سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فاتحاً النار على قصيدة النثر وداعياً المثقفين إلى عدم زيارة اسرائيل . أحمد عبد المعطي حجازي في ميلاده الستين : ليس لدينا نقّاد وأغلب ما ينشر لا علاقة له بالشعر !
هل صحيح أن قصيدة النثر "قائمة على وهم"، وأنّها "بلا جذور" ولم تظهر إلا "في مرحلة انحسار"؟ هذا على الأقلّ ما يؤكّده أحمد عبد المعطي حجازي الذي احتفلت الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي قبل أسابيع ببلوغه الستين. "لا يوجد لدينا نجوم في الشعر لأنه لا يوجد نقد"، يرى صاحب "كائنات مملكة الليل"، متناولاً في هذا الحديث المطوّل قضايا ثقافية راهنة تتجاوز الشعر والحداثة إلى "معركة التنوير"، وموقع المثقفين من "التطبيع"، ومستقبل الدوريات الثقافية المصرية التي تصدرها "الهيئة المصرية العامة للكتاب". يعتبر أحمد عبد المعطي حجازي من أبرز شعراء الحداثة الأحياء في مصر. اهتمّ بنتاجه نقاد مثل لويس عوض ومحمد مندور ورجاء النقاش وماجد السامرائي وجمال الدين بن الشيخ والمستعرب أندريه ميكيل. كما ترجم شعره الى الفرنسية والانكليزية والروسية والألمانية والاسبانية والايطالية واليونانية. ودعاه أخيراً "معهد فرنسي" عريق هو "كوليج دي فرانس" إلى إلقاء محاضرة خلال ربيع 1996 عن الشعر العربي في القرن العشرين. وفي حوارنا معه يرسم أحمد عبد المعطي حجازي صورة ايجابية للمشهد الشعري في مصر، مع أنّه يعتبر أن "قصيدة النثر ليست شعراً"، مصطدماً بذلك مع أغلب الشعراء المصريين الموجودين حالياً على الساحة. وكانت "الوسط" قصدت حجازي عشية بلوغه الستين، فتحدث عن قضايا الشعر ومعارك التنوير، وأدلى برأيه في النقاش الدائر حول التطبيع. ما هي مشكلة قصيدة النثر في مصر؟ - كل المآخذ على قصيدة النثر التي تكتب الآن يمكن ان تسري على أي انتاج ادبي او فني آخر، او حتى علمي. مشكلة قصيدة النثر أنها ظهرت في مرحلة لا يمكن أن نعتبرها مرحلة ازدهار. والفرق بين قصيدة النثر والأشكال الأدبية الأخرى بما في ذلك القصيدة التقليدية والقصيدة الحرة، أن قصيدة النثر شكل ليست له جذور أو أصول في الادب العربي. أقصد أن الجانب الأعظم من إنتاجنا الأدبي الراهن يعاني من الضعف والوهن. أميل شخصياً إلى ردّ الضعف الذي يتحكم بقصيدة النثر، في بعض جوانبه على الأقل، إلى نشوء تلك القصيدة في مرحلة انحسار وأزمة، لا في مرحلة ازدهار. بعد ذلك يمكننا الانتقال إلى المآخذ المتعلّقة بالشكل نفسه، وهي نظريّة أوّلاً وتتعلّق تالياً بالذوق العام. وهذه مسألة أساسية أيضاً، إذ لا يقاس العمل الادبي بالقواعد فقط، بل أيضاً بمدى اقبال الناس عليه... وبمدى مقدرة هذا العمل على التعبير عن طاقة ابداعية. ما هو موقفك الشخصي الحميم من هذه القصيدة؟ - حين تتحدث عن قصيدة النثر، فأنت تنشىء علاقة بين متناقضين، وتحاول أن تخرج من هذه العلاقة بعنصر جديد. فأنت تنسب القصيدة للنثر، فيما القصيدة هي الشعر. ما هو الشعر؟ يمكن الاتفاق على أنّه لغة رمزية مجازية تعتمد على عنصرين اساسيين لابد ان يتحققا فيها: من جهة الصورة، الاستعارة، المجاز، ومن الأخرى الموسيقى. وهناك من يعتبر ان الموسيقى مجرد ايقاعات يتضمّنها اي كلام،وأن كل كلام لابد ان يكون فيه قدر من الايقاع حتى ولو كان نثراً. وهذا صحيح الى حد كبير، فهو حضور محسوس لكنّه حضور غير محسوب. الايقاعات في الشعر ينبغي ان تكون محسوبة. لا أحد يستطيع ان ينكر ان اشعار العالم بشكل عام في كل اللغات تقوم على عنصر أساسي اسمه "الوزن". والوزن هو ايقاع محسوب : "مستفعلن مستفعلن مستفعلن"، أو "فاعلات فاعلات فاعلات"، إلخ. في كل اشعار العالم يوجد شيء اسمه "ميتريك" أو العَروض. قصيدة النثر تخلو من هذا الشرط وتحاول ان تعوضه بنوع من الايقاع المحسوس، او بنوع من الايقاع المتصور المستنبط الخفي. ولكن هذا الايقاع يصل أو لا يصل، وهو في الغالب لا يصل، خصوصا بالنسبة إلى القارئ العربي المعتاد على الايقاع المحسوب، ايقاع ظاهر لا مستتر. والمسألة غير محصورة بالعرب. فالتفرقة الاساسية لدى إليوت مثلاً بين الشعر والنثر تقوم على الوزن. فهو يسأل: ما الجانب الذي يميز الشعر عن النثر تمييزاً قاطعاً؟ ويجيب: الوزن. لأن النثر يستطيع أيضاً ان يحمل الصور ويستخدم الاستعارة وان يكون مجازاً، لكنه لا يستطيع ان يكون موزوناً. قصيدة النثر تعيش إذاً مع هذه المفارقة، خصوصاً في الشعر العربي. ربّما اختلف الأمر في الشعر الفرنسي مثلاً، والتسمية نفسها آتية من الفرنسية "بوييم آن بروز". أخذنا النموذج الفرنسي، وظهرت "قصيدة النثر" في مجلة "شعر" في بيروت في الخمسينات. قبل ذلك كان المصطلح الشائع هو "الشعر المنثور"، فهناك من حاول تقليد قصيدة النثر الفرنسية والانكليزية في العشرينات والثلاثينات مثل امين الريحاني او حتى جبران خليل جبران في بعض انتاجه. لماذا عادت قصيدة النثر بقوة هذه الأيام؟ - هذه العودة، او هذا الانتشار، سببهما في رأيي هو أن الاجيال الجديدة هان عليها الخروج على الوزن كاملاً، بعد ان استطاع الشعراء المجددون في الاربعينات والخمسينات والستينات الخروج على الاشكال التقليدية في الاوزان. قصيدة "الشعر الحر" التي ظهرت في اواخر الاربعينات، أو ربما في اواسطها، وحقّقت انتصاراً واضحاً على القصيدة التقليدية خلال الخمسينات والستينات والسبعينات. أما الثمانينات والتسعينات فتشهد ازدهار قصيدة النثر. نجح المجددون في التشكيك بأهمية الوزن التقليدي، وقدّموا قوالب جديدة لا تلتزم بالأوزان الخليلية، ولا تلتزم بالبحر الكامل او بالبحور الممتزجة كما كان يفعل الرومنطيقيون واصحاب الموشحات. وشعراء قصيدة النثر اعتمدوا على تحطيم هيبة الوزن بفعل الخروج على الاوزان التقليدية. هذا العنصر كان يمكن في مرحلة ازدهار ادبي ان يسمح بظهور قصيدة النثر، ولكن في نطاق معقول، هو النطاق الذي تحتله كل حركة جديدة. الحركة الجديدة لا تستطيع ان تكون حركة سائدة، إنّما يمكنها ان تنشأ إلى جانب الحركة السائدة لانها لاتزال تبحث عن جماهير وعن ملامح وشرعية. ولكن الذي حدث ان قصيدة النثر ظهرت في مرحلة انحسار كما سبق أن ذكرت، فسادت في ظلّ غياب النقد، وغياب الجمهور الفعلي لأي شكل أدبي. فالجمهور القوي في نظري هو الذي يختار، يدافع عما يحب ويرفض ما لا يحب. لكنّ هذا الجمهور غائب اليوم، وحالة السلبية السائدة في كل المجالات انعكست في المجال الادبي. تستطيع أن تقول أو تكتب كل ما تريد، ولن تجد من يراجعك او يحاسبك، من يناقشك او ينقدك او يخالفك أو يسألك: ماذا تقول؟ ما تريد؟ أنت إذاً ضد قصيدة النثر؟ - لا أقف ضد قصيدة النثر، بمعنى أنني لا استطيع ان اشن عليها حرباً، انما فقط استطيع ان اساهم في مناقشتها. فأنا أيضا أعتقد أن الشاعر حر، يكتب نثراً أو يكتب وزناً. الشاعر وغير الشاعر! انا لا استطيع أن اصدر قرارا بالحرمان، او اعتبر ان موقفي الشخصي او ذوقي الشخصي هو الذي يجب ان يسود. بل انني أحترم بعض النماذج في قصيدة النثر، وأقرأها بتعاطف وحب، وقد أتأثر بها. قصيدة النثر وجدت وظهرت في آداب عالمية عظيمة، لكنّها لم تكن وحدها ابداً. في الأدب الفرنسي هناك بودلير وبول فاليري، وهناك أراغون الذي كتب شعراً موزوناً. والآن نجد عودة الى الوزن والقافية. الحركات الادبية النشيطة المزدهرة تملك قوانين داخلية تساعدها على الانضباط والتوازن والتماسك والحفاظ على تراثها، وتشحنها بقدرة دائمة على التجدّد بعيداً عن التحجّر والجمود. هذه القوانين تساعد كل حركة أدبية على ان تتمثل اعظم ما في تراثها وتغامر في الوقت نفسه باكتشاف مناطق جديدة سرعان ما تتملّكها وتضيفها إلى تراثها. هكذا تصل أي حركة أدبية في النهاية إلى التوازن الضروري. لست في ما يخصّني في موقع الرافض. أحاول فقط أن أستخلص العوامل التي أدّت إلى سيادة قصيدة النثر وتحولها إلى حركة طائشة، من ظهور حركة التجديد في الوزن إلى الضعف المسيطر على الحركة الادبية الراهنة. لماذا ضعفت الحركة الادبية في مصر؟ - الأجيال الجديدة لم تعد تتقن أصول اللغة العربية، وهي لا تقرأ التراث. كما أنّها لا تقرأ في اللغات الاجنبية، بل تتعلم من خلال الصحف. والصحف لا تستطيع ان تقدم زادا كافياً لقيام تجارب وحركات جديدة. لا يستطيع أحد من شعراء قصيدة النثر أن ينظم قصيدة موزونة، ليقول بعد ذلك إنّه لا يجد الوزن ضرورياً او يعتبره حاجزاً يعيق شعوره ورؤياه، ولذلك عمد إلى التخلّي عنه. لهذا السبب أنت لا تنشر قصيدة النثر في مجلة "ابداع" التي ترأس تحريرها؟ - كنت انشرها والان اصبحت ميالاً الى عدم نشرها. أين الضرر من ذلك؟ - ليست قصيدة النثر ضرراً، وإذا قرأتها فلن أصاب بالصداع. المشكلة أنها قائمة على اساس وهم، هو ان الوزن غير ضروري. هذا الوهم اذا استبد بمواهب حقيقية افسدها، واذا فسدت المواهب الحقيقية فنحن لن يكون لدينا شعراء. هذا هو الخطر، وربّما انتظرنا عقوداً قبل أن يظهر فينا شاعر، أو حركة أدبية غنية كالتي عرفناها في الماضي. كتبت يوماً عمن اسميتهم "احفاد شوقي" من شعراء السبعينات، وقلت رأيك فيهم بصراحة. ولكن تحليلك الآن يوحي أن الشعر في مصر يعيش مأزقاً وتراجعاً... - هناك مأزق يعاني منه الشعر قبل سواه. فهذا الشكل الابداعي يتطلّب معرفة لغوية فائقة. قد يستطيع الناثر ان يكتب من دون إلمام معمّق بالنحو، لأن القصة مثلاً، يمكن اخضاعها لمراجعة مصحح. لكن القصيدة نص أكثر دقّة، فالمصحح اذا وضع الواو بدلاً من الياء مثلا قد يفسد القافية. ثم إن الوزن في الشعر يقوم على اساس النحو، اذا غيرت النحو يتغير الوزن. لا يستطيع الشاعر إذاً أن يكتب قصيدة جيدة إذا كان جاهلاً باللغة على هذا المستوى البسيط، مستوى النحو والعروض. المطلوب من الشاعر هو الالمام والضلوع باللغة الى درجة الابداع فيها، والتجديد، وبعث المفردات الميتة واعطاؤها روحا جديدة ومعاني جديدة. والمطلوب منه التجديد في النحو نفسه، لأن الشعراء يجددون في تركيب الجملة. والشاعر المتمكن من اللغة له سليقة لغوية، المسألة تتجاوز المعرفة الى السليقة. الشاعر يعيد ابتكار اللغة، كأنه هو أول من يتحدث بها، فهي ترشح من روحه وتتنفّس عبر مسامه. واليوم لم يعد يسع المدرسة، ولا الكتب والمجلات والصحف، أن تهيّئ الشاعر كي يحتل هذا الموقع. لا بد إذاً ان يكون الشعر في مأزق، وهذا هو مأزق الشعر في مصر. غياب سلطة النقد ألم يتوصّل النقد إلى تشخيص المشاكل التي يعاني منها المشهد الشعري؟ - لعلّ من أسباب المأزق القائم عدم وجود نقد نزيه ومعمّق. والمشهد الشعري المصري لا يختلف في ملامحه الاساسية عن المشهد الشعري العربي بشكل عام. فكيفما تلفّت ستجد بعض الأصوات المميّزة يحيط بها كمّ هائل من أشباه الأدباء وأنصاف الشعراء. في القاهرة وحدها هواة كتابة الشعر يعدون بالآلاف، فكيف إذا ذهبت إلى الأقاليم؟ يكفي أن تتابع مسابقات قصور الثقافة في الشعر. والنقد هو الذي يستطيع ان يكتشف الموهبة الحقيقية، بحيث لا يكتفي بتقديمها بل يمضي في دفعها إلى الأمام ويساعدها على احتلال المكانة التي تستحقّها، بحيث يتحول الشاعر الى نجم. ما الذي ينقصها؟ ينقصنا النجوم، لا يوجد عندنا نجوم كثيرة، لماذا نحن لا نملك عدداً كافياً من النجوم في الشعر؟ لأنه لا يوجد نقد. النقد الصحافي نقد شخصي - هذا أقلّ ما يمكن قوله! - يعتمد على العلاقات الشخصية. وهناك اليوم خطر جديد يتجسّد في تحوّل بعض الصحافيين إلى كتاب، ضامنين بما يملكون من نفوذ اعلامي ومن سلطة على صفحات الصحف، أنّهم قادرون على تسخير النقد لحسابهم. لا مانع طبعاً من أن يكون الصحافي شاعراً أو الشاعر صحافياً، ولكن هناك فرقاً بين الأديب الموهوب والآخر الذي يمارس ارهاباً ثقافياً كي يفرض نفسه! وهنا أيضاً يظهر فقدان المعايير، وغياب سلطة النقد. فالناقد هو الوسيط والحكم الذي يسلّط الأضواء على قيمة أثر ابداعي معيّن أو يضع يده على آفاته وعيوبه. وهذا الناقد غير موجود في مصر الآن للاسف الشديد. هل تنعكس نظرتك على مستوى النشر والاصدارات؟ - عندي تصور غير دقيق، لانني لا املك ارقاماً. اعتقد ان الشعر يصدر الآن عن "هيئة الكتاب" في اصدارات عادية للشعراء المعروفين، كما تنشر سلسلة "اشراقات" نتاج الشباب. وهناك دور أخرى تنشر الشعر مثل "دار المستقبل" و"شرقيات"، اضافة إلى الصحف والدوريات "ابداع"، "القاهرة"، "أدب ونقد"، "إخبار الادب"، "الهلال".... واعتقد في كلّ الأحوال أن نسبة 80 إلى 90 في المئة من هذه الاصدارات، في أقلّ تعديل، لا علاقة لها بالشعر. رغم هذا الا توجد قصيدة متميزة، وأصوات لها احترامها في الشعر المصري؟ - هناك شعراء طبعاً، مثل: محمد ابراهيم ابو سنة، حسن طلب، عبد المنعم رمضان، فاروق شوشة، ومحمد عفيفي مطر... مصر ليست خالية من الشعراء، بل أن فيها عدداً كبيراً من الشعراء. ولكن لا توجد حركة شعرية، ولا توجد حركة نقدية، ولا يوجد سعي قوي لانهاض الشعر. اجهزة الاعلام المختلفة لا تسعى الى هذا ولا يهمها شيء، وقصيدة النثر تنشر من دون ان يعرف المسؤول عن الصفحة الثقافية انها قصيدة نثر، وقصيدة الوزن تنشر وهو لا يعرف انها موزونة. وكل هذا تبديد للطاقات وتدمير للحياة الادبية في مصر، فيما نستطيع أن نجد في الارياف والاقاليم المصرية شعراء جيّدين بالعشرات. هل أنت من الذين يعتقدون أن القصيدة المصرية تخلت عن مسؤوليتها الاجتماعية والسياسية في سبيل مسؤولية الشكل؟ - طبعاً. يوجد سعي إلى التخلّي لدى بعض الشعراء ممن يعتبرون أن اهتمامهم بقضايا الجماعة وبالقضايا العامة، يجعلهم يكتبون شعراً رديئاً، او يحرمهم من الفوز باهتمام النقاد، بعدما شاعت بعض المناهج النقدية التي لا تلقى بالاً برسالة القصيدة، متعاملة مع الهمّ الانساني في الشعر بنظرة لامبالية. وإذا بهذه المناهج تروح تتحدّث عن لغة القصيدة، وتحلل اصواتها، وتحولها الى معجم فقط. أو تقف مطوّلاً عند عمل الواو في هذه القصيدة... هكذا أصبح الشاعر يتبرأ من مواقفه، ويتحاشى أن يظهر على علاقة بأمته ومشاكلها، فهذا كلام قديم انتهى! أليس الشاعر انساناً ومواطناً يتأثر بما يحدث حوله؟ ولكنه اليوم يقاوم هذا التأثّر، فتكون النتيجة انه يزيف مشاعره لكي يرضي الناقد، ويقدّم لنا في النهاية قصيدة باردة، قصيدة ميتة قبل ان تولد. "معارك التنوير" كنت ولا تزال طرفاً أساسياً في "معارك التنوير" التي تخاض اليوم في مصر والعالم العربي. إلى أين وصل التنويريون الجدد، ولماذا يبدو للبعض أن المعركة خمدت؟ وما هو الحصاد؟ - وصلت المواجهة إلى نوع من الجمود، كما يحدث غالباً في مصر، او الى منطقة لا يمكن الحسم فيها، بسبب آليات الصراع وتعقيداته، وتركيبة القوى والمجتمع والسلطة. فكرة وجود قوة واحدة فكرة زائفة. الحقيقة أن هناك دائما قوتين. وفي وقت ازدهار احدى القوتين تميل هذه القوة المزدهرة الى انكار وجود القوة الاخرى تماما، ثم تفاجأ بأنها موجودة، وعندئذ تبدأ المعركة. قبل ان تكتمل المعركة وتصل الى نهايتها بانتصار حاسم لاحدى القوتين يتم نوع من الهدنة. بدلاً من استعمال الاسلحة النارية يميل كل من الطرفين إلى اختبار قوة الآخر. هذا ما يحصل الآن. هناك تصاعد شديد لقوى الظلام في مصر، وهذا التصاعد هو الذي ادى الى تجنيد معظم قوى المجتمع. لا شك أن الصحافة وأجهزة الاعلام والمؤسسات المختلفة ساهمت في هذا. الدول المحيطة كان لها دور أيضاً، والظروف العالمية كذلك في هذا. وهذا التصاعد الرهيب لم يكن مجرد تصاعد فكري، بل خدمته ظروف مادية. وضع اقتصادي متدن جداً وشباب بلا عمل غير قادرين على السكن والزواج، وبالتالي اصبح هناك رأي عام مع هذه القوى ويمكن ان يساندها، أو أن يشكّل على الأقل قطباً سلبياً في المعركة. والمد الظلامي وصل الى حد الاغتيال في الشارع ومنع الكتب ومصادرة القصائد ومصادرة الصور واضطهاد المفكّرين ومطاردة الفن واحراق المسارح وتكفير المجتمع، وغير ذلك من خطابات التهديد. لكن المجتمع المصري لا يمكن ان ينصاع الى هذه القوى، فهي مجرد اتجاه بدليل انها تكفر المجتمع. معنى هذا ان المجتمع ضد هذه القوى. المجتمع بصورته الراهنة لا يمكن ان يقبل فكرة سيادة هذه القوى. لدينا تراث تنويري هائل وعظيم في مصر، كان لابد ان نرجع اليه. انت لا تعمل من فراغ، لان مصر بداية من 1798 بعد صراعها وصدامها مع بونابرت خرجت الى العالم. مصر سنة 1865 كان لديها برلمان. ومصر من سنة 1881 عندها دستور. ومصر تعرف مفكري التنوير في اوروبا عن طريق الطهطاوي اي من ثلاثينات واربعينات القرن الماضي. فضلا عن انتاج طه حسين والعقاد وعلي عبد الرازق ومحمد عبده ولطفي السيد... هذا التراث لا يضيع، يتراجع ولكنه لا يضيع. بدأت معركتنا ضد القوى الظلامية على هذه الاسس وخضناها، فلا بد أن تتراجع قوى الظلام، وتقبل بسيادة منطق المجتمع المدني. نحن لم نسكت إذاً، ولكن المجتمع المصري يميل على ما يبدو الى عدم الحسم في هذه المسألة. أنت تلاحظ الان ان ضرب قوى التنوير يأتي عن طريق استخدام المؤسسات الشرعية: رفع قضايا على الدكتور نصر ابو زيد وعلى المخرج يوسف شاهين وعلى مجلة روز اليوسف، الى آخره، اصبحوا يلجأون الى هذا بدلا من ضرب النار. لكن المعركة لم تنته. والتنويريون ايضا لم يعودوا خافتي الاصوات مثلما كان الامر منذ خمس سنوات. لا أطعن في وطنيّة أحد! يثير التطبيع الثقافي مع اسرائيل مواجهة مفتوحة منذ سنوات. ما هو موقفك من هذه القضيّة الشائكة؟ - اعتقد ان عمل المثقفين المصريين والعرب هو الاعلان عن الحق، الثبات عند الحق، الدفاع عن الحق كاملا، الحق الكامل. مثل السياسيين؟ - بل على عكسهم. السياسيون يتفاوضون في الممكن، باعتبار ان السياسة هي فن الممكن. لكن الثقافة ليست فن الممكن بل فن المثال، والحق والصواب والعدالة. ولذلك انا ارفض زيارة اسرائيل واطلب من المثقفين المصريين ايضا ان يرفضوها، من دون ان اقول ان المثقف الزائر لاسرائيل خائن. فكل واحد فينا له اجتهاد. موقفي واضح إذاً، لكنّني لا أطعن في وطنية الذين زاروا إسرائيل، ولا اسقط جنسياتهم. ولا ارى ضرورة لأن يقوم "اتحاد الكتاب" او "نقابة الصحافيين"، أو أي هيئة او مؤسسة بمعاقبة اعضائها اذا زاروا اسرائيل. اعتقد ان هذا لا يفيد. قد يكون من عمل المسؤول الحكومي ان يبحث في العلاقات الثقافية مع اسرائيل. فأنا لا انكر أن الدولة المصرية عندها علاقات مع اسرائيل. ما يهمّنا هنا هو المثقف المنتج، وهنا أيضاً لا أنكر أن بعض النشاطات الثقافية قد يبدو ضرورياً، وقد يفرض على بعض المثقفين المصريين مبادرات تدخل في اطار التطبيع، فهؤلاء من واجبهم أن يمارسوا هذا. مثلا استاذ ادب عبري او دراسات عبرية لا بد أنه أن يزور اسرائيل او يلتقي اسرائيليين في مؤتمرات. لكنّني لا اتصور ان عمل الشاعر او الروائي يستلزم زيارة اسرائيل او استقبال اسرائيليين. انا لا اتحدث عن اعلانات، لا بد أن تشعر هؤلاء السادة في اسرائيل بانك لك حق تطالب به ولن تنساه، ولن تنتهي المشكلة الا اذا كان لها حل حقيقي. والمشكلة هي قضيّة فلسطين. ولا اتصور ان مجرد قيام دولة فلسطينية على كيلو مترات عدة من ارض فلسطين يحل المشكلة. توجد معركة حول المجلات التي تصدرها وزارة الثقافة. لماذا هذا الجدل، وما هي المشاكل الحقيقية من موقعك كرئيس تحرير "ابداع" وهي إحدى هذه المجلات؟ - انا اسمع كلاما وتصريحات تطلق من دون تفكير، بدليل ان التصريح الذي يطلق اليوم يعود المسؤول فيه غدا او يعدله او يصرح بانه لم ينشر كما كان يريد الى غير ذلك. ما معنى هذا؟ معنى هذا انه لا يوجد تخطيط مسبق. لا أرى سبباً لاثارة ملف المجلات الثقافية الآن، الا ان المسألة دخلت في حلقة من التصريحات. كما قيل إن معرض الكتاب سيتولاه القطاع الخاص، وإن هناك وجهة نظر في مجلات "هيئة الكتاب" تقدّمها لجنة من الكتاب والمفكرين. وسمعنا ان هناك من اوصى بدمج مجلتي "القاهرة" و"ابداع" في مجلة واحدة، وسمعت ان لجنة من كامل زهيري ورجاء النقاش ولطفي الخولي هي التي قررت موضوع الدمج. وسمعنا ايضا ان زهيري والنقاش لم يحضرا اجتماع اللجنة. واذا كانت فكرة الخولي فهو ليس لجنة انما يعبر عن رأيه الشخصي. المجلات الثقافية الصادرة عن "هيئة الكتاب" في أحسن أحوالها الآن. والمشكلة الموجودة حاليا مالية وتنشأ بسبب الفرق الكبير بين كلفة النسخة الواحدة وسعر مبيعها. هذا الفرق هو 150 قرشا في حالة "ابداع"، وثمانية جنيهات في حالة "فصول". ونحن بحاجة الى النظر في وسائل تقليل هذا الفرق بين الكلفة والمبيع. أما أغرب العلاجات المقترحة، فهو تقليل التوزيع وخفض الكمية المطبوعة! مؤلفاته خلال مسيرته الطويلة أصدر أحمد عبد المعطي حجازي ست مجموعات شعرية هي "مدينة بلا قلب" 1959، "أوراس" 1959، "لم يبق إلا الاعتراف" 1965، "مرثية للعمر الجميل" 1972، "كائنات مملكة الليل" 1979 و"أشجار الاسمنت" 1989. أما قصائده الأخيرة فسوف تصدر في مجموعة خلال الموسم المقبل. له مؤلفات أخرى عدّة بينها: - "محمد وهؤلاء" عن سيرة النبي في كتابات المعاصرين سنة 1970. - "مختارات من شعر ناجي" مع دراسة سنة 1972. - "مختارات من شعر مطران" مع دراسة سنة 1975. - "عروبة مصر" سنة 1978. - "حديث الثلاثاء" من جزأين 85 و1987. - "مدن الآخرين" ترجمة قصائد شعراء أجانب عن المدينة 30 قصيدة عن الفرنسية سنة 1988. - "الشعر رفيقي" عن تجربته الشعرية، دراسة واعترافات سنة 1990. - "أسئلة الشعر" سنة 1992 من البارودي إلى أمل دنقل. - أحفاد شوقي" سنة 1993.