محافظ صبيا يؤدي صلاة الإستسقاء بجامع الراجحي    27 سفيرا يعززون شراكات دولهم مع الشورى    المملكة تشارك في الدورة ال 29 لمؤتمر حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي    مصير غزة بعد هدنة لبنان    في «الوسط والقاع».. جولة «روشن» ال12 تنطلق ب3 مواجهات مثيرة    الداود يبدأ مع الأخضر من «خليجي 26»    1500 طائرة تزيّن سماء الرياض بلوحات مضيئة    «الدرعية لفنون المستقبل» أول مركز للوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا    السعودية ترأس اجتماع المجلس التنفيذي ل«الأرابوساي»    وزير الصحة الصومالي: جلسات مؤتمر التوائم مبهرة    السياحة تساهم ب %10 من الاقتصاد.. و%52 من الناتج المحلي «غير نفطي»    سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    «الكوري» ظلم الهلال    شخصنة المواقف    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    النوم المبكر مواجهة للأمراض    نيمار يقترب ومالكوم يعود    الآسيوي يحقق في أداء حكام لقاء الهلال والسد    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    وفاة المعمر الأكبر في العالم عن 112 عامًا    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «واتساب» تختبر ميزة لحظر الرسائل المزعجة    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبنان : انتفاضة البنزين أمام الخطوط الحمر
نشر في الحياة يوم 17 - 07 - 1995

من اضراب الى اضراب، تفاقم الوضع الاجتماعي في لبنان ليبلغ شفير الانفجار، على رغم ان فصل الصيف ليس الفصل المناسب للتحرك النقابي او المطلبي. ووجدت الحكومة اللبنانية نفسها أمام معادلة صعبة بل مستحيلة، إذا رفعت الأجور فهي مضطرة لزيادة الضرائب، وإذا زادت الضرائب ارتفعت أسعار السلع، ما يهدد بالدوران في حلقة مفرغة، وبالتالي القاء ظلال من الشكوك على خطط الحكومة ومشاريعها الاعمارية.
لكن التخوف الأكبر هو ان تتجاوز الأزمة الاجتماعية "الخطوط الحمر" فتصبح أزمة سياسية… وهنا لبّ المسألة اللبنانية الحالية.
من الصعب معرفة اذا كان هناك فعلاً طرف رابح من زيادة الأجور التي أقرتها حكومة الرئيس رفيق الحريري اخيراً على رواتب موظفي القطاع العام، بمفعول رجعي اعتباراً من مطلع العام الجاري. والأصح، كما قال وزير التربية روبير غانم، البحث، ليس عن طرف رابح او خاسر، بل عن مقدار الخسائر التي أصابت الجميع.
ووفق هذا السلم، قد تكون الحكومة أقل الاطراف تضرراً، اذا ما اخذ في الاعتبار مقدار الكلفة المالية التي سيتوجب عليها تحمّلها، وتصل حسب تقديرات وزارة المال، الى حوالي 230 مليار ليرة 142 مليون دولار، وهو رقم متدن جداً بالمقارنة مع الاكلاف التي كان يتوجب عليها تحمّلها، لو انها أقرّت السلسلة الجديدة للرواتب، كما اقترحتها وزارة الاصلاح الاداري، وتصل الى 460 مليار ليرة 284 مليون دولار، او قررت تلبية مطالب المعلمين، خصوصاً لجهة ردم الهوة التي باتت تفصل رواتبهم عن رواتب اساتذة الجامعة اللبنانية، وهي رواتب مربوطة هي الاخرى برواتب القضاة، ما كان مقدراً ان تصل كلفته الى حوالي 960 مليار ليرة 593 مليون دولار.
وثمة اعتبار آخر يجعل الحكومة الأقل تضرراً، أقله على الصعيد المالي، اذا ما تم احتساب كلفة ال 20 في المئة الجديدة على الرواتب مقارنة بالعائدات التي سيحققها رفع اسعار البنزين بمعدل 36.5 في المئة، وهو ما من شأنه ان يغطي معظم الانفاق الاضافي.
ومع ان التقديرات النهائية لحصيلة رفع اسعار البنزين لم تظهر بعد، على اساس ان معظم الوزراء اضطروا الى الاستعانة بآلاتهم الحاسبة داخل مجلس الوزراء لاحتساب العائد الذي ستوفره زيادة تعرفة المحروقات، الا ان غالبية التقديرات الرسمية والخاصة، تشير الى احتمال تسجيل فائض، نظراً الى ارتفاع الاستهلاك بصورة متواصلة، وان كان الوجه الآخر للعملية هو المزيد من الاستيراد.
ومع ذلك، فان ثمة اجماعاً يشارك فيه حتى الوزراء انفسهم، على ان ميزان الربح والخسارة لدى الحكومة لا يمكن ان يكون مالياً فقط، لاعتبارات عدة، اهمها الحاجة الى استمرار الاستقرار الاجتماعي، وعجز غالبية اللبنانيين عن تحمّل اعباء اضافية، اذا ما اخذ في الاعتبار ان الزيادة التي لحقت بأسعار البنزين ستصيب اسعار غالبية الخدمات والسلع الاخرى، وهو ما حصل قبل ان يجف حبر قرارات مجلس الوزراء، عندما ضاعف سائقو سيارات الاجرة تعرفاتهم، وعمدت المحلات التجارية الى رفع اسعار السلع بنسب تراوحت بين 5 و15 في المئة تحسباً لارتفاع اسعار النقل.
والمفارقة كما يقول احد الاقتصاديين، هي ان جميع اللبنانيين بدأوا يدفعون "ثمن" زيادة ستحصل عليها فئة منهم، لكن بعد اشهر، على اعتبار ان الموظفين لن يقبضوا الزيادات الجديدة قبل آخر العام الجاري، في حين ان الاسعار ارتفعت في اللحظة نفسها التي أقرتها فيها الحكومة.
واتخذت الحكومة قراراً آخر يرمي الى "تحرير" اسعار "الدولار الجمركي" من 800 الى 1600 ليرة، ما من شأنه ان يساهم هو الآخر في رفع اسعار السلع، خصوصاً المستوردة منها بما لا يقل عن 20 في المئة. الا ان المؤشرات التي ظهرت حتى الآن تجمع على ان الاتحاد العمالي العام، مدعوماً من قوى نيابية وسياسية ونقابية وشعبية قد يتجاوز في تحركه المقبل، الخطوط الحمر التي كان التزمها طوال الاشهر الماضية، عندما اكتفى بالبيانات والتحذيرات من دون خطوات عملية، مثل الاضراب والتظاهر، وهي خطوات قد تشكل في نظر جهات نافذة اخلالاً بالامن، ما يتوجب منعه.
تمرير اوضاع سياسية
وفي الواقع، تشير غالبية التوقعات الى ان "صيف" الحكومة قد يكون اكثر اشتعالاً من اية فترة سابقة على رغم سخونة الملفات الاخرى، هي سياسية في الدرجة الاولى، وتتعلق بالاستحقاق الرئاسي في تشرين الاول اكتوبر المقبل، وبمفاوضات السلام مع اسرائيل، الى الحدّ الذي يدفع كثيرين الى الاعتقاد بأن "تسخين" الوضع الاجتماعي، ربما كان هدفه غير المعلن "تمرير" اوضاع سياسية، قد لا يكون من السهل "تمريرها" في ظل ظروف عادية ومستقرة.
غضب الاتحاد العمالي
لكن رئيس الاتحاد العمالي العام السيد الياس ابو رزق بدا قاطعاً على هذا الصعيد عندما قال ل "الوسط" "نحن لا نشتغل سياسة، وتوجه الاتحاد لا علاقة له بخلفيات سياسية، اننا في ردة فعل على الدولة التي فتحت النار على الشعب، ونحن مضطرون للدفاع عن الطبقة العاملة في لبنان".
وعندما سألناه عن مسألة الخطوط الحمر رد بأن على الحكومة ان تعرف هذه الخطوط، فهي "افتعلت المشكلة وعليها ان تتراجع". ووصف قرار زيادة الضرائب بأنه "جائر وعشوائي وضد مصالح الشعب وخطر جداً، وهو اذا مرّ سيكون مقدمة لتمرير قرارات اخطر باتجاه فرض رسوم وضرائب جديدة" وحذر ابو رزق من "الغاء قانون الايجارات القديم ورمي الناس في الشارع".
اما الحل الذي يرتأيه اتحاد العمال فيحدده رئيسه بست نقاط:
1 - تحصيل الحقوق المسيبة للدولة التي يهيمن عليها الازلام والمحاسيب، من الناقورة الى النهر الكبير وهي الاملاك البحرية.
2 - استرجاع صندوق المحروقات من الشركات الخاصة وتشغيل المصافي.
3 - اعادة تطبيق الضريبة التصاعدية، اذ ليس منطقياً ولا عادلاً ان من يربح مليار دولار يدفع 10 في المئة، ومن يربح مئة ليرة يدفع 10 في المئة.
4 - استيفاء رسوم مخالفات البناء التي تدرّ اموالاً طائلة.
5 - فرض ضرائب على شركة سوليدير، اذ لا يفهم المواطنون لماذا أُعفيت سوليدير من دفع الضرائب.
6 - خفض الفوائد على الدين العام الذي هو بنسبة 20 في المئة.
واتهم ابو رزق الدولة، خصوصاً الحكومة الحالية، بأنها "لا تريد التعاطي مع اي ملف في العمق وبطريقة علمية وموضوعية، بل هي تبحث عن الحل الهين مع الناس المعتّرين".
وبدا ان هناك شبه اجماع على ان الحكومة ارتكبت خطأ كبيراً ليس واضحاً اذا كان هناك مجال لتصحيحه، فلا الاكتفاء بزيادة 20 في المئة على رواتب موظفي القطاع العام بديلاً للسلسلة الجديدة للرواتب، يلغي ازمة العجز في الموازنة، ولا زيادة الرسوم على السلع المصنفة كمالية، مثل الكافيار والسومون، ستقنع المواطنين بأن الحكومة تسعى الى سياسة اجتماعية اكثر عدلاً.
فقبل ان يقرر مجلس الوزراء اللبناني زيادة اجور موظفي القطاع العام بنسبة 20 في المئة ابتداء من اول عام 1995 وزيادة سعر صفيحة البنزين سعة 20 ليتراً بمقدار ثلاثة آلاف ليرة لتصل الى 11600 ليرة 7 دولارات عرض حاكم مصرف لبنان السيد رياض سلامة اهم الانجازات المالية والنقدية التي تحققت في عهد حكومة الرئيس رفيق الحريري، مشدداً على السيطرة على التضخم كأهم انجاز مالي - اقتصادي، اذ تراجعت نسبته من 120 في المئة عام 1992 الى 8.5 في المئة خلال الفترة الممتدة من ايار مايو 1994 الى ايار 1995، وتوقع حاكم مصرف لبنان ان تبلغ نسبة التضخم طيلة عام 1995 بين 10 و11 في المئة، مع نسبة نمو تقارب 7 في المئة.
ويبدو ان هذا "الانجاز الكبير" طمأن حكومة الحريري الى عدم وجود مخاطر للتضخم القائم في لبنان، مع العلم ان هذه المخاطر تجتاح حالياً معظم بلدان العالم، الامر الذي شجع الحكومة على اتخاذ قرار زيادة الاجور للقطاع العام وزيادة سعر صفيحة البنزين بنسبة 34.8 في المئة.
حوار الطرشان
ولكن ما هو تأثير هذا القرار على التضخم؟
في مطلع كل سنة يطرح موضوع زيادة الاجور على بساط البحث بين فرقاء العمل الثلاثة: الدولة واصحاب العمل والعمال. واذا كان العمال يطالبون دائماً بزيادة الاجور بنسبة غلاء المعيشة، فان اصحاب العمل يرفضون ذلك، اما الدولة وعلى رغم انها فريق حيث تستخدم جيشاً من الموظفين المدنيين والعسكريين الذين يستفيدون من كل زيادة تطرأ على الاجور، فهي تقف عادة كحكم في الحوار الذي يجري في مطلع كل سنة بين اصحاب العمل والعمال.
وفي كل مرة يطالب العمال بزيادة الاجور يقولون انهم يطالبون بهذه الزيادة للتعويض عن خسارة في قيمة الاجور حصلت في العام السابق، ومع اعترافهم بأنها ليست حلاً بل هي "شر لا بد منه"، فهم يتمسكون بضرورة اقراره حتى ولو ادى ذلك الى تنفيذ اضراب عام.
اما اصحاب العمل فيعارضون اي زيادة للاجور مهما كانت نسبتها، ويتمسكون بموقفهم القديم الجديد بترك تحديد الاجور في سوق العمل لعاملي العرض والطلب وللاتفاق الثنائي بين العامل وصاحب العمل، وحسب الكفاءة الانتاجية.
وبعد مفاوضات تصل الدولة الى تسوية باعتماد نسبة غلاء معيشة تتم على اساسها زيادة الاجور في القطاعين العام والخاص، وهذا ما حصل خلال السنوات الاخيرة.
ماذا كانت النتيجة؟
في القطاع الخاص كان تأثير الزيادة في التضخم محدوداً لاسباب عدة، اهمها:
1 - ضآلة نسبة الزيادة بشكل عام، وكذلك ضآلة قيمتها على الشطور العليا من الاجور.
2 - اضطرار المؤسسات المنتجة في مختلف القطاعات الى دفع اجور مرتفعة للاجراء المهرة واصحاب الاختصاص من اجل تأمين انتاجية عالية كماً ونوعاً، وهو امر يفرضه عاملا العرض والطلب في سوق العمل، فضلاً عن قدرة مؤسسات القطاع الخاص على مراقبة الانتاج والعمل على زيادته.
3 - تعميم "الدولرة" على نسبة كبيرة من اجور القطاع الخاص.
رشاوى وسرقات
وساهمت كل هذه العوامل في الحد من تأثير زيادة اجور القطاع الخاص على النقد الوطني، غير ان المشكلة الخطيرة بقيت في اجور القطاع العام التي تضاعفت وساهمت في عوامل التضخم، خصوصاً انها حصلت في ظل استمرار مؤشرات سلبية عدة، منها:
اولاً: خفض انتاجية موظفي الدولة، مع العلم ان 70 في المئة من الموازنة العامة تنفق على الرواتب والاجور.
ثانياً: استمرار الفساد في الادارات واتساع نطاق الرشاوى والسرقات على حساب حقوق الدولة.
ثالثاً: تفاقم العجز المالي نتيجة الواردات وضخامة النفقات واضطرار الدولة الى استمرار الاعتماد على الاقتراض لتمويل انفاقها المتزايد.
ويتبين من خلال هذه المؤشرات مدى اهمية مسؤولية الدولة، كفريق في العمل والانتاج، في المساهمة في عوامل التضخم وزيادة غلاء المعيشة وتدهور سعر صرف الليرة.
انها الدورة "الجهنمية" لاستنزاف الاجور بالاسعار… والاسعار بالاجور. لذلك حذر وزير العمل السابق عبدالله الامين من كل زيادة تطرأ على الاجور، لأنها تساهم في "تدهور الوضع الاقتصادي" واشار الى ان المواطن دائماً يدفع الثمن.
ولكن على رغم ذلك اقدمت حكومة الرئيس الحريري في مطلع العام الحالي على اقرار زيادة لاجور القطاع الخاص بنسبة 20 في المئة، وقررت اخيراً تطبيقها على اجراء القطاع العام.
ومن الطبيعي ان يساهم ذلك في ارتفاع معدلات التضخم، خصوصاً بعد زيادة سعر صفيحة البنزين التي ساهمت بدورها في ارتفاع اسعار مختلف السلع والحاجيات ابتداء من كلفة النقل حيث زادت اجرة الانتقال بالسرفيس 50 في المئة، من 1000 الى 1500 ليرة، وانتهاء ب "كاسيت" الاغاني التي ارتفع سعرها بنسبة 25 في المئة، مع العلم ان اسعار بعض السلع تجاوز ارتفاعها نسبة الخمسين في المئة، ولو كان حاكم مصرف لبنان على علم بذلك لما توقع نسبة للتضخم بين 10 و11 في المئة خلال العام 1995، لأن النسبة الحقيقية ستكون اعلى من ذلك بكثير.
عجز الخزينة
لقد بلغت كلفة زيادة العشرين في المئة على اجور القطاع العام نحو 260 مليار ليرة، واذا كانت قيمة الرسوم الجديدة المفروضة على البنزين بمعدل ثلاثة آلاف ليرة للصفيحة الواحدة تؤمن دخلاً اضافياً بنحو 210 مليارات ليرة، يكون مقدار عجز التغطية في حدود الخمسين مليار ليرة، لكن المشكلة تكمن في احتمال اقدام الحكومة في مرحلة لاحقة على اقرار مشروع دمج سلسلة الرتب والرواتب الذي تناهز كلفته 450 مليار ليرة، الامر الذي يزيد من قيمة العجز المالي للدولة.
وتأتي هذه التطورات في وقت تعاني فيه حكومة الحريري من عجز مالي كبير للدولة يتوقع ان تزيد نسبته عن 60 في المئة حسب تقديرات الخبراء خلال العام الحالي بزيادة 16 في المئة عن النسبة المقدرة في الموازنة والبالغة 44 في المئة، وهو عجز كبير يتجاوز نصيحة صندوق النقد الدولي بضرورة عدم تجاوز نسبة العجز 35 في المئة.
وتشير الاحصاءات المالية المتداولة بين وزارة المال ومصرف لبنان الى ان نفقات الموازنة الفعلية خلال الاشهر الخمسة الاولى من العام الحالي بلغت 2088 مليار ليرة 1.28 مليار دولار في مقابل 1043 مليار ليرة 644 مليون دولار للواردات، فيكون العجز 1045 مليار ليرة، ونسبته 50 في المئة.
وبما ان الدولة تعتمد على القروض لتمويل هذا العجز، فقد اشارت الاحصاءات الى ان فوائد الدين العام وحدها بلغت 728 مليار ليرة، اي ما نسبته 34.6 في المئة من اجمالي النفقات، ونحو 69.6 في المئة من اجمالي قيمة العجز.
وكنتيجة طبيعية لذلك، زاد الدين العام الاجمالي الصافي الداخلي الى 9100 مليار ليرة 5.6 مليار دولار في نهاية ايار مايو الماضي، ومع اضافة الدين العام الخارجي البالغ 830.3 مليون دولار، يصبح مجموع الدين العام 6.43 مليار دولار.
العدالة الضريبية
لماذا اقدمت الحكومة على زيادة اسعار البنزين، وهي تعرف سلفاً مخاطرها الاقتصادية والاجتماعية؟
اجمع الخبراء على ان الحكومة استسهلت اجراءات زيادة وارداتها عن طريق زيادة الاسعار بدلاً من ضبط انتاجية موظفي القطاع العام وتطوير المشاريع الاستثمارية لامتصاص مخاطر التضخم.
لقد وصف لبنان قبل الحرب بأنه "دولة غنية" و"شعب غني". وبسبب ضعف الاجهزة الرسمية عجزت الدولة حتى عن اخذ حصتها من ارباح الشركات من الضرائب والرسوم.
وتبين من الاحصاءات ان نسبة الواردات الضريبية الى الناتج الوطني في لبنان كانت نحو 12 في المئة، وهي منخفضة اذا ما قيست بالبلدان المتقدمة، ومنها الدنمارك 40 في المئة، والسويد 34 في المئة، وبريطانيا 30 في المئة، وهولندا 27 في المئة، وبلجيكا 25 في المئة، والولايات المتحدة 2 في المئة، وفرنسا 20 في المئة.
واذا كانت الضرائب هي افضل وسيلة تعتمدها الدولة وتطبقها على المواطنين من اجل تعميم العدالة الاجتماعية وسد الثغرات التي يعاني منها المجتمع، فان "الضريبة على الدخل" هي اكثر الضرائب عدالة ومرونة اذ يفترض فيها ان ترتكز على المقدرة الحقيقية للمكلف، متمثلة بالدخل الحاصل له من مصادره المتنوعة.
وتلعب هذه الضريبة دوراً مهماً كونها مصدراً رئيسياً من مصادر تمويل الموازنة العامة للدولة، اضافة الى كونها تساهم في توجيه النشاط الاقتصادي وتحقيق برامج التنمية كما انها باعتمادها المعدلات التصاعدية تساعد على تحقيق السلم الاجتماعي حيث تشمل معدلاتها المرتفعة المداخيل الكبيرة، بينما تطال المعدلات المنخفضة ذوي الدخل المحدود والمتوسط، ما يساهم في خفض درجة التفاوت الاقتصادي واعادة توزيع الدخل والثروة بين مختلف الفئات.
غير ان المشكلة التي يواجهها لبنان تكمن في سوء التطبيق لجهة التحقق والاستقصاء والجباية، وهي امور تتحكم بها الاستنسابية التي تخضع بدورها لاخلاقية ونزاهة ومواطنية موظف الضريبة.
اغنياء لا يدفعون
واذا كانت الضريبة في بلدان العالم تتوجب على المكلف القادر على الدفع والمكلف بدوره يعتبرها واجباً تجاه وطنه ومواطنيه، والتهرب منها جريمة يعاقب عليها القانون، فانها في لبنان مختلفة، حيث يبدو ان معظم الاغنياء، اذا لم يكن كلهم، لا يشعرون بضغط القانون عليهم، ولا يتحسسون ب "المواطنية" حتى تكون خزينة الدولة فعلاً هي "جيوب رعاياها".
لذلك لوحظ ان نسبة التهرب من دفع الضرائب في لبنان هي من اعلى النسب في العالم، حتى قبل الحرب. وساهم كل ذلك في افشال تطبيق نظام الضريبة التصاعدية في السنوات الماضية ما دفع حكومة الحريري الى اعتماد الضريبة المقطوعة على الشركات بنسبة عشرة في المئة لتشجيع المستثمرين على الاستثمار في لبنان.
ولكن خبراء المال والاقتصاد يرون ان ترتفع نسبة هذه الضريبة الى 15 او 20 في المئة حتى تكون اكثر عدالة واوسع دخلاً للخزينة، وان تعمد الدولة الى تأمين موارد اضافية للخزينة عن طريق تأجير املاكها البحرية بما يوفر 300 مليون دولار، وبيع فضلات العقارات الخاصة في البلديات بما لا يقل عن 400 مليون دولار، وكذلك الاسراع في تحقيق تسوية مخالفات البناء بتوفير نحو مئة مليون دولار، فضلاً عن وقف الهدر الحاصل في الانفاق.
واذا لم تفعل حكومة الرئيس الحريري ذلك، يتوقع الخبراء ان تواجه سلبيات كثيرة ناتجة عن مخاطر التضخم والظلم الاجتماعي الناتج بدوره عن الخلل في النظام الضريبي، الذي يسمح بأن تكون خزينة الدولة جيوب رعاياها الفقراء… وليس الاغنياء.
فالاعتقاد المتزايد هو ان الحكومة زادت الاكلاف الاجتماعية، وهي مرتفعة في الاساس بالمقارنة مع مستويات الاجور والقوة الشرائية لغالبية اللبنانيين، من دون ان تحسن مستوى الخدمات التي يحصل عليها معظم المواطنين خصوصاً اذا ما اخذ في الاعتبار وضع الكهرباء والاتصالات والمياه والنقل والاستشفاء والتعليم والسكن.
حتى الآن، لا عمل لوزراء الحريري سوى تبرير ما اقدموا عليه، في حين يتهيأ الاتحاد العمالي ل "النزول الى الشارع" كما يقول رئيسه الياس ابو رزق، لكن من دون معرفته ما اذا كانت هذه الخطوة "مسموحاً بها"، كما يقول كثيرون، ما يعني حاجة الجميع الى انتظار "الضوء الاخضر"، اذا ما وصل التصعيد الى نقطة تستدعي مداخلات على مستوى اعلى لحصر الحريق ومنع امتداده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.