بعد خمس سنوات قضاها العميد المتقاعد الهادي بشرى في صفوف المعارضة السودانية في القاهرة، فضّل العودة الى السودان ليعيش في كنف نظام الفريق عمر حسن البشير الذي يسانده الدكتور حسن الترابي زعيم "الجبهة الاسلامية القومية". انشق بشرى، وهو الرجل الثالث في الجناح العسكري للمعارضة السودانية، وخلع رداء المعارضة وفضّل العودة طوعا الى السودان على حد قوله. واتهم المعارضة بالارتهان لقوى خارجية، والتخلي عن وحدة السودان، وبرر عودته الى الخرطوم باختلافه مع القائمين على المعارضة في الهدف والاسلوب. كان العميد بشرى من أشد المناهضين للحكومة السودانية الحالية. واتهمهم جميعاً في السابق، ومن دون استثناء، بالخيانة. وكان يصف النظام بالديكتاتورية، وكثيرا ما توقع انهيار النظام. وكانت وسائل الاعلام السودانية الرسمية تتعامل مع العميد بشرى، نائب المدير العام السابق لجهاز "أمن السودان" خلال العهد الديموقراطي الذي سبق انقلاب 1989 باعتباره "احد الخونة والمعارضين لنظام الحكم الاسلامي الذي ارتضاه الشعب السوداني". ولم تكن عودة العميد بشرى الأسبوع الماضي مفاجئة للمعارضة العسكرية السودانية. وذكر الفريق فتحي احمد علي رئيس تنظيم "القيادة الشرعية للجيش" ونائب رئيس التجمع الوطني الديموقراطي المعارضة لپ"الوسط" ان عودة بشرى الى الخرطوم، وخلعه رداء المعارضة، كانا متوقعين إثر معارضته أي تنسيقٍ مع الجبهة الشعبية لتحرير السودان التي يتزعمها العقيد جون قرنق لاسقاط النظام السوداني. وأضاف الفريق علي أن تصرفات بشرى في الفترة الاخيرة وتوجهاته فضحت نيته، كما ان عودته الى السودان لن تؤثر على "القيادة الشرعية" المعارضة، باعتبار أن المعلومات التي يملكها قديمة، وغير ذات قيمة، لأنها ترجع الى ما قبل انعقاد مؤتمر اسمره، الذي استضافته ارتيريا نهاية حزيران يونيو الماضي. وعلى رغم تقليل الجناح العسكري للمعارضة السودانية من شأن عودة الرجل الثالث في "القيادة الشرعية" الى الخرطوم، الا ان المراقبين رأوا أن عودته تأتّت إثر نجاح حكومة الفريق البشير في استقطاب اللواء بشرى، وإقناعه بالعودة الى السودان للاستفادة منه اعلامياًً في ضرب المعارضة السودانية في الخارج، وأيضاً للوقوف على المعلومات التي في حوزته عن تنظيمات المعارضة السودانية، والدعم الذي تتلقاه، وامكاناتها الحقيقية. ووصف الفريق عبدالرحمن سعيد، الرجل الثاني في تنظيم "القيادة الشرعية"، العميد بشرى "بأنه رجل متسرع في إتخاذ قراراته". وقال إن لقاءاته مع عدد من المسؤولين السودانيين في العاصمة الاردنية عمّان غيّرت قناعاته، "اذ لوحظ انه عاد الى القاهرة منذ نحو شهر مشحوناً ضد المعارضة، حتى انه صمم على الاستقالة قائلا ان كل الخيارات المستقبلية أضحت مفتوحة أمامه". وكان العميد بشرى قدم استقالة مكتوبة الى تنظيم "القيادة الشرعية" برر فيها استقالته برفضه نتائج مؤتمر أسمره، خصوصاً: - موافقة المؤتمر على حق تقرير مصير جنوب السودان والمناطق المهمشة، باعتبار أنه سيؤدي الى فصل جنوب السودان حسب اعتقاده. - موافقة المؤتمر على فصل الدين عن السياسة. ولم يشارك العميد بشرى في اجتماع اسمره لظروف شخصية كما أوضح الفريق سعيد، ونفى ان يكون ذلك نجم عن رفض ارتيريا منحه تأشيرة دخول، خصوصا أنه كان الرجل الذي اعتقل الرئيس الارتيري الحالي أساياس أفورقي خلال قيادته للمعارضة ضد الرئيس الاثيوبي منجستو هيلا ماريام من الأراضي السودانية. وكان بشرى نائباً لرئيس جهاز الأمن آنذاك. وقال الفريق سعيد: ان العميد بشرى ذهب الى الاردن خلال فترة انعقاد مؤتمر اسمره لمتابعة علاج إبنته ولم يتقدم بطلب للحصول على تأشيرة دخول الى ارتيريا لحضور المؤتمر. وأكدت تلك المعلومات السفارة الارتيرية في القاهرة، التي قال مسؤولوها انهم كانوا على استعداد لمنح تأشيرة الدخول الى جميع الراغبين في حضور اجتماع اسمره الذي ضمَّ فصائل المعارضة السودانية. ويمكن ادراج عودة الرجل الثالث في الجناح العسكري للمعارضة السودانية الى الخرطوم ضمن المحاولات التي يمارسها القائمون على الحكم في السودان، مع اقطاب المعارضة السودانية في الخارج. ومنها الزيارات الخاصة التي يقوم بها أقطاب من الجبهة الاسلامية لمصر وغيرها، ومنهم وزير الداخلية السوداني السابق احمد عبدالرحمن في حزيران الماضي للقاهرة، حيث التقى اقطاباً من المعارضة، منهم احمد الميرغني رئيس مجلس رأس الدولة السابق ومحمد الحسن عبدالله ياسين عضو المجلس المذكور وأحمد السيد حمد نائب رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي الذي ينتمي اليه ثلاثتهم. وذكر عدد من اقطاب المعارضة في القاهرة انهم تلقوا اتصالات من مسؤولين سودانيين حضوهم على العودة للسودان، والتخلي عن المعارضة. وقال الفريق سعيد انه تعرض لعدد من تلك المحاولات التي تضمنت إغراءات كثيرة، منها إعادة املاكه المصادرة، وإغلاق ملف الفترة التي قضاها في صفوف المعارضة، وترك الحرية الكاملة امامه لاختيار الموقع الذي يناسبه، سواء في الجيش او في الخدمة المدنية. ولم يستبعد سليمان بخيت ممثل الجبهة الشعبية لتحرير السودان في القاهرة أن يكون العميد بشرى تعرض لهذه الاغراءات، وان عودته الى الخرطوم تمت في اطار صفقة يحصل بموجبها على مكاسب في مقابل الكشف عن اوراق المعارضة. وتابع انه تعرض شخصيا لاغراءات من احد الديبلوماسيين السودانيين في القاهرة، ممن ابعدتهم السلطات المصرية منذ اكثر من عام، الا انه رفض الاغراءات وفضل البقاء في صفوف المعارضة. وقلل الفريق سعيد من شأن المعلومات التي يملكها العميد بشرى، لافتاً الى ان المعارضة السودانية علنية، وليست هناك معارضة سرية. وقال: لا اتصور ان اخلاق العميد بشرى تسمح له بالكشف عن قواعد المعارضة في داخل السودان وفي حالة قيامه بذلك فإن من سيكشف عنهم سنعتبرهم شهداء في حربنا ضد النظام. وربطت مصادر من المعارضة عودة العميد بشرى الى الخرطوم بالخلاف السوداني الارتيري، وعدم حضوره اجتماع اسمره، الا انها توقعت ان يبادر القائمون على نظام الحكم في السودان بالتخلص من العميد بشرى، ليس من خلال تصفيته، ولكن من خلال تجميد نشاطه بعد تحقيق أغراضهم منه.