أكدت الحكومة السودانية مجدداً طرحها الفيديرالي كوسيلة لحل مشاكل السودان، تنظيم التعايش الأهلي وتوزيع عادل للثروة الوطنية وتقاسم القرار السياسي، بما يكفل انهاء الحرب الانفصالية في الجنوب منذ العام 1983. وجاء ذلك في صيغة مشروع سلام خاص بجنوب السودان اعدته الحكومة السودانية كورقة عمل ستشكل اسس الموقف التفاوضي للخرطوم التي استقبلت في وقت سابق هذا الشهر وفداً نيجيرياً رفيع المستوى بهدف الاعداد لجولة جديدة من مفاوضات السلام بين الأطراف السودانية في العاصمة النيجيرية أبوجا. وكانت آخر جولة تفاوض سودانية في أبوجا، أواخر ايار مايو الماضي، لم تتوصل الى نتائج حاسمة، نظراً الى انهيار الوضع العسكري في جنوب السودان وعدم توصل الأطراف المتفاوضة الى حدٍ أدنى من التفاهم. وتتكون "مبادرة حكومة السودان" الجديدة من امور عدة ابرزها: رفض مبدأ التعددية السياسية، مع الاعتراف بالتعددية العرقية والمذهبية. تطبيق نظام المؤتمرات الشعبية. يحكم السودان عبر نظام فيديرالي يتكون من تسع ولايات، يتم نقل السلطات المركزية اليها عبر التطور المتدرج، وتكون للولايات مجالسها التشريعية التي تسن القوانين. الشريعة الاسلامية تشكل محوراً رئيسياً للعمل السياسي وتطبق في كل السودان، باستثناء المناطق ذات الغالبية غير المسلمة، حيث يعتمد العرف السائد كمصدر للتشريع. "مبادرة حكومة السودان" التي تزامن طرحها مع وصول وفد الوسيط النيجيري الى الخرطوم، في 11 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، هي في الوقت نفسه الرد السوداني الرسمي، غير المباشر، على مبادرة سلام لانهاء الحرب في جنوب السودان طرحها الصادق المهدي، زعيم حزب الامة السوداني، في النصف الثاني من آب اغسطس الماضي، وبعث بنسخ عنها الى الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير والعقيد جون قرنق زعيم حركة التمرد في الجنوب التي تحمل اسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وعدد من القيادات السياسية الشمالية والجنوبية، مرفقة برسائل شخصية الى الرئيس السوداني وخصمه العقيد قرنق. وتزامن رد حكومة الفريق البشير مع اتصالات تجريها قيادات فاعلة في حزب الامة مع عواصم عربية مهمة تمهيداً لارسال نسخ عن مبادرة الصادق المهدي الى الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي ومنظمة الوحدة الافريقية. كذلك الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن. وتتألف مبادرة الصادق المهدي من سبع نقاط هي: السودان وطن متعدد الاديان والاعراق والثقافات يحكم مبدأ التعايش في ما بينها التسامح وكفالة حقوق المواطنة. ومنعاً لتجني فئة على أخرى توضع وثيقة يلتزم الجميع باحترامها، تنص على حقوق المواطن السوداني. الدولة السودانية دولة ديموقراطية لا مركزية. ودرجة اللامركزية يقررها الشعب الذي سيختار ما بين الحكم الاقليمي أو الفيديرالية أو الكونفيديرالية. التشريع ديموقراطي. ولكل مجموعة وطنية الحق في الدعوة للبرنامج التشريعي الذي تريده، شرط مراعاة عاملين: أ - مقتضيات وثيقة حقوق المواطنة. ب - مقتضيات درجة اللامركزية. نظام الحكم في السودان يلتزم بحقوق الانسان وبحرياته الاساسية، ويكون ديموقراطياً بمعنى الكلمة، وشكله الديموقراطي يكون ملائماً لظروف البلاد. الاقتصاد السوداني يلتزم بخطة تراعي: أ - اعادة تأهيل الاقتصاد الوطني لجعله مجدياً وتحقيق التنمية. ب - تحقيق العدالة الجهوية والفئوية في توزيع الانشطة الاقتصادية. ج - إعادة تعمير وتأهيل المناطق المتأثرة بالحرب. مراجعة أجهزة الدفاع والامن في البلاد لتحقيق المشاركة العادلة لكل المجموعات الوطنية. ووضع النظم والضوابط للتوفيق بين الكفاءة والمشاركة. التزام سياسة السودان الدولية بالمواثيق الاقليمية والدولية، ومراعاة التوازن والايجابية في مجالات انتمائه العربي والأفريقي. فما الجديد الذي تقدمه مبادرة الصادق المهدي لحل مأزق التعايش الأهلي في السودان، والمتمثل في حرب اهلية طاحنة يشهدها جنوبه منذ العام 1983؟ مبادرة زعيم حزب الأمة محاولة جريئة لوضع خطٍ ثالث على الخريطة السياسية للسودان. الخط الأول يمثله النظام السوداني الحالي، الذي يعرض على الجنوبيين سلاماً على أساس نظام حكم شمولي ينفي التعددية السياسية، مع بعض التنازل المتمثل في نمط حكم فيديرالي يراه الصادق المهدي "أكثر تخلفاً عن الحكم الاقليمي الذي اعتمد بعد اتفاقية أديس أبابا للسلام في العام 1972"، ما أدى الى اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى في العام 1983، والخط الثاني تمثله جماعة "الناصر" التي انشقت عن الحركة الشعبية لتحرير السودان في آب اغسطس 1991، بزعامة رياك مشار ولام أكول، وتنادي بحق تقرير المصير لسكان جنوب السودان والانفصال لاحقاً. أما الصادق المهدي فيحاول، من خلال طرح مبادرته الوفاقية، كسر "ثنائية الاستقطاب الحادة في السودان"، كما جاء في رسالة زعيم الأمة الى الرئيس السوداني، والمرفقة بنسخة من مبادرته للسلام في السودان في النصف الثاني من آب اغسطس الماضي. ورسالة الصادق المهدي نفسها الى الفريق البشير توجه الانتقاد المباشر الى اسس الحل الذي تطرحه الحكومة السودانية الحالية. كما جاء في "مبادرة حكومة السودان" الاخيرة: "ان نظام المؤتمرات السياسية لا يمكنه، في غياب الحريات الأساسية، ان يكون صادقاً في التعبير عن تطلعات الشعب. اما المجلس الوطني الانتقالي البرلمان فهو قليل الاختصاص وتكوينه كله بالتعيين، وهو متخلف عن مجلس الشعب". ويردف المهدي قائلاً في رسالته الى الرئيس السوداني "ان في السودان، ذي الغالبية المسلمة، تطلعاً شعبياً اسلامياً هدفه تأسيس العامة والخاصة على الشريعة الاسلامية. لكن هل هو اسلام الصحوة ام اسلام الانغلاق". في الوقت نفسه يحذر الصادق المهدي قرنق، في الرسالة الخاصة المرفقة بنسخة من مبادرته للسلام، "من استغلال بعض القوى السياسية للنزعة الشعبية نحو تقرير المصير في جنوب السودان. وإذا ترك الامر سجالاً بين هؤلاء فان البلاد، ما بين الفعل ورد الفعل، ستندفع نحو أحد موقفين كريهين هما: الحرب الاهلية المستمرة، أو الانفصال الذي تكون نتيجته قيام دولتين متعاديتين في أرض السودان". ما الجديد في مبادرة المهدي سعي الصادق المهدي الى كسر ظاهرة الاستقطاب الثنائية بين طرفي الحرب الأهلية في جنوب السودان، ليس الجديد الوحيد في مبادرة زعيم حزب الامة. النقطة الجديدة البارزة تتركز في أن أحداً من القيادات السياسية في شمال السودان لم تطرح من قبل فكرة الكونفيديرالية، وهي المطلب الجنوبي المستمر بالحاح منذ مؤتمر المائدة المستديرة في العام 1966. ومن هذا المنطلق فان ما يطرحه الصادق المهدي، ليس ببعيد عما طالب به قرنق في جولة السلام الأولى في نيروبي عام 1989، كذلك خلال محادثات "أبوجا"، في 26 أيار مايو الماضي. النقطة الثانية الجديدة في مبادرة الصادق المهدي هي استيعاب هذه المبادرة لمشروع الانفصال في جنوب السودان، من خلال فتح الباب امام حق تقرير المصير. النقطة الثالثة الجديدة في مبادرة الصادق المهدي تتعلق بوضع القوانين الاسلامية وأثرها على الدولة. النقطة الرابعة الجديدة في مبادرة المهدي تتمثل في ان المؤتمر الدستوري، حين يعقد بعد موافقة الأطراف السودانية المعنية الحكومة - والحركة الشعبية بأجنحتها - والقيادات السياسية الموالية منها والمعارضة لن تنطلق اعماله من الفراغ، اذ سيناقش المؤتمر وثيقة وفاقية مبادرة الصادق واضحة يتوفر لها الاجماع السياسي الشامل، ما يسهم في انجاح سعي المؤتمر الى نتائج نهائية. والنتائج التي يتوصل اليها المؤتمر الدستوري ويجيزها تطرح على الشعب السوداني في استفتاء عام وشامل. وإذا رفضت النتائج التي توصل اليها المؤتمر الدستوري في منطقة من المناطق السودانية، المميزة عرقياً أو مذهبياً، بنسبة الثلثين، يحق لهذه المنطقة المطالبة بحق تقرير المصير. وبكلام آخر تحتوي مبادرة المهدي دعاوى السياسيين المطالبين بهذا الحق، وتبرره، بالعودة الى الشرعية الشعبية بناء على أسس واضحة يشترط لها توفر موافقة غالبية الثلثين. دور كارتر الجديد الأبرز في مبادرة زعيم حزب الامة يتمثل في المرجعية السياسية التي ستشكل المؤتمر الدستوري، أي وعاء استنباط الحل الامثل لمشاكل السودان. ويتكون المؤتمر الدستوري من القوى والأطراف الآتية: - القوى السياسية المتمثلة في الجمعية التأسيسية السودانية ما بين 1986 و1989، أي آخر مجلس نيابي منتخب بعد سقوط نظام الرئيس نميري عام 1985 واستمر في اعماله لغاية انقلاب الفريق البشير عام 1989. - النظام الحالي في السودان. - الحركة الشعبية لتحرير السودان بجناحيها: الناصر رياك مشار ولام أكول وتوريت قرنق. - التجمع الوطني الديموقراطي المعارضة المقيمة خارج السودان. ويشارك في المؤتمر مراقبون من دول الجوار، ومراقبون اجانب. وفي هذا السياق علمت "الوسط"، من مصادر رفيعة المستوى في حزب الامة، ان الصادق المهدي كان يفكر في دعوة الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر الى المشاركة، كرئيس لفريقي المراقبين العرب والاجانب، في المؤتمر الدستوري. وكان كارتر، الذي يرأس معهداً لدراسة نزاعات العالم النامي "مركز كارتر" في اتلانتا جورجيا، اعد طاولة مستديرة مخصصة لمشاكل السودان عموماً، في شباط فبراير العام الحالي، شارك فيها وفود عن الحكومة السودانية الحالية الى جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان وكل الاحزاب السياسية السودانية بما فيها حزب الامة. ولوحظ ان اوساطاً مؤثرة في حزب الأمة، بعد ندوة اتلانتا عن السودان في "عهد كارتر"، ادخلت على ادبيات الحزب السياسية تعبير "الحل على الطريقة الساندينية"، اي عملية انتقال السلطة في نيكاراغوا من الساندينيين الاشتراكيين بزعامة الرئيس السابق اورتيغا، الى الديموقراطيين بزعامة فيوليتا تشامورو في العام 1988، من خلال الاحتكام الى صناديق الاقتراع. وقد لعب كارتر دور المنسق الأول في عملية الانتقال السلمي للسلطة في نيكاراغوا. والعلاقة بين كارتر والصادق المهدي تعود الى الوساطة التي قام بها الصادق المهدي في ايران للافراج عن الرهائن الاميركيين في السفارة الاميركية في طهران. ولا تخفي اوساط مؤثرة في حزب الامة تفاؤلها بعودة الديموقراطيين الى البيت الأبيض بعد انتخاب بيل كلينتون كذلك الدور المؤثر المرتقب لكارتر كمبعوث خاص للادارة الاميركية الجديدة في أفريقيا والشرق الأوسط. وفي هذا السياق لم تستبعد مصادر رفيعة المستوى في حزب الامة ان يكون تدويل مبادرة زعيم الحزب، من خلال ارسال نسخ عنها الى الأممالمتحدة والدول الدائمة العضوية في مجلس الامن، توطئة لتحرك سلمي جديد يعد له كارتر لاخراج السودان من دوامة مشاكله، على طريقة عملية الانتقال السلمية التي اعتمدت في نيكاراغوا. مصادر مقربة الى الصادق المهدي قالت لپ"الوسط" ان تركيبة المؤتمر الدستوري، بما تتضمنه من فعاليات آخر مجلس نيابي سوداني منتخب، يفترض ان تطمئن جميع الأطراف السودانية، فبرلمان 1986 تتمثل فيه الاحزاب الرئيسية السودانية بنسبة 106 نواب لحزب الامة و63 نائباً للحزب الاتحادي الديموقراطي و55 نائباً عن الجبهة القومية الاسلامية. وحضور الحركة الشعبية بجناحيها سيكفل للجنوبيين تمثيلاً لمصالحهم، في الحد الادنى منها، نظراً الى ان جنوب السودان لم تشمله الانتخابات النيابية عام 1986. وإذا كانت الحكومة السودانية بعثت ردها على مبادرة الصادق المهدي، بعد ان تأخر الرد ثلاثة أشهر وجاء بصورة مبادرة خاصة بحكومة الفريق البشير، فان الحركة الشعبية لتحرير السودان لم ترسل ردها بعد على مبادرة زعيم حزب الامة. وإذا كان زعيم الحركة الشعبية، والانشقاقيون جماعة الناصر لم يكشفوا اوراقهم بعد بالنسبة الى مبادرة الصادق المهدي، فان التجمع الوطني الديموقراطي المعارضة المقيمة في مصر اصدرت بياناً من القاهرة في أول تشرين الثاني نوفمبر الحالي ترفض فيه مبادرة زعيم حزب الامة، وهو من الاحزاب الممثلة في التجمع بشخصية بارزة هي مبارك المهدي. ويعود سبب رفض التجمع الوطني لمبادرة زعيم حزب الامة الى الاعتراف الضمني بالنظام السوداني الحالي من خلال الجلوس معه كطرف مؤثر في المؤتمر الدستوري. ويتخوف التجمع الوطني من احتمال اقدام حزب الامة على مصالحة الجبهة القومية الاسلامية بزعامة الدكتور حسن الترابي، كما تردد ان التحالف الذي تخشاه المعارضة السودانية في الخارج قد ينتج عنه مصالحة سياسية، بين حزب الامة وجبهة الترابي تتوافق على تكليف الصادق المهدي بتشكيل حكومة وزارة تتمثل فيها كل الفعاليات الاسلامية وتكون مهمتها الاولى اجراء انتخابات نيابية ديموقراطية تمنح الشعب فرصة اختيار ممثليه. والخوف من احتمال مصالحة حزب الامة والجبهة القومية الاسلامية دفع بطرف معارض آخر، خارج السودان، هو "الجيش السوداني - القيادة الشرعية" الى اصدار بيان يرفض فيه مبادرة المهدي في الأول من الشهر الجاري. غير ان مصادر رفيعة المستوى في حزب الامة نفت احتمال قيام تحالف بين الامة والجبهة القومية الاسلامية، "لأن القيادات الفتية والمثقفة ستتمرد على الصادق المهدي اذا كرر تجربة التحالف مع الجبهة القومية، كما حدث في العام 1977 أيام حكم نميري، وتكرر التعاون بين الطرفين في حكومة الصادق المهدي في العام 1988. في حين تستبعد مصادر حكومية سودانية قيام تحالف، او حتى تعاون بين الامة والجبهة "ما سيؤدي الى ثورة عارمة يقوم بها متشددو الجبهة القومية ضد قيادة زعيمها حسن الترابي". مع هذا يصر المتخوفون من حدوث "المحظور" على تبين نقاط التوافق بين مبادرتي الصادق المهدي والحكومة السودانية، حيث تبدو لمسات زعيم الجبهة القومية الاسلامية بوضوح على "مبادرة الحكومة السودانية".