قضية "الامير" الفلسطيني ابو محجن المتهم بالتخطيط لاغتيال رئيس "جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية" الشيخ نزار الحلبي التي نفذها قبل اشهر لبنانيون وفلسطينيون تابعون له هي في الواقع قضيتان. الاولى انتشار الاسلام الاصولي، بشقيه السني والشيعي، في لبنان وانعكاسه على الوضع الداخلي، وكذلك انتشار الاسلام الاصولي السني في المخيمات الفلسطينية. اما الثانية فهي اصدار مذكرة بتوقيف ابو محجن "المختبئ" داخل مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا وما اثارته من اشكالات مع القيادات الفلسطينية في المخيم، خصوصاً عندما حاصرته قوات من الجيش وترددت اشاعات عن احتمال اقتحامه للقبض على أبو محجن وكذلك لانهاء "الجزيرة الامنية" غير اللبنانية على أرض لبنان. وبالنسبة الى القضية الاولى، تقول مصادر لبنانية وفلسطينية مطلعة وعلى شيء من الحياد، ان الاصولية الاسلامية السنية كانت دائماً موجودة في لبنان، لا سيما في مدينة طرابلس الشمالية وبعض ضواحيها وفي مدينة صيدا الجنوبية. لكنها كانت ذات انتشار محدود لاعتبارات عدة منها ان المرحلة الماضية لا سيما التي سبقت سنوات الحرب اللبنانية تميزت بسيطرة الايديولوجية العربية من جهة والايديولوجية الماركسية من جهة أخرى. وطبيعي في هذه الحال ان يكون المسلمون العرب الى جانب الاولى، خصوصاً ان المنتصرين لها شددوا دائماً على المزج بين العروبة والاسلام. ومنها ايضاً ان الوضع في لبنان كان مستقراً من الناحية السياسية الى حد بعيد، وكان المواطن اللبناني يعيش نوعاً من التوازن الاقتصادي جنّبه العوز السائد حالياً. ومنها ثالثاً ان المحيط العربي المباشر للبنان، اي سورية، لم يكن يشجع الاصولية الدينية، لا عنده ولا عند جيرانه. لا بل انه قمعها بشدة في مرحلة من المراحل عندما حمل اصحابها السلاح في وجه النظام. ومنها اخيراً ان الوضع في المنطقة والعالم كان يميل الى الاعتدال لا سيما في القضايا ذات الصلة بالدين. ولذلك كله كان تأثيرها ضعيفاً واقتصر نشاطها على الدروس الدينية والارشاد وبعض الاعمال الخيرية. الاّ أن هذا الوضع تغير لا سيما منذ اواخر سنوات الحرب وحتى اليوم، اذ انتشرت الاصولية في المناطق السنية على نحو واسع ومكّنها ذلك من دخول مجلس النواب للمرة الاولى في تاريخها، على رغم ان ذلك لم يكن ممكناً، على الاقل بالحجم الذي حصل، لولا ظروف داخلية موضوعية ابرزها مقاطعة المسيحيين شبه الشاملة وقسم لا بأس به من المسلمين لانتخابات العام 1992. ويشير الواقع الى وجود اصوليتين سنيتين في لبنان، واحدة لا توالي النظام، على رغم عدم حملها السلاح ضده مباشرة وضد رعاته الاقليميين وعمودها الفقري الجماعة الاسلامية. واخرى تواليه وتوالي هؤلاء الرعاة علناً وتسمى "جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية". ونشأة هذه الاخيرة لا تزال موضع تساؤل وشك عند الجماعة الاسلامية. واللافت ان العنف في استراتيجية هذه الاصوليات غير موجود، على الاقل رسمياً. وهي بذلك تحاول ان تظهر للناس ان عملها انما هو من داخل النظام، واذا كان هناك عنف في الاصولية الشيعية فإنه وجه في السابق ضد الغرب واسرائيل التي تحتل جزءاً من لبنان وهو موجه اليوم ضد اسرائيل في صورة خاصة ولم يوجه، في رأي اصحابها، ضد اللبنانيين، على رغم اشتراكها في النصف الثاني من الحرب، في صورة او في اخرى. اما الاصوليتان السنيتان فإن ملامح استعمالهما العنف ضد بعضهما البعض بدأت في الظهور. كما ان ملامح استعمال الاولى العنف ضد غير المسلمين او ضد النظام العام بدأت تظهر. ومن الادلة الى ذلك التفجير الذي استهدف باصاً كان ينقل رجال دين مسيحيين قرب جامعة البلمند في شمال لبنان قبل حوالي سنتين واتهام الجماعة الاسلامية به، على رغم ان التحقيق لم "يثبت" ضلوعها فيه، والقبض على مجموعة خططت لتفجيرات في موسم الاعياد المسيحية الاخيرة اي الميلاد ورأس السنة. وتعيد المصادر انتشار الاسلام الاصولي في المخيمات الى الاسباب المذكورة اعلاه، لكنها تضيف اليه سبباً آخر وتعطيه الاولوية، وهو الضيق الاقتصادي الذي يعيشه فلسطينيو المخيمات. فخروج ياسر عرفات زعيم منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان ومن ثم انشغاله بالسلام مع اسرائيل حرم هؤلاء مساعدات مالية مهمة، كما ان عدم مبادرة السلطة اللبنانية الى معالجة الوضع الاجتماعي للفلسطينيين بكل تشعباته جعل حال الضيق تزداد. فيما كان الاصوليون الاسلاميون في الانتظار، فأغدقوا، سواء كانوا ايرانيين او غير ايرانيين، المساعدات المادية وغير المادية وأمسكوا بمفاصل اساسية في تلك المخيمات. ولم تمانع سورية ولا السلطة اللبنانية في ذلك لاعتقادهما بأن في امكانهما الافادة من هذه الورقة في الصراع مع اسرائيل. في مثل هذه الظروف برزت قضية "ابو محجن" ودخول المخيمات. وتقول المصادر اللبنانية والفلسطينية ان المخيمات الفلسطينية في الشمال والبقاع وبيروت لا تواجه أية مشكلة ذلك ان سورية تمسك بها مباشرة ومعها السلطة اللبنانية. اما في الجنوب فإن جماعة عرفات بقيادة سلطان ابو العينين تسيطر على مخيمي الرشيدية والبرج الشمالي، في حين يضم مخيم عين الحلوة كل التيارات الفلسطينية من عرفاتية ووطنية واصولية وغيرها. وتقول ايضاً ان لا مشكلة في دخول السلطة مخيم عين الحلوة لان سبعين في المئة من سكانه لا يمانعون في ذلك بعد كل ما حلّ بهم طيلة سنوات، لا بل ان بعضهم سيرش الارز على الجيش اللبناني. لكنها تتساءل اذا كانت السلطة اللبنانية تريد الدخول فعلا الى هذا المخيم للقبض على "أبو محجن" فهي تعتقد ان دخول المخيمات ونزع سلاحها خطوة ترتبط بالعملية السلمية ولن تقدم سورية عليها الآن ولا لبنان. وتعتقد ايضاً ان "همروجة" ابو محجن كانت في غير محلها لأن في استطاعة السلطة القبض عليه وكذلك سورية من دون تعبئة الاجواء، فالسلطة اللبنانية بأجهزتها لها وجود فاعل داخل مخيم عين الحلوة. والحل الوحيد هو تحقيق مصالحة لبنانية - فلسطينية وترتيب الوضع الاجتماعي للفلسطينيين المقيمين في لبنان، لا سيما في المخيمات. لكن يبدو ان السلطة اللبنانية تتردد في هذا الامر خشية ان تفسر خطواتها توطيناً لهؤلاء او تمهيداً لتوطينهم. وفي هذا المجال تكاد المصادر اللبنانية والفلسطينية تجزم بأن توطيناً ما سيحصل في لبنان. لكن احداً لا مصلحة له في الحديث عن ذلك في مرحلة المفاوضات مع اسرائيل. ولعل تضخيم عدد الفلسطينيين في لبنان هو مقدمة للقول للبنانيين عندما يحصل التوطين او اي شيء يشبهه بأننا كسلطة نجحنا في منع توطين معظم هذا العدد، اما الذين وُطنوا فهم لا يشكلون خطراً على لبنان.