يروى عن الرئيس اللبناني فؤاد شهاب انه كان يتبرم احتجاجاً، ويتضايق من سيل المطالب التعجيزية التي كان يمطره بها الزعيم الدرزي كمال جنبلاط. وحدث في احدى المناسبات أن أعرب شهاب عن غضبه أمام زائر ظريف يدعى عارف يحيى، كان جنبلاط يأنس الى حضوره، ويكلفه أحياناً نقل رسائله الشفهية الى من يتحاشى مكاشفتهم. ولما سأله عارف عن دوافع شكواه من تصرفات كمال جنبلاط، أخرج شهاب من جيبه ورقة تحمل عشرة شروط قال ان كمال بك أرسلها اليه طالباً تنفيذها كثمن لوقف حملاته ضد العهد. واستمع صديق الطرفين، الى الشروط العشرة التي استهلها الزعيم الدرزي بأهمية توسيع العلاقات التجارية مع الصين الشعبية وكوبا الكاستروية... ثم اختتمها بضرورة ترقية الضابط أنيس أبو زكي! وطوى شهاب الورقة بانزعاج ظاهر، وهو يكرر احتجاجه على التدخل في السياسة الخارجية، وما قد تعكسه مثل هذه الممارسات من أثر سلبي على علاقات لبنان مع الدول الغربية. وقهقه عارف يحيى بصوت جهوري، ثم علق على المطالب ناصحاً: يا فخامة الرئيس... يجب ان تقرأ كمال بك من تحت لفوق... وليس العكس. ثق بأن تحقيق الطلب الأخير القاضي بترقية الضابط أبو زكي سيلغي الشروط التسعة الأولى. وفي ضوء هذا الاسلوب المبطن يحاول العهد الجديد استكشاف المرامي الخفية التي تحملها انتقادات وريث الزعامة الجنبلاطية وليد بك، وما إذا كانت هناك مطالب خاصة تختفي وراء دعوته "لصون حقوق الطبقات الفقيرة الكادحة... وحقوق أبناء الجبل... وحماية الديموقراطية من هيمنة العسكر"، خصوصاً انه كان الزعيم الوحيد الذي استقبل مع كتلته النيابية 6 نواب عهد العماد اميل لحود بمقاطعة انتخابات الرئاسة، كأنه بذلك يمهد لمعارضة استباقية لم يبررها بأكثر من القول انه ضد عودة العسكر الى الحكم. ولقد كرر هذه اللازمة بعد صدور التشكيلات الأولى، معترضاً بأن العماد لحود بدأ يثبت قواعد حكمه على ركائز عسكرية في محاصصة نال منها رئيس المجلس نبيه بري حصة صغيرة لصهره. وبعد أن أعرب عن تخوفه من عودة "النيو - شهابية" أبدى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي استعداده للتعاون مع الرئيس لحود، مشترطاً ألا يبدأ العهد الحالي من حيث انتهى عهد فؤاد شهاب. وكان بهذا التلميح يذكر بأن تجاوزات "المكتب الثاني" أنهت الحركة الشهابية، وقضت على انجازاتها في حقول الانماء والاجتماع والاقتصاد. وبعد ان عرّج وليد جنبلاط على موضوع المطالبة "بحقوق الذين دفعوا ضريبة الدم ثمناً لصمودهم خلال حرب الجبل" - أي الدروز - أكد تمسكه باعتماد القضاء دائرة انتخابية في كل من منطقتي الشوف وعاليه. وأشار في تصريحه الى "ضرورة اعادة النظر في التركيبة غير الطبيعية التي تتحكم بمنطقة المتن الجنوبي انتخابياً، وذلك من خلال تقسيم المتن حفاظاً على التوازن والهوية الطائفية والعربية وعدم الذوبان في مجموعات أكبر قد تصبح أصواتها في خدمة أركان النظام الحالي". ونبّه في حملته على العهد، من ان التقسيم الانتخابي الذي يجري إعداده سيؤدي الى وضع مشابه لما حصل عام 1957. وفي زعمه ان قانون الانتخاب الجديد سيعتمد المحافظة، الأمر الذي يشكل خطراً على زعامته في الشوف وعاليه بسبب طغيان الاكثرية المسيحية. وعندما شبه الوضع الذي سينبثق عن قانون الانتخابات الجديد بالوضع الذي أفرزته انتخابات 1957 يوم اسقط الرئيس كميل شمعون كل زعماء البلاد من المعادلة السياسية، انما كان يستعرض الظروف التي قادت الى ثورة 1958. وعلق الرئيس نبيه بري على هذه المخاوف منتقداً قول جنبلاط انها تعمق المذهبية وتضع الطوائف الصغرى تحت رحمة الطائفة المتفوقة عددياً. والمعروف ان بري يعتبر من الفريق المطالب بنظام الدائرة الواحدة على امتداد كل الوطن، مثل اليابان. ولكن خطأ هذه النظرية يكمن في خلو الوطن من الاحزاب السياسية، الأمر الذي يعزز فرص انتخاب مرشحي الطوائف. ولتفادي كل هذه الثغرات ستعهد الحكومة الى لجنة خبراء اعداد قانون انتخابي متوازن يكفل التعددية وتمثيل الإرادة الشعبية من دون ان يسمح لأي طائفة كبرى بإلغاء تمثيل الطوائف الصغرى. يعترض السياسيون في الشوف وعاليه على مخاوف وليد جنبلاط بالقول ان الخطأ لا يكمن في قانون الانتخاب بل في احتكار وليد بك تمثيل كل الطوائف واخضاع النواب المسيحيين لمشيئته. وهذا ما قاد الى نفور بيار حلو وفؤاد السعد وغيرهما ممن كان يشعرهم والده كمال جنبلاط بأنهم خارج حدود زعامة طائفته، وبأنهم جزء من المعادلة اللبنانية التي تتعامل مع الكل بالتساوي. لهذا نجح في استقطاب المسيحيين وسنّة اقليم الخروب، وجمع حوله قيادات من كل المذاهب. بعكس نجله الذي تركت حرب الجبل في ذاكرته انطباعات مؤلمة عن استبداد الموارنة الذين قادهم الدكتور سمير جعجع عام 1983 الى الشوف وعاليه. ولقد دفعته هذه الهواجس الى التردد في السماح بعودة المهجرين المسيحيين، لاعتقاده بأن النقاء العرقي لدروز الجبل 300 ألف نسمة يجب ان يتم تنظيفه من ورثة الفلاحين الموارنة الذين استخدموا خلال الحربين الاهليتين 1842 و1860 بهدف اشعال الفتنة. وهو يعتمد في اقرار حق العودة الى الشوف نظام الانتقاء الذي أعاد المسيحيين الى عاليه والشوف تحت سلطة رقابة استنسابية صارمة. ويحمل وليد جنبلاط في قلبه مرارة عميقة ضد الجيش اللبناني الذي خذله اثناء حرب الجبل ومنع قواته من الوصول الى قصر بعبدا. وتوقع بعد انتهاء القتال وإبعاد العماد ميشال عون، واختيار العماد اميل لحود قائداً لجيش جديد... ان يبقى هو في السلم كما كان في الحرب، أي المرجعية الوحيدة لدى الطائفة الدرزية. ولكنه صُدم بإحياء ثنائية الزعامة لحزبين قديمين ولدا بعد وفاة الأمير ملحم 1754 هما الجنبلاطية واليزبكية. وفوجئ اثناء محاولته إزاحة الشيخ بهجت غيث من منصبه بموقف معارض منعه من تحقيق ذلك بمؤازرة الجيش وحمايته. كما منعه العهد الجديد من فرض شروطه أثناء تأليف الحكومة، الأمر الذي أدى الى بقاء الأمير طلال ارسلان خارج الوزارة. ولكن الأمير طلال يعتبر نفسه ممثلاً بوزير الإعلام والمهجرين أنور الخليل. ولقد قاطعه جنبلاط معتبراً ان الطائفة الدرزية غير ممثلة، وان الوزير الدكتور عصام نعمان يستند في تمثيله الى كتلة الرئيس الحص. يقول أصدقاء وليد جنبلاط بأن مشاعر النقمة والنفور رافقت حملات الزعيم الدرزي منذ وصول رفيق الحريري الى الحكم، وليس منذ وصول العماد لحود. والسبب انه شعر خلال السنوات الأربع الماضية بثقل الحضور السياسي الذي نشره الحريري عبر امتدادات طاولت الدول العربية والاسلامية. وبما ان جنبلاط يعتبر نفسه وريث والده في اقامة توازنات الداخل العربي والاسلامي، فقد أحس بأن تنامي دور الحريري عرّض تمثيله داخل لبنان وخارجه لخطر التهميش. ثم ازدادت مساحة التهميش بسبب الدور السوري المؤثر... وبسبب انتقال الملف اللبناني الى عهدة الدكتور بشار الأسد، صديق الأمير طلال ارسلان. لهذه الأسباب ولسواها ازدادت انتقادات جنبلاط حدة على نحو رأت فيه دمشق بداية تجمع معارضة مبكرة يمكن ان تستغل هذه الحملات لكي تثير الشكوك حول العهد ورجالاته. لذلك شكلت تطمينات الرئيس حافظ الأسد لوليد بك، نقطة المهادنة والانعطاف في استدارة سياسية ملحوظة يمكن ان تخفف من انتقاداته في حال الحصول على حصته داخل التركيبة اللبنانية. ومع انه حالياً يستند الى الحريري لبناء سد وقائي من المعارضة السنية - الدرزية، إلا ان التوقعات تشير الى احتمال انفصالهما. ذلك ان رفيق الحريري يركز في معارضته على الحكومة وليس على العهد بهدف منعها من وصم انجازاته بالفساد والهدر... بينما يركز جنبلاط حملته على العهد ورموزه في محاولة لإرباك الرئاسة والتشكيك بدورها. بعد جولة شملت السعودية والولايات المتحدة وفرنسا، عاد رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ليفتح معركة ضد حكومة الحص، مؤكداً ان وجوده خارج السلطة لا يغير من تصرفاته، ولا يبدل من قناعاته. ويبدو انه اعتمد في هذه المرحلة سياسة الهجوم باعتبارها أفضل وسيلة للدفاع عن نفسه، وعن انجازاته التي تعرضت للانتقاد المتواصل. ولقد تزامنت هذه المعركة مع حملة وشوشات مفادها ان الرئيس الماروني عاد ليستأثر بالموقع الأول بعدما جيّر اتفاق الطائف هذه المسؤولية لرئيس مجلس الوزراء. ووزعت احدى الجهات المجهولة نشرات تحمل نص اتفاق الطائف، وفيه تُحدد مهمة رئيس مجلس الوزراء "بأنه ممثل الحكومة والمتكلم باسمها، والمسؤول عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها المجلس". واغتنم الدكتور الحص فرصة تكريم عدنان القصار في مناسبة تسلمه منصب رئاسة غرفة التجارة الدولية، ليهاجم "ماكينة" الحريري من دون ان يذكرها بالاسم. وعزا انتشار الاشاعات المغرضة الى "أشباح بيروت"، وقال انها تبث حملة افتراء تستهدف مقام رئاسة الوزراء وايقاع الفرقة مع رئيس الجمهورية. وغمز في خطابه من قناة الحريري عندما اختصر دوره بعبارة هادفة: "لقد علمتنا التجربة ان المسؤول يبقى قوياً اذا لم يطلب امراً لنفسه، ونحن نشعر بالقوة لأننا نترفع عن المطالب الشخصية". والملاحظ ان هذه المعركة المفتوحة ستدخل باب المناظرات والاجتهادات بعدما انتقد رفيق الحريري عملية تجيير اصوات النواب، بحجة ان هذا العمل مناقض للمادة التي تلزم النواب اتخاذ موقف واضح. وفي رأي الحريري ان هيمنة الرئيس الماروني الذي سعى اتفاق الطائف الى الغائها، عادت لتطل بصيغة جديدة. من هنا جاء طلبه للحص بضرورة رفض التكليف لئلا يعتبر التجيير سابقة يمكن تكرارها من قبل رئيس الجمهورية. وترى حكومة الحص ان الحملة السياسية اتخذت منحى التحريض كأن الحال المذهبية عادت لتضخم دور الرئاسة الأولى، وتعيد لعبة التجاذب الى تحالف الموارنة والشيعة مقابل تحالف السنة والدروز. وترى دمشق في هذا الطرح الطائفي ارتداد اللعبة السياسية اللبنانية الى المجاري التي ساعدت على تغذية الفتن والحروب الأهلية. وطلب الرئيس حافظ الأسد من الحص والحريري وجنبلاط بألا تتعدى الحملات وردود الفعل، قواعد اللعبة المحدودة والمضبوطة. والمرجح انها قد تفلت من الضوابط اذا ما واصل الحريري وجنبلاط حملاتهما الموجعة، الأمر الذي يضطر الحكومة الى فتح تحقيق بموضوع الديون والهدر والارتكابات التي تتهم الحكومة السابقة بأنها أقدمت على اقترافها بصورة غير قانونية. والمؤسف ان ظاهرة الاحباط التي عانى منها المسيحيون خلال السنوات الست السابقة، عادت لتنتشر في الشارع السني بتغذية من المعارضة الجديدة. ومن المتوقع ان تتدخل دمشق قريباً بشكل حاسم لئلا تتحول خطب موائد الإفطارات الرمضانية الى خلافات مذهبية يتأثر بها المواطنون! * كاتب وصحافي لبناني.