كما لو كانت مسلسلاً شيقاً، ينتظر المغاربة بلهفة متى تظهر كلمة النهاية على أحداثه التي بلغت الذروة بتفكيك أكبر شبكة لتهريب المخدرات في تاريخ البلاد، واطاحة وزير حقوق الانسان الذي لم يكن أكمل عامه الأول في منصبه. والواقع ان الحملة التي تشنها السلطات المغربية تحت العنوان الكبير: "محاربة التهريب" تفوقت بتفاصيلها المثيرة على جميع الأعمال الدرامية التي احتشدت بها الفضائيات العربية خلال شهر رمضان. فمع كل حلقة من حلقاتها كانت تتكشف الحقائق القاسية عن أعداد المهربين الكبيرة وتجار المخدرات من الجنسيات المختلفة، مغاربة، اسبان، بريطانيون، كنديون، ألمان وايطاليون أحيلوا على القضاء، وعن أطنان السلع المهربة من الكترونيات واجهزة كهربائية ومواد غذائية وسجائر وقطع غيار السيارات التي تم وضع اليد عليها، اضافة الى الامكانات التقنية المتطورة والمنافذ الكثيرة التي يزاول من خلالها المهربون عملياتهم غير المشروعة. والجدير بالاشارة ان السلطات المغربية تميز بين نوعين من التهريب، فهناك التهريب المعيشي الذي يقوم به عادة سكان المناطق المتاخمة لاسبانيا والتجار الصغار والباعة المتجولون، وهناك التهريب الاحترافي المنظم على شكل شبكات سرية تتوافر على جميع الوسائل المادية المهمة بما فيها البواخر والزوارق والطائرات الخاصة، وتعتمد في عملياتها على خدمات مجموعة كبيرة من الأشخاص. وغالباً ما يرتبط ازدهار تجارة المخدرات بهذا النوع من التهريب. خروقات وتحفظات لقد أثارت الحملة منذ انطلاقها في كانون الأول ديسمبر الماضي اهتمام الرأي العام المغربي، واحتلت مكان الصدارة في وسائل الاعلام. ففي بلد يكون الصراع السياسي على أشده، تعتبر قضية مثل التهريب شديدة الوقع على الجميع. فللمعارضة التي ما انفكت تدعو الى محاربة ما تسميه الفساد الاداري الذي انتعشت في كنفه ظاهرة التهريب، خصوصاً تهريب المخدرات، شكوك حيال الاجراءات الحكومية وما يمكن أن يترتب عنها من نتائج، لاعتقادها بأنها تغض النظر عن قنوات التهريب الحقيقية والرؤوس الكبيرة من المهربين، فضلاً عما شابها من تجاوزات قانونية كانت السبب المعلن لاستقالة محمد زيان وزير حقوق الانسان من منصبه، اذ رأى في وجود قاض ضمن اللجنة الادارية المكلفة مكافحة التهريب التي تضم ممثلي أربع وزارات الداخلية، العدل، التجارة، المال خرقاً لمبدأ الفصل بين السلطات. وكانت الحكومة المغربية تدرك بأنها تطبق اجراءات استثنائية بعد ان عجزت جميع الجهود المبذولة منذ 1983 عن وقف تجارة التهريب التي تفاقمت على نحو خطير، ففي ذلك العام شرع المغرب في تطبيق برنامج واسع لتحرير نظامه التجاري الخارجي تمثل أساساً بتقليص النسب القصوى لرسوم الاستيراد من 100 في المئة الى 5 في المئة لبعض المواد والمنتوجات غير المصنعة في المغرب، وبالتالي تخفيف العبء الضريبي الذي لا يزال يشكل أحد أهم عوامل ازدهار التهريب، لكن الظاهرة لم تتقلص بل على العكس من ذلك استفحلت بشكل لافت وتحولت الى آفة حقيقية. وحسب المصادر الرسمية فإن اتساع نطاق عمليات التهريب الحق اضراراً كبيرة بالاقتصاد وكان من نتائجه تراجع الاستثمارات الخارجية وفرص التشغيل المرتبطة بها، اضافة الى اعاقة قيام صناعات محلية صغيرة ومتوسطة لعدم قدرتها على منافسة السلع المهربة، سواء من حيث الجودة أم السعر، عدا الخسائر التي تتكبدها خزينة الدولة جراء التملص من دفع الضرائب والرسوم الجمركية التي تبلغ أرقام عملياتها مليارات الدولارات. أول منتج للحشيش لكن الاعتبارات الاقتصادية ليست وحدها التي اضطرت الحكومة المغربية الى اعادة النظر في أساليبها السابقة لمواجهة التهريب، ذلك ان زراعة المخدرات في المناطق المغربية الشمالية والابعاد المحلية والدولية التي اتخذتها حتمت اتخاذ مبادرة سريعة لانقاذ العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، لا سيما بعدما نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية في تشرين الثاني نوفمبر الماضي نص تقرير المرصد الجيوسياسي للمخدرات الذي يوجد مقره في باريس والذي يقول فيه ان المغرب أصبح أول منتج للحشيش في العالم والممول الأول للدول الاوروبية، محتلاً بذلك مكان كل من باكستان وافغانستان. وقد أورد التقرير أسماء وزراء سابقين ونواباً ومنتخبين بلديين باعتبارهم من المتاجرين بالمخدرات، كما عزا السبب في انتشار تجارة المخدرات الى الحماية التي يتمتع بها مروجو المخدرات الكبار اضافة الى تفشي الرشوة وتواطؤ مسؤولين في الجمارك وفي الادارات المركزية، ما دفع المعارضة الى نقل القضية الى البرلمان واستصدار قرار بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول كل ما يتعلق بملف المخدرات. وترى المعارضة ان زراعة المخدرات وتهريبها والاتجار بها تسببت في اهتزاز صورة المغرب في الخارج، فضلاً عن ظهور ما تطلق عليه مافيا المخدرات التي حاولت باثرائها غير المشروع افساد الحياة السياسية باختراق المؤسسات المنتخبة، وهي اشارة ذات مغزى الى تدفق الأموال في الانتخابات التشريعية الاخيرة التي تمخض عنها البرلمان الحالي. وكان متوقعاً ان يتسم رد فعل السلطات المغربية بالاستياء مما ورد في تقرير المرصد كونه جاء في وقت تخوض فيه هذه السلطات حرباً لا هوادة فيها ضد تجار المخدرات، في نطاق مشروع طموح يستغرق خمس سنوات لتحويل اقتصاد منطقة الريف في الشمال، حيث يزرع الكيف والقنب الهندي، وذلك باقامة زراعات بديلة وتنمية بنياتها التحتية الأساسية والبنيات الاجتماعية بكلفة 20 مليار درهم يساهم فيها الاتحاد الأوروبي باعتبار دوله مناطق كبرى لاستهلاك المخدرات. ويذكر ان المغرب يشارك منذ عشر سنوات تقريباً بصفة مراقب في الاجتماعات التي تعقدها كل ستة أشهر مجموعة "تريفي"، وهي هيئة التشاور والتنسيق الأوروبية - الأميركية المشكلة عام 1976 لمكافحة الارهاب والمخدرات، وكان انضم مبكراً الى المعاهدات الأساسية المتعلقة بمكافحة المخدرات، كما صادق في تشرين الأول اكتوبر 1992 على المعاهدة الدولية لمحاربة ترويج المخدرات التي تعود الى عام 1988، واتخذ التدابير الهادفة الى تعديل التشريعات المحلية ومراجعتها بهدف ملاءمتها مع أحكام المعاهدة، وبالتالي الامتثال لميثاق الأممالمتحدة الخاص بمكافحة المخدرات. وكان الملك الحسن الثاني أعلن بنفسه شن الحرب على المخدرات، في اجتماع عقده في 7 أيلول سبتمبر 1992 وضم الوزراء وكبار الجيش وقادة الأمن، ليس بهدف ان يتجنب المغرب الحملات المعادية التي تشن عليه، وانما لتطهير الحياة السياسية الداخلية في وقت كانت البلاد تستعد لمرحلة جديدة، اذ أعقب هذه الخطوة قرار تم بموجبه منع 440 مرشحاً في الانتخابات البلدية اشتبه بتورطهم في شبكات تهريب المخدرات. كما وجه العاهل المغربي الى قمة المجلس الأوروبي أثناء انعقادها في ادنبره في كانون الأول ديسمبر من ذلك العام، رسالة تميزت بدرجة عالية من المكاشفة لفت فيها الأنظار الى ظروف زراعة "الكيف" في ريف المغرب التي ما كان لها ان تستمر لولا اغراء تجار المخدرات من الأوروبيين والأميركيين الذين ادخلوا عليها العنصر الصناعي لاستخراج صمغه وزيته وبيعه بأرباح مضاعفة عشرات المرات. عصابات الجريمة المنظمة وتعتبر زراعة "الكيف" من مخلفات عهد الحماية الاسبانية، قبل ان تروج ويصبح اقتصاد الشمال المغربي، بل اقتصاد الملايين المغاربة ملتفاً حولها، وتكشف تحقيقات الشرطة المغربية عن وقوف شبكات دولية وراء تهريب المخدرات من المغرب الى الخارج وتورط عصابات الجريمة المنظمة. وتفيد معلومات رسمية باعتقال السلطات المغربية ل 195 مهرباً من جنسيات أجنبية مختلفة خلال التسعة أشهر الأولى من العام الماضي. وعلى رغم عدم وجود احصاءات مغربية عن كمية المخدرات المصادرة العام الماضي إلا أن وسائل الاعلام الاسبانية اشارت الى حجز وضبط أكثر من 61 طناً من الحشيش المغربي مؤكدة بذلك مدى تزايد الكميات المهربة الى الخارج. وكان حجز خلال عام 1993 في عمليات التهريب التي اكتسبت صبغة دولية أو تورطت فيها عناصر اجنبية 25 طناً من المخدرات في مقابل 50 طناً عام 1992 و36 طناً عام 1991. وقد أظهرت التحقيقات ان المهربين الدوليين على درجة كبيرة من التنظيم ويستخدمون طائرات للهبوط في طرق بعيدة في منطقة الريف. وصادف أثناء وجود وفد الاتحاد الأوروبي في الرباط عام 1993 لدرس موضوع مكافحة المخدرات وتبييض الأموال ان ضبطت جمارك مدينة طنجة شاحنة فرنسية يقودها سائق بلجيكي وفي تجويفاتها كميات من المخدرات تزن 1.551 كلغ. وقد دون الوفد في مذكرته ملاحظة تقول: "إذا كان الاتهام موجهاً الى المغرب والمغاربة، فإن المتهمين الفاعلين والمنتفعين من تهريب المخدرات هم الأوروبيون ودول المجموعة الأوروبية". وتشير التقديرات الرسمية الى ان المساحات المزروعة بالمخدرات تبلغ 30 ألف هكتار، عدا الجيوب والأخاديد البعيدة عن الرصد، حيث تصل المساحة الكلية الى 50 ألف هكتار تنتج سنوياً، حسب تقرير المرصد الجيوسياسي للمخدرات المذكور آنفاً، حوالي 100 ألف طن من الكيف الذي يستخرج منه 1500 طن من الذهب الأخضر، الحشيشة. ويدر هذا الانتاج ملياري دولار، فيما تبلغ قيمة الصادرات المغربية الشرعية 3.6 مليار دولار وفق تقديرات المرصد. ومع ان المسؤولين المغاربة يعترفون بأن بعض ما يصل الى أوروبا من المخدرات يأتيها من بلادهم، الا أنهم يجادلون في نوعيتها التي لا تندرج ضمن المخدرات الشديدة المفعول بدليل ان دولاً أوروبية، كهولندا، تسمح باستهلاكها، كما يجادلون في جهود محاربة الاتجار بالمخدرات، اذ يعتقدون بأنها يجب أن تكون موضوع تعاون وثيق بين جميع الدول المعنية، أي المصدرة والمستهلكة. ذلك أن من الصعب استئصال زراعة المخدرات التي مضى عليها زمن طويل، بوسائل الزجر المحضة، أو بجهود الدولة المغربية وحدها، مهما تكن الوسائل التي تعبئها. فعلى رغم اغلاق الحدود البحرية منذ تشرين الأول اكتوبر 1992 وما تطلبته من تعبئة أكثر من 5 آلاف فرد وامكانات مادية ضخمة تجاوزت ما قيمته 70 مليون دولار، لم تتوقف عمليات تهريب المخدرات، نظراً الى امتداد هذه الشواطئ على طول 3500 كيلومتر، وتعدد جنسيات شبكات التهريب. والمشكلة الآن ان صرامة الاجراءات المغربية، سواء بتضييق الخناق على زراعة "الكيف" أو بالاحكام القضائية المتشددة في حق المتاجرين بالمخدرات، لم تنفع في مقاومة آفة السموم الخطيرة المستوردة من أوروبا واميركا اللاتينية، لا سيما المخدرات الفتاكة كالكوكايين والهيرويين، ذلك ان "بارونات" المخدرات غيروا "استراتيجية" التسويق، حيث يحاولون اختبار المغرب كموقع للعبور والتخزين والترويج والاستهلاك، وهو ما جعل المغرب يعلن عن الحاجة الى شريك قوي كالاتحاد الأوروبي يقاتل الى جانبه في حربه الجارية الآن.