الخلاف الذي انفجر بين رئيسي مجلس النواب والحكومة ليس جديداً، وانما وليد خلافات سابقة وتراكمات ومواقف بدأت رسمياً عندما دخل رفيق الحريري نادي رؤساء الحكومة قبل أكثر من ثلاث سنوات، وكانت شرارتها الأولى رغبة الأخير في الحصول من مجلس النواب على صلاحيات استثنائية تمكن حكومته من تنفيذ برنامجه الطموح، أو بالأحرى حلمه في اعادة بناء لبنان بشراً وحجراً وادارة. الا ان رئيس المجلس نبيه بري رفض ذلك فانتقل الخلاف الى دمشق عرابة مسيرة السلم في لبنان ومرجعية الجميع. يومها أدرك رئيس الحكومة ان طريقه لن تكون سهلة. وبدأت الشكوك تساوره في نيات رئيس المجلس المفترض انه حليفه، سواء في خياره الداخلي أو في خياره الاقليمي، وراح يتحسب للمستقبل. يومها أيضاً بدأت تساور رئيس المجلس شكوك في طموحات رئيس الحكومة وأهدافه. وطبيعي في ظل هذه الحال ان يتحول كل موضوع خلافاً بين المرجعين وان يتهم كل منهما الآخر في مجالسه الخاصة وفي تسريباته الاعلامية بأنه يسعى الى مصادرة دور الآخر والغاء دور المؤسسة التي يرأس والسعي الى تحقيق مصالح خاصة، وفي أحسن الأحوال مصالح مذهبية وفئوية. وبسبب ذلك كله لم تفاجأ الأوساط السياسية بالموقف الذي اتخذه الرئيس الحريري قبل فترة بادراج مشروع مرسوم البث الفضائي على جدول أعمال مجلس الوزراء. اذ اعتبرته رداً على تعطيل مجلس النواب، بايحاء من رئيسه، تطبيق قانون الاعلام المرئي والمسموع من خلال الامتناع عن تعيين أعضاء المجلس الأعلى للاعلام كما لم تفاجأ برد فعل بري الذي هدد بسحب وزرائه والوزراء المتحالفين معه في حال اقرار مجلس الوزراء مرسوم البث الفضائي. وعزا بري عدم تعيين أعضاء المجلس الأعلى للاعلام الى نوعية المرشحين الذين اقترحتهم الحكومة وليس الى الرغبة في منع تطبيق قانون الاعلام. لكن الأوساط السياسية هذه ظنت بأن المخرج الذي أعطاه رئيس الجمهورية بإحالة مشروع البث الفضائي الى هيئة الاستشارات والقضايا في وزارة العدل والذي قبله بري والحريري سينفِّس الاحتقان، خصوصاً بعد الموقف العقلاني الذي اتخذه الحريري عندما قال انه يرضخ للقانون، وتحديداً لنتيجة التقرير الذي ستضعه الهيئة المذكورة، الا ان ظنها خاب لأن تعليق بري على المخرج أعطى انطباعاً بأن المشكلة لم تسوِّ بعد في نظره وبأنه يخشى ان يكون ما حصل تأجيلاً للمواجهة. خطاب التفجير وجاء بعد ذلك خطاب رئيس المجلس النيابي في النبطية في ذكرى تغييب الامام موسى الصدر ليؤكد ان النفوس مشحونة وان قرار التفجير اتخذ. وفي هذا المجال يلقي قريبون من رئاسة الحكومة مسؤولية التفجير على الرئيس بري، وهم محقون في ذلك من حيث الشكل، كما تقول أوساط سياسية. ويرد على ذلك قريبون من رئاسة المجلس بالقول ان المسؤولية يتحملها الرئيس الحريري الذي أقدم على خطوة غير قانونية، حسب رأيهم، من شأنها اذكاء الخلاف القائم وصب الزيت على ناره. وهم محقون في ذلك أيضاً في رأي الأوساط نفسها. لكن ما هي الأسباب الفعلية لهذا الخلاف؟ الأسباب المباشرة كثيرة، تجيب مصادر سياسية مطلعة، منها الخلاف على قانون الانتخاب الذي يفترض ان يسنّه مجلس النواب وان تجري الانتخابات النيابية على أساسه صيف العام المقبل، ذلك ان بري يفضل دائرة كبيرة، وتحديداً الجنوب معقله الأساسي، لكي يتمكن من الوصول الى مجلس النواب على رأس كتلة نيابية كبيرة تعيده الى موقعه الحالي وتجعله "بيضة القبان" في الميزان الداخلي، في حين ان الحريري يفضل دائرة أصغر، وتحديداً جعل الجنوب دائرتين ليستطيع بدوره الاتيان بكتلة نيابية كبيرة والقيام من خلالها بدور سياسي كبير، علماً انه يعتزم ترشيح نفسه في بيروت. وقد بلغ الخلاف بين المرجعين حداً جعل بري لا يمانع في جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة والحريري لا يرفض ذلك شرط تأمين الحرية الكاملة اثناء تأليف اللوائح بحيث يتزعم هو لائحة وبري لائحة اخرى. وانطلقت عدم ممانعة بري عن معرفة بأن دمشق لا تقبل بأن يتنافس حلفاؤها تجنباً لفوز اعدائهم واعدائها، وهي لا تحتمل هذا الأمر في هذه المرحلة الدقيقة على الصعيد الاقليمي. ومن أسباب الخلاف أيضاً موضوع الانتخابات الرئاسية. ذلك ان الحريري يتمنى التمديد للهراوي منذ البداية فيما عارضه بري عملياً من دون ان يعبر رسمياً عن ذلك، ليس لأنه ضد التمديد من حيث المبدأ وانما بسبب حرصه على لعب دور كبير في هذا الاستحقاق لا بد ان يغيب أو يتضاءل في ظل تحالف الهراوي - الحريري الذي استعاد تماسكه بعد فترة من التصدع والوهن. وهناك أيضاً مسألة تنازع الصلاحيات بين السلطتين الاشتراعية والتنفيذية. ومعروف ان اتفاق الطائف، مع الثغرات التي تتضمنها وأبرزها غياب المرجعية الدستورية الحاسمة، أفسح المجال أمام تنازع مهم بين الاثنتين. فالأولى تتهم الثانية بمحاولة مصادرة دور المجلس، والثانية تتهم الأولى بتفريغ النظام الديموقراطي البرلماني والسعي الى اقامة نظام مجلسي، وهي اتهامات بدأت قبل وصول بري والحريري الى موقعيهما الحاليين. الا ان هناك الى جانب الأسباب المباشرة، سبباً غير مباشر شكّل منذ البدء في تطبيق اتفاق الطائف وحتى الآن المحرك لكل الخلافات بين الزعيمين، وهو المذهبية التي استشرت في عهد الطائف بسبب سوء تطبيقه واجتزائه، في حين ان المطلوب الغاء الطائفية والقضاء على بذورها. فالطائفة السنية التي أدت تطورات الحروب في لبنان الى اضعاف دورها الكبير تقليدياً تحاول استعادة الدور الأول الذي كان للموارنة من خلال الافادة من تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية بفعل اتفاق الطائف وحصر السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء الذي يرأسه سني. والطائفة الشيعية التي خرجت من القمقم خلال الحرب، كما يقول أركان فيها، ترفض بإصرار العودة الى الضعف القديم وتحاول ان تكرس الريادة الداخلية التي حصلت عليها بواسطة متغيرات ديموغرافية وتناقضات داخلية وأخطاء سياسية ارتكبتها الطوائف المسيحية وتحالفات اقليمية. وفي هذا المجال يحاول كل طرف تكبير فرص نجاحه من خلال الرهان على معطيات خارجية تتعلق بالعملية السلمية في الشرق الأوسط. فالسنة يعتبرون ان السلام في المنطقة "سني" كون اكثرية سكانها مسلمين سنة، ولا بد ان يعزز مكانتهم ودورهم ونفوذهم. اما الشيعة فيعترف قسم منهم بأن السلام الاقليمي سني لكنه سينعكس سلباً على الاقليات في المنطقة في حين يعتبر بعضهم الآخر ان السلام في حاجة الى سورية وان سورية في حاجة الى لبنان. وان الشيعة هم الحليف الاوثق لها. وقد أثبتت التجارب ذلك في السنوات الاخيرة للحرب وفي السنوات الاولى للسلام. وانطلاقاً من ذلك تعتبر المصادر السياسية المطلعة ان الصراع الدائر حالياً بين بري والحريري هو في الحقيقة صراع على السلطة في لبنان ما بعد الحرب. كيف تنظر الطوائف اللبنانية الاخرى الى هذا الصراع، وما هي العوامل التي تحسمه؟ على الحياد المصادر السياسية المطلعة تجيب بالقول ان حسم الصراع يلزمه توافر عاملين مهمين: الاول داخلي والثاني اقليمي. العامل الداخلي هو مواقف الطوائف اللبنانية الاخرى منه وفي هذا المجال يظهر جلياً ان الدروز الذين يشكلون الطائفة المحمدية الثالثة في البلد اختاروا الوقوف مع السنة لخوفهم من انتصار الشيعة في الصراع. ويعبر عن ذلك الزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط في مجالسه الخاصة وفي مواقفه السياسية لكن الموقف الدرزي على أهميته لا يمكن ان يحسم الامر كون الدروز اقلية مذهبية. والعامل الذي يمكن ان يضعه على طريق الحسم هو المسيحيون في البلاد عموماً وتحديداً الموارنة. لكن هؤلاء لا يزالون على الحياد لاسباب عدة، منها ان قسماً مهماً منهم لا يزال غير مصدق بأن الدور المسيحي السياسي في البلد يمكن ان ينحسر على النحو السائد حالياً ولا يزال يراهن على متغيرات اقليمية وربما دولية تعيد هذا الدور. ومنها ايضاً ان أياً من الفريقين المتصارعين على الجمهورية لم "يعرض" على المسيحيين ان يكونوا شريكاً له في السيطرة عليها. ولكن ما ظهر منهما هو رغبة كل منهما في الافادة لحسم المعركة لمصلحته. وهذا دور لا يبدو انهم متحمسون للقيام به. وقد اكد للمسيحيين ذلك عدم تنفيذ رموز الفريقين الوعود الكثيرة التي قدمها لهم وتحديداً لمرجعيتهم الدينية - السياسية حالياً أي بكركي. وقد يكون سبب ذلك اعتبارات عدة معرفة. اما العامل الاقليمي فهو سورية الموجودة في لبنان مباشرة ومن خلال الحلفاء، وهو اكثر اهمية من العامل الداخلي. ذلك ان سورية تستطيع ان تدعم فريقاً ضد آخر وان تسهل تحالفات الفريق الذي تؤيد مع المسيحيين طبعاً بعد تلبية بعض مطالبهم. لكن سورية هذه لا تبدو في وارد المساعدة على اقامة نظام طائفي او مذهبي في لبنان، كما لا تبدو في وارد تهميش المسيحيين والقضاء على دورهم. ولا تبدو في وارد اقامة شراكة ثنائية طائفية او مذهبية تقهر الآخرين. فهي مع اقامة نظام مشاركة جماعية في السلطة من خلال المؤسسات لا يفسح المجال امام اضطهاد الاقليات اللبنانية وفقاً للمقياس الاقليمي عند حصول متغيرات معينة كما لا يفسح المجال ايضاً امام اقدام الاقليات على اضطهاد الاكثرية وفقاً للمقياس الاقليمي نفسه بحجة الحاجة الى الدفاع الدائم عن النفس. لكن مشاغل سورية والتطورات الاقليمية المتسارعة لم تعطها الوقت الكافي للتفرغ للبنان وتحديداً لرعاية قيام نظام المشاركة او انها اقنعتها بأن الوقت لم يحن بعد لذلك وبأن الظروف الملائمة له لم تتوفر بعد وبأن مصلحتها تفرض استمرار استعمال لبنان ساحة لرد الضغوط عنها في ظل استمرار اخصامها القادرين اقليمياً ودولياً على استعماله ساحة للضغط عليها. الاّ أن احجام سورية عن حسم الامور في لبنان سواء لافتقارها الى الوقت او لاقتناعها بأن الاوان لم يحن بعد، ليس في مصلحتها في رأي المصادر السياسية المطلعة ذلك ان الوضع اللبناني قد "يفرط" بين يديها في حال تكاتفت العوامل الخارجية ضدها من دولية واقليمية وقررت النيل منها بواسطة لبنان ومن خلاله. ويبدو ان المرحلة الراهنة اقليمياً في ظل تعثر العملية السلمية على المسار السوري - الاسرائيلي وفي ظل التطورات العراقية وفي ظل رعاية الولاياتالمتحدة قيام محور اقتصادي سياسي اسرائيلي - اردني - فلسطيني وربما لاحقاً عراقي - خليجي قد تفيد المتضررين من سورية اقليمياً اسرائيل ودولياً الولاياتالمتحدة بسبب عدم قبولها شروطاً هي تحت الحد الادنى الذي وضعته. ولن يجد المتضررون الا لبنان للضغط على سورية. كذلك قد تفيد هذه المرحلة اللبنانيين رافضي دور سورية في لبنان وممارسات حلفائها. والامر الخطير هنا هو ان سورية تستطيع في اللحظة المناسبة انقاذ نفسها لكن من ينقذ لبنان من الدمار. وفي هذا الاطار تضع المصادر السياسية عملية اغتيال الشيخ نزار الحلبي رئيس جمعية المشاريع الخيرية الاحباش والتصعيد في الجنوب وتدهور الاوضاع الاقتصادية الوطنية في لبنان وارساء توازن وطني حقيقي والمساعدة على اقامة دولة المؤسسات وهي مسائل لا يمكن ان تتم في ظل تمديد ولاية الرئيس الهراوي على رغم الانجازات الوطنية التي حققها، علماً ان التمديد يهدد بارخاء ظلال على هذه الانجازات.