«من أي بحر عصي الريح تطلبه * إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه» هذا البيت من مطلع قصيدة معروفة لأحمد عبدالمعطي حجازي يهجو فيها عباس محمود العقاد. القصيدة نشرت عام 1961، ومناسبتها هي رفض العقاد شعر التفعيلة الذي كان حجازي أحد رواده في أواسط الخمسينات من القرن الماضي. رفض العقاد قصائد تقدم بها رواد الحداثة الشعرية مثل حجازي وصلاح عبدالصبور وغيرهما، وأحال القصائد التي تقدموا بها لمسابقة شعرية إلى لجنة النثر بعيداً عن لجنة الشعر التي كان يترأسها. وفي حين كان العقاد في ذلك الوقت علماً ضخماً في الحياة الأدبية والثقافية المصرية والعربية، كان حجازي شاباً لم يكد يبلغ ال25 من عمره، فجاء هجاؤه محمولاً على فورة الشباب وحماسة الصبا، كما اعترف حجازي فيما بعد، أي بعد أن بلغ من العمر ما كان عليه العقاد من العمر حين نظمت القصيدة. موقف العقاد الحاد ورد فعل حجازي الأكثر حدة ليسا حدثين معزولين، وإنما هما في تقديري حاملان لمؤشرات ثقافية مهمة يمكن من خلالهما استقراء بعض ملامح التكوين الثقافي العربي من خلال الإبداع الشعري والموقف منه. في رد فعل حجازي أو هجائه، غضب من تهمة رآها مبطنة في موقف العقاد، وهي أن شعراء التفعيلة، أو ما عرف طويلاً بالشعر الحر أو شعر الحداثة، عاجزون عن كتابة قصيدة بيتية أو عمودية، كما هو المصطلح الشائع. تحمل القصيدة ذلك الغضب ليس فقط من خلال نظم حجازي لقصيدة من النوع الذي اتهم ضمنياً بالعجز عن إنتاجه، وإنما في السخرية الماثلة في استعمال البحر الذي نظمت عليه القصيدة: «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن * مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن» ولم يتوقف حجازي عند إثبات تمكنه من النظم ومعرفته بالضبط بما ينظم، وإنما بتذكير العقاد أنه هو وزملاؤه الشعراء الشبان هم ورثة الشعر وليس العقاد. فبعد بيت التفاعيل ترد إشارته إلى البحر موظفاً الدلالة بمعنييها، الفعلي «بحر الشعر» والمجازي «بحر الماء»: هذا هو البحر، إن مسته مركبنا/ صفت لنا ريحه وامتد مسربه/ وإن أردنا نفذنا منه نحو مدى/ إن جدّت الريح فيه جد مركبه/ لكننا رغم بعد الشط نذكره/ هذا القديم الذي لم تبل أضربه/ فنحن أبناؤه حزنا خزائنه/ نروي على الناس ما فيه وننسبه/ ونعرف الصدق في الديوان ما خفقت/ له القلوب، وما نا مت نكذبه». وفي البيت الأخير لمز واضح بالعقاد الذي شكك البعض أو ربما الكثيرون في قدرة ما نظم من شعر على تحريك القلوب، بوصفه نظماً أقرب إلى برود العقل منه إلى حيوية العاطفة. ما يسترعي الانتباه هنا هو ما تحمله الأبيات من سرعة اللجوء إلى الشعر الموزون المقفى من شاعر أو شعراء كانوا يطالبون بتجاوز مرحلة القصيدة العمودية إلى شعر حر أو شعر تفعيلة رأوه أقدر على استيعاب متغيرات المرحلة ورؤى الإنسان، إلى غير ذلك من مرتكزات التحديث الشعري العربي. هذه العودة التي ستبدو تكتيكية فقط أراها أبعد من ذلك، فالقصيدة العمودية ظلت وفي تقديري ستظل قوة ضاربة في تاريخ الشعر العربي مهما ابتدعت الأشكال وتغيرت المفاهيم. وهذا لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه حكم قيمي، أي أنه لا علاقة له بقيمة الأشكال المتصارعة، فالقيمة هي في ما يتحقق ضمن إطار الشكل، وليس الشكل نفسه، أي ما يبدعه الشاعر في ما يختار من شكل شعري. القيمة في كيفية استثمار الأدوات سواء أكانت شكلاً أم لغة أم غير ذلك. ما أقصد إليه هنا هو الدلالات الثقافية ليس إلا. وهذه الدلالات تعيدنا إلى تاريخ الشعر العربي حيث يسترعي الانتباه ثبات مصطلح «العمودية» على رغم خروج الكثير من الشعر العربي عليه منذ فترة باكرة. فالعمود، كما استنبطه المرزوقي، هو مجموع العناصر التي تواضع العرب على أن من المستحسن اجتماعها في القصيدة، ومنها شرف المعنى وجزالة اللفظ والإصابة في الوصف، إلى غير ذلك مما هو معروف لدى دارسي النقد العربي القديم. وكان أحد الذين خرجوا على بعض تلك العناصر أبو تمام وأبو نواس وابن الرومي وغيرهم، بل إن من الصعب العثور على شاعر كبير التزم تلك العمودية. ما التزم به الشعراء هو الوزن والقافية بناء على بحور الشعر المعروفة، وإن نوّع بعضهم في تشكيلها وتشطيرها إلى غير ذلك، كما في الموشحات الأندلسية. *** هذا الصراع بين ثابت ومتحول، كما في تعبير أدونيس، عرفته ثقافات أخرى كثيرة ومنها الثقافات الغربية. نجده في موقف الاتباعيين في نهاية القرن ال18 من الحركة الرومانسية، حين جاء شعراء مثل وزردزورث وكيتس ليخرجوا على النمط السائد آنذاك، وهو نمط اتبع فيه شعراء القرن السابق شكل القصيدة الكلاسيكية أو اللاتينية القديمة. كما نجده في موقف أهل القرن ال19 حين جاءت حداثة القرن ال20 على يد عزرا باوند وت. س. إليوت لتقلب موازين القصيدة فتخرج على عمود آخر. ولا أشك في أن سياقات أدبية أخرى في أنحاء أخرى من العالم شهدت ما يشبه ذلك من خروج وغضب على الخارجين. غير أن حياة الفنون جميعاً - ومنها الشعر - هي في ذلك الخروج حين يغدو ضرورياً... ما يلفت الانتباه أن أحمد عبدالمعطي حجازي نفسه عرف بمعارضته للتجديد الذي أتى به شعراء قصيدة النثر، ونشأت بينه وبينهم خصومة تعيد للأذهان موقف العقاد منه، وقبل ذلك موقف بعض النقاد القدامي من أشكال سابقة من التجديد. وكان يمكن لأي من الشعراء الجدد أن يقول لحجازي ما قاله يوماً للعقاد: «إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه». أما السبب وراء ذلك كله فلا شك لدي في أنه ينصب على موقع القصيدة في الموروث الثقافي العربي، ورمزيتها الطاغية على الموقف من تلك الثقافة وما تعنيه وكيفية الانتماء إليها. القصيدة تكتسب بعداً يقترب بها من الهوية ليصير الخروج على شكلها القار المتوارث، كما يراه الكثيرون، خروجاً على الهوية العربية وعبثاً بمستقبل الثقافة. من هنا جاء اتصال القصيدة العمودية بمفهوم شاع في العصر الحديث وإن كان موجوداً ضمنياً في الماضي سواء في الثقافة العربية أم في الغرب حيث تطور ذلك المفهوم في العقود الأخيرة. إنه مفهوم «المعتمد» أو «القانون» The Canon، وهو مفهوم ديني مسيحي أصلاً يشير إلى الكتب المعتمدة بوصفها الصحاح بين الأناجيل. وانتقل ذلك المفهوم إلى الدراسات الأدبية ليشير إلى ما يعد مرجعاً تقارن به الأعمال، فيقاس الجديد على القديم ويقوم على ذلك الأساس. فهناك معتمد للنسخ من أعمال شكسبير مثلاً، اتفق المتخصصون على أنها الأعمال الأساسية، ويقوّم غيرها من النسخ بالمقارنة معها. وذلك قريب جداً من مفهوم العمود في الشعر العربي الذي صاغه المرزوقي قائلاً إنه صاغه «ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث... ويعلم الفرق بين المصنوع والمطبوع». ومثلما اعترى المعتمد الشعري العربي كثير من الخلاف، فقد رافق ذلك المفهوم في الدراسات النقدية والثقافية الغربية خلاف كثير، خلاف حول ما تضمنه في نظر الكثيرين من محاولة لتثبيت أعمال معينة على حساب أخرى بدوافع لا تخلو من تحيز ثقافي أو فكري آيديولوجي. الشاعر الأرلندي الكبير وليم بتلر ييتس، الذي عده ت. س. إليوت كبير شعراء الإنكليزية في عصره (توفي ييتس عام 1939، ونال نوبل عام 1923) هاجم في إحدى قصائده الأخيرة بعض توجهات التحديث الشعري ناصحاً شعراء بلاده على النحو التالي: يا شعراء أرلندا، تعلموا صنعتكم/تغنوا بكل ما هو مصوغ جيداً/احتقروا ذلك الذي يتنامى الآن/لا شكل له من القمة للقاع/قلوبهم التي نسيت ورؤوسهم/ الناتج الدنيء للأسرّة الدنيئة». (من قصيدة «تحت بن بلبن» وبن بلبن جبل في أرلندا دفن الشاعر بالقرب منه). هذا التذمر من الجديد ليس حكراً إذاً على ثقافة بعينها، وإنما هو ردة فعل طبيعية تجاه التغيير الذي يخشى منه على القيم المستقرة للجمال والقواعد القارة للدلالة. ييتس يرى الجديد، مما كان يكتبه إليوت وغيره من رواد الحداثة الشعرية في مطلع القرن وهم الجيل الأصغر من جيل ييتس. لكن التذمر يكون أحياناً مدفوعاً بغضب شخصي ثم يتحول إلى الشعر نفسه، كما حدث لحجازي والعقاد، وكما حدث في وقت مقارب للجواهري، أحد أساطين القصيدة العمودية. *** في السعودية حين انتشرت قصيدة التفعيلة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ظهرت التهم وكان من أشدها ما أعلنه شاعر سوري كان يعمل معلماً في الرياض هو أحمد فرح عقيلان بتأليفه كتاباً عنوانه: «جناية الشعر الحر». الجناية كانت جناية على اللغة والعقيدة، وبالتالي على الإنسان والمجتمع. لكن الهجوم لم يكن محصوراً ببلد معين، وإنما كان على الخروج على تقاليد النظم الشعري العربي حيثما كان، وانتقى الكاتب أسوأ النماذج ليمثل بها على نصوص تجاوزت جناية العروض إلى جنايات أخرى أشد وطأة. لكن المؤكد أن عقيلان، مثله مثل العقاد والجواهري، مدفوع بالنزعة المحافظة على القيم التقليدية، وأبرزها هوية الثقافة العربية. وبغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك الاعتقاد – وهذا أمر أغفلته هنا انحيازاً للتحليل – فإنه هو نفسه ما تذرع به رافضو تلك النزعة أو المجددون الذين انطلقوا أيضاً من نزعة ترى في التجديد استمراراً لحيوية الثقافة وتأكيداً للهوية. من هنا كانت العودة الدائمة للقصيدة البيتية أو العمودية بوصفها مرجعية ثقافية وميداناً لإثبات الشاعرية عند من يرونها المحك الوحيد لذلك. الكثير من شعراء التفعيلة يحملون القصيدة البيتية في مطلع سيرتهم الشعرية، فهي أول ما كتبوا، وكثير منهم يجعلونها محطة لهم يركنون إليها أو إلى ما يذكر بها (مطلعاً كان أم مقطعاً لنص شعري)، وكثير من شعراء النثر يتكئون على الإيقاع من حين لآخر.