يشهد السودان منذ منتصف الشهر الجاري أحداثاً سياسية متتالية تدفع الى التساؤل عما إذا كانت مشاريع المصالحة الوطنية تهدف الى وفاق بين الأحزاب السياسية وحكومة الفريق عمر حسن البشير. فقبل اسبوعين التقى محمد الأمين خليفة، رئيس المجلس الوطني البرلمان والرجل الثاني في الدولة السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الأمة. ثم التقى القطب الاتحادي والتاجر المعروف الميرغني عبدالرحمن سليمان. ومن المعروف ان الميرغني، هو الممثل السياسي في الخرطوم لمحمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي المقيم خارج السودان. وما بين اللقاءين لبى رئيس الوزراء السابق دعوة من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي تسيطر عليه "الجبهة القومية الاسلامية"، والقى محاضرة في الجامعة حضرها عدد من قادة حزب الأمة في الداخل. هل هذه التطورات مقدمة لمصالحة وطنية أم انها مناورة من الحكومة السودانية ولعب سياسي في الوقت الضائع بالنسبة الى قيادات المعارضة داخل السودان. خلال لقاء مع "الوسط" العام الماضي قال محمد هيبة وهو من كبار التجار السودانيين المستقلين عن العمل السياسي: "قلت للدكتور حسن الترابي والسيد الصادق المهدي والميرغني عبدالرحمن سليمان: سأقفل باب البيت ولن ادعكم تغادرون قبل ان تتوصلوا الى الحد الأدنى من التفاهم لانقاذ السودان من هذه الدائرة الضيقة التي توشك ان تخنقنا جميعاً. ولما أصبح الصباح كان الثلاثة قد استنفدوا الكلام في خلوات ثلاثية وثنائية. ثم باركنا ما توصلوا اليه داخل منزلي في ضاحية الرياض في الخرطوم. ولما انتصف النهار نزل عليَّ نزول الصاعقة خبر اعتقال الميرغني عبدالرحمن سليمان، ثم ايداعه السجن، ما أدى الى تسميم الاجواء". مصير الاتفاقات قبل أيام اتصلت "الوسط" بمحمد هيبة فأكد مجدداً "ان الدكتور الترابي ما زال مصمماً على استكمال مساعي الوفاق وهو يباركها شخصياً" وأضاف هيبة الذي أصبح نائباً في المجلس الوطني: "ان رئيس البرلمان يتولى شخصياً الاتصال بالقيادات داخل الخرطوم، سواء الصادق المهدي أم ميرغني عبدالرحمن سليمان. والدكتور الترابي يبارك هذه التوجهات". لكنه لم يقل اذا كانت هذه الاتصالات تلزم امتدادات حزبي الأمة والاتحادي المعارضة خارج السودان؟ وامام هذا الوضع يصبح من البديهي التساؤل عن مصير الاتفاقات التي ابرمتها قيادات الأمة والاتحادي خارج السودان مع العقيد جون قرنق زعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان". فاتفاق شقدوم بين حزب الأمة والحركة الشعبية أواخر العام الماضي اعترف للجنوب بحق تقرير المصير وجعل اسقاط الحكومة السودانية في مقدمة أولويات الجانبين. كما نص اتفاق شقدوم على اقامة نظام كونفيديرالي في الجنوب وفيديرالي في الشمال، على أن يمنح الجنوبيون حق تقرير المصير في استفتاء عام باشراف دولي. وعندما عقد الحزب الاتحادي اتفاقاً مع الحركة الشعبية في أواخر كانون الأول ديسمبر الماضي في اسمرا أكد اتفاق شقدوم ومنح "الحركة الشعبية" حق تقرير المصير لجنوب السودان وأعطى الأولوية لاسقاط حكومة البشير ومن ثم بناء الثقة بين الجنوب والشمال بهدف ايجاد ظروف موضوعية تغلب خيار الوحدة. هل استشارت قيادات الداخل السوداني ممثليها وقياداتها خارج البلاد قبل محادثات المصالحة؟ أم ان الأحزاب، في وضعها الحالي منقسمة بين جماعة الداخل وجماعة الخارج، حيث تمارس كل فئة سياسة معينة؟ "الوسط" اتصلت بالقطب الاتحادي داخل السودان ميرغني عبدالرحمن سليمان وسألته عن مضمون لقائه مع محمد الأمين خليفة وإذا كان استشار مرجعيته خارج السودان، محمد عثمان الميرغني، قبل لقائه رئيس المجلس الوطني، فقال "أنا لدي ضوء أخضر من الخارج من منطلق اننا أدرى بما يحدث داخل السودان. شاورنا قواعدنا في البلد. وتشاورنا مع حلفائنا في حزب الأمة ودخلنا الجولة الأولى من الحوار. السيد محمد الأمين خليفة وهو الرجل الثاني في الدولة وجاء من جهاز قومي هو الجيش السوداني الذي كان ولا يزال صمام أمان في السودان. ولا يمكن لرجل في مستوى محمد الأمين خليفة ان يناور وهو يلتقي قيادات وطنية داخل البلاد". وكشف القطب الاتحادي محضر لقائه مع رئيس البرلمان فقال: "تكلمنا عن المشاكل التي يواجهها الوطن، وأخطرها العزلة الخارجية والحصار غير المعلن. فطالبنا بإعادة النظر في السياسة الخارجية لتحسين العلاقات مع دول الجوار والعالم الخارجي. وقلنا ان تحسين العلاقات الاقليمية سيساعد في حل مشكلة الجنوب، وان سياسة جبهة الانقاذ الخارجية استعدت دول الجوار والخارج. في ما يخص المشاكل الاقتصادية تحدثنا عن الأوضاع المعيشية الصعبة التي نواجهها ولم نتحدث عن طريقة معالجة ذلك خلال اللقاء الأول. وعن التعددية قلنا لرئيس البرلمان لا بد من اشراك كل القوى الوطنية، لا سيما في القضايا القومية الكبرى، ومنها الحرب في الجنوب. وفي ما يخص الديموقراطية طالبنا بتحديد فترة انتقالية ثم اجراء انتخابات عامة، على أن يسبق ذلك اعادة الاعتبار للأحزاب السياسية. أما في ما يخص الوضع في جنوب البلاد فأكدنا لرئيس البرلمان بأنه لا بد من ابرام اتفاق سلام مع المحاربين. وهناك اتفاقات عدة، منها أديس أبابا كوكادام وأسمرا، نأخذ الايجابي في هذه الاتفاقات ونستثمر محصلة دورات التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية في أبوجا ونيروبي". وعن وضع التجمع الوطني الديموقراطي المعارض ودوره في تنفيذ هذه الاقتراحات قال سليمان: "نحن في الداخل أدرى بالظروف التي نواجهها. وكحزب ديموقراطي نؤيد مبدأ الحوار. اذا توصلنا الى رؤية مشتركة سنبحثها مع الخارج، فنحن لا نعمل في الداخل من دون تشاور وتنسيق مع الخارج". اما زعيم الحزب الاتحادي السيد محمد عثمان الميرغني المقيم في القاهرة، فلم يعلق على لقاءات الخرطوم. وانتظرت "الوسط" اجاباته الخطية على اسئلتها عن الموضوع لكنها لم تصل حتى الآن. وعلى رغم الضجة الاعلامية التي رافقت لقاء الخليفة والصادق المهدي ومن ثم محاضرة زعيم حزب الأمة في جامعة الخرطوم وما تضمنها من انتقادات "ترشيدية" لتجربة الجبهة القومية الاسلامية، على رغم كل هذه العودة المدوية الى واجهة الأحداث، بقي الخط الهاتفي الخاص لرئيس الوزراء السابق مقطوعاً وظل الوصول الى "دار الانصار" في ضاحية الملازين في ام درمان مستحيلاً. ولفت النظر ان الرئيس عمر البشير أكد قبل أيام قليلة من لقاءات السلطة مع قيادات الأمة والاتحادي ان "لا عودة الى مرحلة العمل السياسي الحزبي". وليس معروفاً حتى الآن وفق أية شروط وانطلاقاً من أية ظروف انطلق رئيس البرلمان في مساعي الوفاق مع قيادات حزبية معارضة. علي الطريقة الليبية من جهته قال الدكتور عمر نور الدايم، أمين أمانات حزب الأمة المقيم حالياً خارج السودان ان الحكومة السودانية مقبلة على انتخابات عامة الشهر المقبل، على غرار تجربة ليبيا التي تعتمد فكرة اللجان الشعبية. وكلما وصلت الحكومة الى مرحلة حرجة تبدأ في مناورات اعلامية مكشوفة. والحوار في اطار الاداب الاجتماعية السودانية مسألة عادية جداً. انما سيبقى حوار الحكومة مجرد حوار الطرشان ما لم تعترف مجدداً بالأحزاب السياسية. أما هذا الحوار فلن يوصل الى نتيجة، انه مجرد "ونسة" تسلية رمضانية. والمقال الأخير الذي كتبه السيد الصادق قبل أسابيع أعلن بصراحة طلاق حزب الأمة مع حكومة الجبهة، حتى في توجهها الاسلامي". وتابع نور الدايم قائلا ل "الوسط" "حتى ميرغني عبدالرحمن سليمان متمسك بالتعددية ويشترط العودة اليها لانقاذ البلاد. انها لقاءات لن تسفر عن نتيجة لأنها تتم وفق شروط الجبهة القومية التي لا تعترف بالآخر، فكيف تتفق معه اذن؟" داخل التجمع الوطني الديموقراطي تبدو الصورة مختلفة بعض الشيء إزاء ما تشهده الخرطوم من لقاءات لا تعرف محصلتها النهائية ولا الأهداف المرجوة منها، رسمياً. التيجاني الطيب بابكر، ممثل الحزب الشيوعي في "التجمع" ومن أبرز القيادات السياسية في السودان، قال ل "الوسط" هاتفياً من القاهرة "كلما تحركت قوى المعارضة وكلما واجه النظام تصعيداً دولياً ضده يلجأ الى المناورة. احتمال فتح جبهة جديدة شرق السودان يثير أعصاب الجبهة القومية، لذلك لجأت الى المناورة ولعبة المصالحة وارسال الوفود. النظام، كما تدل تصريحات البشير، يتبع سياسة صدامية لا وفاقية". وكشف الطيب جوانب من وضع المعارضة السودانية وقال "المعارضة السودانية في أزمة. أنا لا أقبل ان يخاطب زعيم حزب الأمة اتحاد قتلة ومزورين اتحاد طلاب السودان الذي تسيطر عليه الجبهة القومية الاسلامية. لا يوجد أي سبب يبرر تصرفات زعيم حزب الأمة. ثمة قوى في المعارضة السودانية راغبة في اجراء مصالحة مع النظام، وهناك ضغوط كثيرة على المعارضة الداخلية تدفعها باتجاه المصالحة". وعن قول ميرغني عبدالرحمن سليمان انه تشاور مع قيادات الحزب الاتحادي خارج السودان قبل لقاء رئيس البرلمان قال التيجاني الطيب "انا أعرف ميرغني عبدالرحمن سليمان شخصياً. سجنت معه مرات عدة. وهو من النوع الذي لا يكذب. لكن عندما اسمع في قيادة الاتحادي انها لم تفوض سليمان لقاء الخليفة تصيبني الحيرة وأقول ان زعيم الاتحادي لا يمكن أن يكذب. ويستحيل ان يمارس خارج السودان أمراً وممثله داخل البلد يسير في اتجاه معاكس جذرياً. مع هذا أنا واثق من قدرة النظام على ممارسة الكذب على الصادق المهدي وعلى ميرغني عبدالرحمن سليمان". داخل القيادة الشرعية، الجناح العسكري في "التجمع الوطني الديموقراطي"، تبدو الرؤية قاتمة بعض الشيء، اذ يقول الفريق عبدالرحمن سعيد، الرجل الثاني في تنظيم القيادة الشرعية للقوات المسلحة السودانية: "ما يحدث مربك للغاية وأخشى ان تكون هناك قوة دولية وراء ما يحصل في مساعٍ لاضفاء الشرعية على النظام السوداني". أما القيادات الاتحادية خارج السودان فترفض المساعي التي يقوم بها القطب الاتحادي داخل البلاد، في ما يخص محاورة الحكومة وفي هذا السياق يقول سيد أحمد الحسين، الرجل الثاني في الاتحادي الذي أقام فترة طويلة في أحد بيوت الأشباح وافرج عنه حديثاً وسافر الى المملكة العربية السعودية: "هذه اللقاءات خدمة كبرى للنظام. البشير أعلن منذ فترة انه يقبل تعددية الأشخاص وليس الأحزاب. اذا قبل النظام مبدأ التعددية وتداول السلطة يمكن ان نحاوره كحزب. أي حديث عن مشاورة القواعد الاتحادية في الداخل غير صحيحة النظام يحظر الاجتماعات الحزبية ويمنعها. وكيف أقبل محاورة طرف لا يعترف بي ويسعى الى زجي في السجن بعد كل لقاء؟ أنا اؤكد ان قواعد الاتحادي والشعب السوداني ترفض هذه اللقاءات التي لن تؤدي الى نتيجة. كلما اشتدت أزمات النظام وازداد عليه الضغط الدولي يلجأ الى لعبة اللقاءات مع قيادات الداخل. ولكن على أي شيء يتحاور النظام مع هذه القيادات. وضمن أية شروط؟". والحقيقة ان شخصية الميرغني عبدالرحمن سليمان من نمط القيادات السياسية المثيرة للجدل. فهو منذ دخل معترك الحياة السياسية في مستهل شبابه التحق بجبهة الميثاق التي أسسها الدكتور حسن عبدالله الترابي عام 1964 ليعود ويحلها معلناً تشكيل الجبهة القومية الاسلامية، ومن ثمة يحل الجبهة ويشكل تنظيماً أشمل أطلق عليه "الانقاذ الاسلامي".. اما الميرغني سليمان فاستمر على توجهه الاسلامي حتى ما بعد الانتفاضة التي أطاحت نظام الرئيس جعفر نميري عام 1985. وبعد الانتخابات النيابية عام 1986 التحق بالحزب الاتحادي الديموقراطي. ويقول مصدر اتحادي ل "الوسط" "هناك يعتقد بأن اعتقال ميرغني غداة سقوط نظام نميري كان هدفه التغطية". والحقيقة ان ميرغني كان وزيراً في اخر حكومة عينها نميري بوصفه ممثلاً لتنظيم الدكتور الترابي. وفي هذا الصدد يقول سيد أحمد الحسين في مجاله: "منذ العام 1990 ليس لنا مع ميرغني عبدالرحمن سليمان صلات حزبية تنفيذية. اعتبارات أمنية كثيرة تحول دون ذلك". المعارضة في أزمة، كما يقول التيجاني الطيب، ولكن ان تكون هذه المعارضة مخترقة من قبل حكومة البشير فهذا وجه آخر من وجوه الأزمة، اذا كان ميرغني عبدالرحمن سليمان لا يزل وفياً لاختياراته السياسية الأولى التي سبقت التحاقه بالاتحادي الديموقراطي.