين الطرح الاسلامي للحكومة".
لكن المعارض السوداني الحارث ادريس الحارث - وهو ديبلوماسي سابق لجأ الى بريطانيا - قال ان هذه الانتخابات "أقصى حد تملكه الجبهة الاسلامية القومية من الانفتاح، فهي تتعرض لضغوط شديدة بسبب استمرار حرب الجنوب وارتفاع النداء الى الديموقراطية في الشمال. ولا توجد قيادات حزبية ذات وزن دخلت مع الجبهة في ما تقوم به. معها شخصيات حزبية. نعم، ذلك صحيح لأن هدفها المعلن ان تستقطب أفراداً لا احزاباً، لذلك حتى لو دخل معها 50 حزبياً فلن يعادلوا قوة حزب معزول. الجبهة تريد فقط ان تنتخب نفسها".
تفكيك أم تغيير؟
المراقبون المهتمون بمتابعة الشأن السوداني لم يكونوا أقل حيرة من المواطن السوداني العادي الذي ذهب مذاهب شتى في تفسير الخطوة التي أقدمت عليها الجبهة الاسلامية القومية في وقت تواجه فيه أشد أزماتها اثر قرار مجلس الأمن الرقم 1044. وبما ان المهلة التي منحها القرار للحكومة السودانية لتسليم المطلوبين الثلاثة تنتهي في 31 آذار مارس الجاري، من دون ان يلوح في الافق ان الخرطوم ستقدم اجابة مقبولة على مطالب القرار، فقد تعددت مقترحات الحل، من داخل الجبهة نفسها ومن خارجها.
هناك مبادرة رئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي التي أعلنها في خطبة صلاة عيد الفطر الماضي: تشكيل حكومة قومية انتقالية، ترعى انعقاد مؤتمر قومي دستوري لحل مشكلات البلاد.
تلقف اسلاميون من "يسار" حزب الجبهة الاسلامية القومية مقترحات المهدي ليعلنوا مبادرة تترسم الخطى نفسها، وتدعو الى تكوين مجلس موقت من 80 عضواً، على ان يختصر الرئيس المنتخب ولايته من خمسة أعوام الى عام واحد تجرى بعده "انتخابات تعددية". وأبرز أصحاب هذه المبادرة الصحافي محمد طه محمد أحمد، وهو قانوني سابق انتمى الى جبهة الترابي وبرز بين أعضائها منذ كان طالباً في كلية القانون في جامعة الخرطوم. غير انه، مع تأييده العام للنهج الاسلامي، اختط لنفسه مساراً مستقلاً كان طبيعياً ان يقوده الى خارج دائرة المستفيدين من النظام.
في لندن وواشنطن قالت مصادر سودانية وديبلوماسية غربية لپ"الوسط" ان مسؤولين في الادارة الأميركية ابلغوا النظام السوداني بأن الولايات المتحدة ترى تأجيل الانتخابات النيابية والرئاسية الى حين ابرام صفقة مع الجنوبيين والمعارضة الشمالية تكون الانتخابات جزءاً من بنودها.
ويقول معارضون واسلاميون سودانيون في لندن ان ثمة معلومات مفادها ان واشنطن تحبذ "تفكيك النظام سلمياً من دون تعرض الاسلاميين لقهر وعنف ينقلان خيار العنف الى مدن الشمال السوداني".
ويبدو ايضاً ان القوى المتنفذة داخل النظام لديها مبادرتها التي تبدت معالمها في التصريح بأن الترابي سيرشح لرئاسة البرلمان الاتحادي الجديد. لماذا؟ وكيف؟
صراع وتحجيم
مصادر الجبهة الاسلامية في لندن تقول ان الجبهة بقيت منذ انقلاب 1989 تعيش "صراعاً داخلياً مكتوماً كاد ان ينفجر علناً" اثر محاولة اغتيال الرئيس المصري في حزيران يونيو الماضي. وتضيف: "ظلت قوى عدة تتبرم من نفوذ قادة الجبهة وانفرادهم بشأن البلاد والحكم. ودارت نقاشات داخلية حادة عن ضرورة الاحتكام الى مؤسسات تنظيمية. وفي هذا الاطار مورست ضغوط شديدة اسفرت عن تحجيم قادة كبار منهم علي عثمان محمد طه وزير الخارجية الرجل الثاني في قيادة الجبهة، بتعيينه وزيراً في الحكومة".
غير انه يبدو ان ذلك لم يكن كافياً. واستمر الصراع الداخلي والجدل حتى فجَره الدكتور عبدالوهاب الافندي الملحق الاعلامي السابق للحكومة في لندن في كتاب كال فيه الانتقادات للنظام والترابي والمحيطين الذين اتهمهم بخطف التنظيم بدعوة انه حُلَّ، وسماهم "السوبر تنظيم".
وفي معلومات "الوسط" ان الصراع داخل الجبهة طاول الترابي نفسه منذ أشهر، فقد اقترح "دعاة التغيير" - على حد تعبير مصدر وثيق الصلة بهذه المجموعة - على الترابي ان يختار لنفسه "دوراً علنياً" في النظام بعد الانتخابات. واقترحوا عليه ان يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية. لكنه رفض بشدة. "ويعني قبوله أخيراً خوض الانتخابات النيابية وتأكيد النية في ترشيحه لرئاسة البرلمان المنتخب انه اضطر الى الرضوخ للضغوط التي مورست عليه"، حسبما ذكر المصدر.
وأضاف: "لا يمكن لعاقل ومفكر ان ينكر ان ترشيح الشيخ حسن الترابي وتكليفه رئاسة البرلمان تحجيم له. وهو اتجاه "دعاة التغيير" الى تكوين قيادة جماعية لتسيير الجبهة والحكم". وتوقع المصدر ان تتلو ذلك اجراءات تشمل اغلاق "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" الذي انشأه الترابي واجهة لأمميته الاسلامية، وتحويله ادارة صغيرة ملحقة بوزارة الخارجية. وكذلك اغلاق "مجلس الصداقة الشعبية العالمية"، وهو احدى مؤسسات القيادة الحالية للجبهة، وإلحاقه بوزارة الخارجية.
وكشف المصدر لپ"الوسط" ان الأسبوع الماضي شهد "نقاشاً حاداً" بين قادة الجبهة حول مطالبة "دعاة التغيير" باعتماد خطوتين أساساً لحل مشكلة السودان مع مجلس الأمن قبل حلول نهاية المهلة، وهما:
- إصدار قرار يقضي بمحاكمة قادة الجبهة ومسؤوليها الأمنيين الذين كانت سياساتهم الأمنية سبباً في العزلة الديبلوماسية التي تطبق على البلاد، "باعتبار أن المصلحة العليا للبلاد تأتي في مرتبة ثانية بعد مصلحة التنظيم".
- اتخاذ "اجراء واضح" في شأن المطلوبين الثلاثة: "اما ان يُسلموا الى اثيوبيا واما ان تعلن الحكومة انها تؤويهم لكنها لن تسلم مسلمين الى كفار … باعتبار ذلك مسألة مبدأ وليست ذريعة سياسية".
ويعتقد "دعاة التغيير" بأن البرلمان الجديد سيكون أقوى المجالس النيابية المنتخبة في تاريخ البلاد، خصوصاً ان معظم "المغضوب عليهم تنظيمياً الذين ابعدوا من السلطة سيكونون من أعضائه". وقالوا انهم يتوقعون انه سيكون "الساحة المثالية المطلوبة لسفور الصراع بين الاسلاميين". وفي معلومات "الوسط" ان هذه المجموعة حذرت الترابي ومساعديه في اجتماع عقد في منزله الأسبوع الماضي من "ان الخيار الوحيد الأرجح اذا لم يحصل التغيير المنشود ان تقبل البلاد على صوملة".
وفي تحليل هذه القيادات الاسلامية ان حكومة "ثورة الانقاذ الوطني" لا تخشى فرض عقوبات اقتصادية على السودان في نيسان ابريل المقبل باعتبارها تواجه حصاراَ غير معلن منذ سنوات، "لكن فرض حظر على تزويدنا سلاحاً يعني ان الجنوبيين سيحتلون جوبا وقد يزحفون شمالاً، وان الاريتريين والمعارضة الشمالية سيجتازون الحدود الشرقية صوب المركز، وان دارفور غرب السودان ستتمرد على الخرطوم. وهذه هي الصوملة نفسها".
حزب البازار
رئيس "الحزب الاتحادي الديموقراطي" السيد عادل سيد أحمد عبدالهادي قال لپ"الوسط" ان انتخاب الدكتور غازي صلاح الدين العتباني أميناً عاماً لپ"المؤتمر الوطني" الحزب الحاكم في كانون الثاني يناير الماضي "كان يعني بوضوح انه رُقي الى منصب أكثر أهمية من منصب الرجل الثاني في قيادة الجبهة وهو وزير الخارجية علي عثمان محمد طه. وبما ان العتباني سيتزعم امانة الحزب الذي سيتولى الاشراف على السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما في ذلك اداء الرئىس ووزير الخارجية، فذلك يعني اننا نشهد مولد قائد جديد للجبهة الاسلامية القومية خلفاً للترابي. الأيام وحدها ستكشف كل شيء".
ورأى الديبلوماسي السابق الحارث ادريس - وهو قيادي ناشط في حزب الأمة - ان أي مبادرة لتوسيع مواعين النظام لن تنجح مطلقاً اذا أتت من داخل الجبهة، "لأنها واقعة أساساً تحت سطوة التيار المتشدد، ولذلك ستوظف هذا التشدد ليكون جزءاً من أي سلطة مقبلة. تيار الترابي قوي وتصعب ازاحته عسكرياً. والمؤتمر الوطني حزب حاكم مهما ادعى قادته غير ذلك، لكنه سيكون أضعف من تجربة الاتحاد الاشتراكي السوداني حزب نظام الرئيس السابق جعفر نميري، وسيكون مجرد بنية فوقية وحزب بازار لا أكثر ولا أقل".
ان الخيارات المطروحة أمام الجبهة وحكومة "ثورة الانقاذ الوطني" لا تحظى بقبول قيادات الحكم السوداني، لأن الديموقراطية الحقيقية التي تطالب بها القوى السودانية، بما فيها "يسار الجبهة الاسلامية"، لا بد من ان تتم بالتفكيك، اما بأن يتجه النظام الى استيعاب القوى السياسية الأخرى تمهيداً لاجراء انتخابات تعددية حرة، واما على الأقل بالسماح بقيام منابر تتحول تدريجياً بنيات سياسية قائمة بذاتها.
ورأى عدد من المواطنين في الخرطوم، اتصلت بهم "الوسط" هاتفياً، ان الانتخابات لن توفر للنظام الشرعية التي ينشدها. واجمعوا على ان نظرة الشارع - في العاصمة على الأقل - الى التطورات الحالية تتلخص في "ان الجبهة غيرت جلدها كالعهد بها، لأن الديموقراطية المتشددة تتطلب تغييراً بنيوياً في النظام وهو أمر اذا تحقق فمعناه احالتها على التقاعد وهذا ما لا تريده".
وتكررت في سياق تلك الآراء الاشارة الى تفاقم الوضع المعيشي. وقال صحافي عاطل عن العمل في الخرطوم: "دخل الأسرة الفقيرة تآكل نتيجة التضخم، صفحات الاعلانات في صحف النظام تفيض باعلانات الطلاق لإعسار الازواج. الجنيه السوداني تجاوز في مقابل الدولار 1300 جنيه. الازمة انعكست تآكلاً اخلاقياً واجتماعياً، ليس بسبب انعدام المثل والقيم، لكنها الحاجة، فالحكومة تدير اقتصاد حرب غير معلن، ووسائل الانتاج لا يملكها الناس بالتساوي. وهناك ترف نتيجة وفرة مزيفة تتأتى بظلم طبقات عريضة لمصلحة طبقة واحدة هي اتباع الجبهة الاسلامية القومية".
ماذا ستفعل المعارضة؟
أوفت المعارضة السودانية بتعهدها مقاطعة الانتخابات، غير ان ذلك لم يقلل من حدة الانتقادات الموجهة الى عدم فاعليتها، وانشطارها تيارين - داخلي وخارجي - عاجزين عن القيام بأي مواجهة ملموسة ضد النظام. ويرى المراقبون ان اتهام المعارضة بعدم الفاعلية يعزى بدرجة كبيرة الى الآلة الاعلامية للنظام "الذي احتكر السلطة والاقتصاد والادارة واجهزة الاعلام". كما ان المعارضة الخارجية تعاني مشكلة الافتقار الى ذراع عسكرية، "فهي لا تملك آليات قوة ولم تنشئ معسكرات لتدريب مقاتلين. ومع انها تؤيد الكفاح المسلح فكثير من قادتها متحفظون عن تنفيذ عمليات عسكرية ضد الخرطوم" على حد تعبير خبير بريطاني. غير انه لاحظ ان الأجواء التي تسود منطقة القرن الافريقي حالياً "أضحت مواتية لتشجيع المعارضة على تسليح نفسها".
ويرى معارضون ان النظام، بممارساته وسياساته، يولد قوى جديدة تعارضه كل يوم. منها القوى الطالبية وحركات التذمر داخل الجيش والشرطة، "كلها طاقات كبيرة لكن تنظيمها مشكلة". المصدر الاسلامي الذي تحدث الى "الوسط" أقرّ بأن النظام "يكسب مزيداً من العداء كل يوم. ومع ان جماعتنا الجبهة يعتقدون بأنهم اخترقوا معاقل حزبية في غرب السودان وشرقه، الا ان من الانصاف القول ان سكان المدن وأي مواطن حالم بالتغيير لن يعطوا أصواتهم لمرشحي الحكومة والجبهة".
والواقع ان أطرافاً عدة من القوى السودانية المرتابة في كل تصرفات الاسلاميين تعتقد بأن الهدف الحقيقي من تنظيم الانتخابات التي بدأت الأربعاء الماضي تغيير اسمهم انتخابياً من "الجبهة الاسلامية القومية" الى "المؤتمر الوطني" ليكون حزبهم في اللعبة الديموقراطية المقبلة.
غير ان المنطق يقتضي الاقرار بأن الانتخابات اسفرت عن ابراز شرعية المعارضة الداخلية التي يتزعمها المهدي والسيد ميرغني عبدالرحمن الحاج سليمان وزير التجارة السابق الذي يقود الحزب الاتحادي الديموقراطي في الداخل. وبدأ عدد من كتاب الأعمدة في صحف النظام يتحدث عن ضرورة "الاعتراف بشرعية الآخر"، خصوصاً بعدما انذر المهدي السودانيين بأنه لن يتكلم بعد الآن عن المخرج السلمي الديموقراطي المنشود.
في خضم هذه الأزمة واستمرار تفاقمها ارتفعت أصوات عدة تندد بالمهدي، واصفة مقترحاته تلك بأنها "مخرج سلمي للجبهة فحسب". ويرى أصحاب هذا الرأي - وفي مقدمهم اليساريون وقطاعات من المستقلين - "ان أي حل مُركب للوضع في السودان عن طريق صفقة بين المهدي والجبهة أو الأميركيين والقيادات الشمالية والجنوبية سيأتي بالأخطاء المركبة نفسها التي كانت سبباً في انقلاب 1989" حسبما ذكر الناشط السوداني وحيد محمد ابراهيم الذي يقيم في اكسفورد.
وأضاف: "الحل انتفاضة شعبية تكفل رقابة سياسية صارمة على اداء النظام الديموقراطي المقبل وتفرض على القوى الدولية والاقليمية احترام السياسة الخارجية المتوازنة التي سينتهجها الحكم الجديد في السودان. كما ان الانتفاضة كفيلة بإبراز جيل جديد من القادة والسياسيين يضع حداً لتكرار الوجوه السياسية المتعاقبة على ادارة الأحزاب".
نزف الجرح العميق
المراقب لمسلك الجبهة الاسلامية القومية، وهي تدير أول "حكومة اسلامية" في افريقيا والعالم العربي، يلاحظ انها تفتقر الى الحنكة التي أسبغها عليها الاعلام العربي والدولي. فهي مفعمة بالأحلام الصعبة التحقق، وتعتقد بأنها بنت لزعيمها مرجعية في عالم الاسلام السني على نسق آيات الله في ايران، وتفكِّر في قلب النظام الدولي الجديد وليس التعايش معه، وتسعى الى تغيير بنية المجتمع والادارة في السودان كأن فكرها وتنظيرها يَجُبَّان ما قبلهما.
ومنذ الوهلة الأولى لحكمها بدأت الجبهة ترتكب الأخطاء: موقفها تجاه حرب الخليج وغزو الكويت، اغلاق قنوات الاتصال بالمعارضة، الحديث عن نقل الأسلمة الى الحزام الافريقي، مساندة الجماعات الاسلامية في دول عربية وافريقية، تبني نظام الحزب الواحد، مواجهة الغرب بتحدٍ يخلو من الديبلوماسية، والاستمرار في حرب الجنوب ضد رغبات كل الأطراف…
هكذا حصدت العداوات بلا حساب. وأضحت معزولة على الصعيدين الاقليمي والدولي. وبقي المواطنون في الداخل يتفرجون عليها وهي تصارع في كل اتجاه، لا يصدقون ما تقول، ولا يتحمسون له. ولم يبق لها سوى ان تأكل نفسها، وتفكك نظامها، ليبدأ جيل جديد من مؤيديها محاولة اعادة البناء الذي هدمه صانعوها بأيديهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.