لم يُظهر وليد جنبلاط اهتماماً كبيراً بالسياسة في حياة والده الراحل كمال جنبلاط، أحد أبرز الزعماء في الطائفة الدرزية وعلى مستوى البلاد. وعندما آلت اليه مقاليد زعامة الجنبلاطيين خصوصاً والدروز عموماً بعد اغتيال والده ومعها مقاليد قيادة "الحركة الوطنية"، ظن اللبنانيون انه لن يتمكن من تحمل تبعات الزعامة والقدرة لنقص في الخبرة. وذهب بعضهم الى حد توقع ضعف البيت الجنبلاطي العريق في السياسة اللبنانية والعربية وانتهائه في مرحلة لاحقة. لكن الزعيم الشاب في حينه طبعاً فاجأ الجميع اذ أظهر قدرة على العمل السياسي الجاد والمناورة في آن وعلى التعلم في سرعة والتكيف مع الواقع والظروف، فتمكن من جعل نفسه رقماً مهماً جداً في المعادلة السياسية المحلية وفي معادلة السياسة العربية المتصلة بلبنان. وبعد انتهاء حروب اللبنانيين وغير اللبنانيين التي دامت أكثر من 16 سنة، توقع الخبراء والمراقبون للوضع السياسي في لبنان انحساراً للزعامة الوطنية لوليد جنبلاط. ذلك ان "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب وأرسى أسس الجمهورية الثانية انتج "ترويكا" رئاسية حاكمة ينتمي أعضاؤها الثلاثة الى طوائف رئيسية ثلاث هي الموارنة والسنة والشيعة. وساعد الاجتزاء في تطبيقه وفي الممارسات في تفاقم المذهبية والطائفية، الأمر الذي دفع هؤلاء الى تغليب مصالحهم ومصالح من يمثلون على حساب زعامات الطوائف والمذاهب الأخرى. وظن بعضهم ان الانحسار المذكور حصل عملياً يوم انكفأ جنبلاط الى الجبل وحصر همه العملي بترتيب الوضع الدرزي ووضع الجبل من خلال اعادة المهجرين المسيحيين اليه. لكن هذا الظن، على ما فيه من بعض الصحة، لم يدفع الزعيم الجنبلاطي الى الاستسلام، فعارض "الترويكا" وتحالف مع احد أعضائها الرئيس رفيق الحريري، وحال دون نجاح أخصامه، الذين يجمعه بهم تحالف مع سورية، في زعزعة علاقته بالأخيرة، وتالياً في اضعافه عملياً، واستعمل "امتداداته" الاقليمية والدولية من اجل البقاء على اطلاع واسع على مجريات الأمور في المنطقة، الأمر الذي مكنه من تقويم الوضع اللبناني بدقة، وما ساعده في ذلك صراحته وعفويته العميقة المقرونتان بسلاطة اللسان و"لذاعته" في آن. صراحة بعد صمت لماذا الكلام عن الزعيم الدرزي الأبرز الآن؟ لأنه بعد طول صمت، أو بالأحرى بعد اكتفاء بتعليقات لاذعة في مقابلات معينة، أعرب عن آرائه بصراحة في نادي متخرجي الجامعة الأميركية فخض الحياة السياسية الراكدة التي يجتهد معظم أبطالها في اظهار الود لبعضهم البعض في حين انهم يمارسون عملياً سياسات تشف ونكايات وأخطاء ذات خلفيات طائفية ومذهبية ومصلحية. وهذا الكلام لا يعني ان الوزير جنبلاط بعيد عن الطائفية والمذهبية، ذلك انه زعيم طائفة، أو مذهب، وعليه في الوضع الطائفي والمذهبي الراهن ان يدافع عن مصالح طائفته كما عليه ان يدافع عن مصالحه داخلها وخارجها. وأظهرت وجهات نظره خلافاً مع رئيس مجلس النواب نبيه بري حليفه السابق في زمن الحرب، ومع مؤسسة الجيش، وتحالفاً مع رئيس الحكومة رفيق الحريري، وقلة اهتمام برئاسة الجمهورية أو بالأحرى باستحقاق الانتخابات الرئاسية. وبما ان ذلك يهم اللبنانيين كان لا بد من السعي لمعرفة العوامل الكامنة وراء خلافاته ووراء تحالفه ووراء قلة اهتمامه بواسطة عدد من أبرز القريبين منه. فماذا يقول هؤلاء؟ أعطوا الخلاف الجنبلاطي - البري ثلاثة أسباب هي الآتية: 1 - المؤسسات: وفي هذا المجال يأخذ جنبلاط على بري سعيه الدائم الى جعل النظام في لبنان مجلسياً، فمهمة مجلس النواب في النظام البرلماني هي التشريع ومراقبة الحكومة ومحاسبتها. وما يجري في مجلس النواب منذ عهد الطائف هو اضافة الى التشريع والمراقبة والمحاسبة تدخل سافر ومباشر في عمل السلطة التنفيذية ومحاولة للسيطرة عليها، سواء من خلال تجميد مشاريع قوانين أو من خلال مواقف معينة تعطل عمل السلطة التنفيذية وتظهر المجلس بأنه بيضة القبان. فتعيين موظفين أو أعضاء في مجالس معينة هو من مهمة مجلس الوزراء لا مجلس النواب. وعلى رغم ذلك سيعين الأخير نصف عدد أعضاء المجلس الأعلى للاعلام، وقانون الاعلام المرئي والمسموع الذي صدر بعدما أقره مجلس النواب يتعرض حالياً الى الانقلاب عليه من قبل هذا الأخير، فبدلاً من مطالبته الحكومة بتنفيذه ومحاسبتها على هذا التأخير عمد الى منعها من تنفيذه عندما امتنع عن تسمية أعضاء المجلس الأعلى للاعلام. تفريخ نقابات 2 - الحريات والديموقراطية: وفي هذا المجال يتصرف الرئيس بري على أساس انه بطل هاتين القيمتين ويظهر ذلك في خطبه في مجلس النواب أو خارجه وفي تصريحاته. في حين انه يمارس في الواقع سياسة ترمي الى الحفاظ على مصالحه، على حد قول القريبين من جنبلاط، فهو ساهم في "تفريخ" نقابات يسيطر عليها أنصاره في الجنوب ولا وزن فعلياً لها، وفي ضرب الحركة النقابية من خلال التدخل لمنع اجراء انتخابات نقابية في المصالح التي لا يمكنه حجم انصاره داخلها من السيطرة عليها وان يكن يخوله تعطيل انتخاباتها. وهذا ما حصل في شركة الكهرباء. وفي نقابة سائقي الجنوب وفي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وهو يستعمل "اتفاق الطائف" والصلاحيات التي أعطاها اياه كرئيس لمجلس النواب ويبالغ في هذا الاستعمال من اجل توطيد زعامته لحركة أمل وسيطرة هذه الأخيرة على العمل السياسي في الجنوب بكل الوسائل المتاحة من مغريات وضغوط. وطبيعي ان ينعكس ذلك سلباً على أبرز وأقوى منافسين له وهما "حزب الله" والرئيس كامل الأسعد. 3 - قانون الانتخاب: وفي هذا المجال كان الوزير جنبلاط واضحاً في نادي متخرجي الجامعة الأميركية اذ قال انه مع الدائرة الأصغر لأنه لا يريد لطائفته ان تذوب في الأكثريات. وذلك يعني انه يريد الجبل دائرتين انتخابيتين. أما الرئيس بري فمع الدائرة الكبيرة المحافظة وتحديداً مع الجنوب دائرة واحدة، على رغم كونه محافظتين، رغبة منه في السيطرة على الانتخابات فيه والخروج بكتلة نيابية كبيرة تكرس زعامته. واذا كانت الدائرة الأصغر أو الصغرى مرفوضة لأنها تكرس الطائفية، كما يقول بري، فإن ذلك يعني، في رأي جنبلاط، ان الانتخابات البلدية والاختيارية لن تجري أبداً لأن دوائرها صغيرة لا بل أصغر من صغيرة. وهنا يعطي القريبون من الزعيم الجنبلاطي مثلاً على طريقة التعاطي السياسي مع الرئيس بري فيقولون ان الأخير طلب من الرئيس رفيق الحريري قبل أشهر عدم اجراء انتخابات بلدية واختيارية لأن "على كتفه حمالان" هما الرئيس كامل الأسعد و"حزب الله"، وعندما ارجأ مجلس النواب هذه الانتخابات بالتمديد للمجالس الحالية من بلدية واختيارية ألقى مسؤولية ذلك على الحكومة. الضباط الدروز وعن العلاقة بين جنبلاط والجيش يقول القريبون منه انفسهم ان العلاقة بين الزعيم الراحل كمال جنبلاط والوزير اللواء الراحل جميل لحود والد القائد الحالي للجيش كانت ممتازة وشخصية وسياسية في آن واحد. ويقولون أيضاً ان علاقة شخصية تمت أيضاً بين نجلي الرجلين وليد واميل، وان الأول أشاد كثيراً بالثاني عندما تسلم قيادة الجيش وامتدح مناقبيته وصفاته الحميدة، لكنهم يقولون في الوقت نفسه ان هناك قلقاً جنبلاطياً مزمناً ومستمراً من الجيش سببه وقوفه المستمر مع حلفائه على امتداد البلاد ضد النظام الذي مارس قمعاً ضدهم بواسطة الجيش، وقد عاد هذا القلق الى البروز منذ مدة من خلال أمور عدة أبرزها الآتي: - تقديم ممثل قائد الجيش في المناسبات على السياسيين والوزراء والنواب، على رغم انه موظف من الفئة الأولى. وقد اعتبر ذلك دليلاً الى وجود مشروع معين ذي أبعاد سياسية. - اجحاف في حق عدد من الضباط الدروز على رغم تفوقهم. فالضابط كمال الأعور حاز المرتبة الأولى في دورة أركان في الولاياتالمتحدة وعلى رغم ذلك عين في "مدرسة في عكار" مع بضعة عسكريين. وضابط من آل المصري حاز المرتبة الأولى في دورة أركان في سورية أعطي موقعاً لا يتناسب مع خبرته وكفاءته. فيما الضابط رجا حرب "مرمي" في البيت. - الجيش يجب الا يكون متراساً لأحد، لا سيما للسياسيين، فعندما يقف خلفه الوزير سليمان فرنجية والنائب زاهر الخطيب والنائب والرئيس نبيه بري ويطلقون النار فإن الرد عليهم يصيب الجيش وهذا ما يحصل حالياً. "جيش وانما" وفي هذا المجال يعتقد الوزير جنبلاط بأن لضباط أساسيين دوراً في ذلك وان دعم بري للجيش لا يعكس تعلقاً بالمؤسسة الوطنية بمقدار ما يعكس رغبة في الافادة من الجيش بتركيبته العددية الحالية للسيطرة على البلاد. - بلغ عدد الجيش حوالي 50 الف جندي، والتطويع مستمر. وهذا الأمر يدفع جنبلاط الى التساؤل عن الهدف من ذلك في بلد صغير والى القول ان المنطقة متجهة الى تسوية مع اسرائيل والى خفض في اعداد قواتها، وان العالم يركز على الانماء بدلاً من العسكر. والتكاليف الباهظة لبناء جيش كبير لا حاجة له التي تشكل نسبة كبيرة من نفقات الدولة يمكن استعمال قسم كبير منها في اعادة اعمار لبنان الذي يشكو من عدم توافر الأموال اللازمة لهذه المهمة. فريق الحريري وعن العلاقة بين جنبلاط ورئيس الحكومة يقول القريبون من الزعيم الدرزي ان للحريري رصيداً مهماً اكتسبه من خلال مبادراته التعليمية والانسانية ومن خلال تعاطيه المزمن في السياسة قبل دخوله ساحتها من موقع الاحتراف. ويقولون أيضاً ان لديه أفكاراً طموحة، وينزهونه عن الاتهامات التي يكيله له أخصامه. لكنهم يقولون في الوقت نفسه انه دخل السياسة قبل اكتساب الخبرة الكاملة ومن دون ان يعرف زواريبها عموماً وزواريب بيروت خصوصا، حيث يريد ان يشتغل سياسة محلية فيها وان يمثلها في مجلس النواب في الانتخابات المقبلة. وقد أدى ذلك الى صعوبات في عملية "التفاف البيارتة" حوله اذ لم يفتح بيته لهم كما هي دار المختارة مفتوحة دائماً، متبعاً طريقة اخرى هي دعوة فاعلياتهم الى لقاءات واسعة، وهو أمر لم يتعود عليه ابناء بيروت. ويقولون أيضاً انه يفتقر الى فريق سياسي واعلامي كفء وقادر، على رغم وفرة المستشارين حوله، الأمر الذي أوقعه في أخطاء عدة. وبدلاً من ازاحة المخطئين من المحسوبين عليه، سواء كانوا مستشارين وحتى مسؤولين، "أخذ الأمور بصدره"، كما يقال، وتحمل المسؤولية فانصبت النقمة عليه، مما ساهم في جعله هدفاً تسهل اصابته. وتربط بين الحريري وجنبلاط، في رأي القريبين من الأخير، علاقة تحالف وطيدة أولى اسبابها الاقتناع بصدق نيات رئيس الحكومة، وثانيها الاشتراك معه في مواقف أساسية، منها اصلاح الادارة الفاسدة التي يعرف جنبلاط ان الحريري مُنع من اجرائه أو لم يعرف كيف يجريه، وثالثها مساعدة الحريري له في قضية اعادة المهجرين الذي ما كان ممكناً في ظل أي رئيس آخر للحكومة لا سيما لجهة تأمين الأموال الضرورية لهذه العودة. ورابعها النظرة المشتركة الى قانون الانتخاب الذي ستجري الانتخابات النيابية المقبلة في ظله. وخامسها التزام الحريري تحالفه مع جنبلاط وثباته فيه. الا ان هذا التحالف لا يعني ان الزعيم الدرزي لا يعترف بأخطاء رئيس الحكومة ولا يسعى الى تصحيحها، فهو نصحه ولا يزال بتحديد الأولويات لا سيما في موضوع الانماء والاعمار ومن اجل الا تكون اعادة بناء لبنان على حساب الناس، لكنه يعتقد بأنه الأفضل في المرحلة الراهنة. وقد تكون له مصلحة في ذلك بعدما وضعه "اتفاق الطائف" وطائفته خارج الترويكا الحاكمة فوجد ان من الضروري التحالف مع احد أبرز أعضائها. والمصلحة نفسها كانت للحريري الذي يخشى تطورات تغير وجه البلد. نصائح سورية أما بالنسبة الى الرئيس الياس الهراوي فإن علاقات جنبلاط به تمر في مراحل صعود وهبوط، علماً ان ملف هذه العلاقات هو أقل أهمية من ملفات العلاقات الأخرى، فالزعيم الدرزي منسجم مع نصائح سورية الداعية الى "مراعاة أبو جورج" الرئيس الهراوي بسبب مواقفه الوطنية والتاريخية. وهو يعتقد بأن هناك نظرة مشتركة الى قانون الانتخابات مع رئيس الجمهورية. وهو لا يمانع في التمديد له ثلاث سنوات اذا قررت سورية ذلك، علماً انه يفضل انتخاب رئيس جديد في ظل حد أدنى من الحرية والديموقراطية. ودعوته الى بت هذا الاستحقاق بسرعة تعود الى رغبته في عدم جعله موضع مزايدة في الداخل، ذلك ان الجميع يعرف ان القرار المتعلق به ليس لبنانياً. هذه العلاقات المتوترة بين الترويكا وبين القيادات السياسية لماذا لا تعالجها سورية على رغم ان الجميع حلفاء لها؟ القريبون من جنبلاط يردون بأن الجميع يعملون تحت السقف السوري، لذلك عليهم عدم الاختلاف وعدم رفع شعارات كبيرة. واذا كانت سورية تمتنع عن فرض الانضباط على الجميع فربما لمصلحة عندها لا أحد يعرفها. لكنهم يدعون الجميع الى الانتباه الى جملة أمور: منها ان الخلاف بين جنبلاط وبري، على رغم خلفياته المذهبية، يجب الا يستنفر الشيعة والدروز على أساس مذهبي لأن الزعماء لا يختصرون طوائفهم والمذاهب كما يزعمون.