روجيه عساف ممثلاً للمرة الثانية خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. بعد غياب سنوات، بل عقود، لدى هذا الفنان ما يتحفنا به. وهو هنا لا يمثل في مسرحية من إخراجه كما فعل في "مذكرات أيوب" نص الياس خوري. إنه الآن ممثل فحسب، أما المخرج فشاب من تلاميذه هو ربيع مروة الذي وقّع مع الياس خوري حوار العرض المأخوذ عن أحدث روايات هذا الأخير: "مجمع الاسرار". إنها أسرة "مذكرات أيوب" تقريباً، وتحدي التجربة السابقة حاضر في العمل الجديد. الديكور كناية عن شبك حديد على جدار العمق في المسرح. والحائط مباشرةً وراء شبك الحديد المعمي بالجدار، كأنه جدار هو الآخر أكثر منه واجهة، يشعرنا بانسداده واستحالته وثقله الخانق. هل كان هذا في بال مارك موراني سينوغرافيا، حين طرد الشبك إلى ملاصقة الجدار؟ يخلي موراني المسرح من أي ديكور، سوى ذلك السرير الحديدي الذي يتمدد عليه بطل المسرحيّة حنا السلمان روجيه عسّاف، والذي ستكون له وظائف مختلفة: فهو يبدو مسرحاً في المسرح، فيما يصلح اطاره ليكون باباً وآلة تعذيب وشباك كرسي الاعتراف... تقوم السينوغرافيا إذاً على مسرح متقشف، شبه عار، مطابقةً بذلك رؤية روجيه عساف المسرحية. فالرجل رغم اقتصار مشاركته على التمثيل الاّ أن مدرسته حاضرة والهامه حاضر. لكن السينوغرافيا سوداوية على بساطتها: جدار ثقيل يسد كل مطل وكل منفذ، ويرتفع خانقاً أمام فتحات واجهة القضبان الحديدية المفترض أن تشرف على فسحة وأن تنقل نوراً. إلاّ أن الفسحة مفقودة والنور معدوم. نحن في زنزانة، وحنا السلمان السجين على السرير، يستيقظ ممثلاً، بسعاله وصوته وإعياءه الهائل. قلما سمح روجيه عساف، مخرج "مسرح الحكواتي"، لممثليه أن ينصرفوا إلى "التمثيل" كما يفعل هو هذه المرّة. كان يمكن لممثل في مسرحية من اخراجه أن يرندح بموال حزين، أو أن يصارع - شأن الحج محمد في "أيام الخيام" - حبلاً يجسّد أمواج البحر... لكن طريقة تشخيص عسّاف ل حنا السلمان المريض المهدود شيء آخر. في أسلوب "الحكواتي" التمثيل قائم على التلميح، كالحبل الذي يرمز إلى الموج: بإشارة يغدو الحبل موجاً، وينتقل رفيق علي أحمد من شخصيّة المرأة التي كان يؤدّيها قبل قليل إلى شخصيّة الحاج محمد. وهو بذلك يؤدي أكثر مما يمثل، التبسيط والتسطيح إذا استخدمنا المصطلح التشكيلي و"الاشارية"، قوام لعب ليس المسرح فيه سوى حيلة واضحة معلنة، وليس التمثيل "سوى لعبة ايماء تتوسط بين المتلقي - المشارك والحكاية المعروفة أو الموجودة بمعنى ما في وجدانه وذاكرته". هنا يختلف الامر. ليس حنا السلمان شخصية يمكن أن تخلق بالايماء والتلميح. ولا تصلح لها عناصر التبسيط والتسطيح والاشارة كأسس للعبة. الشخصية المحوريّة في "حبس الرمل" لها حجم وكتلة، ذات ثلاثة ابعاد ما زلنا في المصطلح التشكيلي. شخصية تبنى بالتفاصيل التمثيلية وتتقلب على أكثر من وجه، وضمن أكثر من بعد. حنا السلمان، المريض المنهك حتى التلف، يتكلم بصوت متحشرج، ويتحرك بجسد مهدود ويسعل من صميمه. فنشترك مع زميليه في الزنزانة أحمد ومنير بالشعور بأن الرجل المحكوم بالاعدام والمنتظر تنفيذه يحمل في صوته وحركته وجسده ذلك الموت الذي دنت ساعته. انه جثة أكثر منه كائناً حياً، وحضوره يثير الخوف والقرف والمشاعر الخانقة. يقبل روجيه عسّاف بجدارة تحدي الممثل، وليس في الامر خيانة الاّ بالمعنى الذي تبدو فيه الخيانة ضريبة للحرية. والارجح أن في تمثيله على هذا النحو إخلاصاً أكبر للعبة. لكن هذا الموت السابق على الاعدام يطبع العمل بسوداوية لا يفلت تماماً منها. فإلى ثقل الموت المخيم هناك ثقل التعذيب، وليس في الموت والتعذيب ما يلهي. الموت والتعذيب ليسا واقعتين هنا، إنهما مساران. وعلى عادة الياس خوري في التحريك البطيء والمتقطع للأحداث، لا نخرج من حديث الاعدام إلا لنعود مرة بعد مرة إلى حادثة التعذيب. عذّب حنا السلمان وقيل له أن لا نجاة له من التعذيب الاّ بتمثيل الجريمة التي لم يقترفها. واذا قبلنا بمنطق النص، فإن نجاة السلمان من التعذيب بالتمثيل، تستمرّ في الزنزانة عبر محاولة النجاة من كوابيس التعذيب بالتمثيل، تمثيل التعذيب نفسه. في ذلك تساؤل عن معنى المسرح والتمثيل، تقبله أو لا تقبله، لكن تمثيل التعذيب في الزنزانة سواء قام به حنا السلمان، أو منير ضمن لعبة تبادل أدوار فأمر آخر. تمثيل التعذيب هو أيضاً كابوس، اذا أداه حنا السلمان أو سواه. فمنير وهو في آلة التعذيب يكاد يختنق بيدي حنا السلمان الذي يؤدي دور "أبو أحمد" المعذب، ولم يختنق بقسوة السلمان ولكن بوطأة التعذيب وكابوس التعذيب نفسه. ودعك مما في ذلك من افتتان الضحية السلمان بالجلاد، فالارجح أن كابوس التعذيب مقيم ثقيل لا يتزحزح ولا يتطهر السلمان منه بالتمثيل ولا بغيره. انه مفصل يزداد وزناً في المسرحية، ويزداد بصورة متوازية، كابوسية، وليس جدل الجلاد والضحية إلاّ هامشاً فرعياً من نقاش تثيره مسرحية قوامها الجدل. السلمان كضحية مفتون بجلاده أقل مما هو مفتون بصورته جلاداً. إنه الكندرجي البريء، لكنه الريس المحكوم بالاعدام، وافتتان زميليه بهذه الصورة يجعل منه "ريساً" في زنزانته بالفعل، على رغم مفارقة كون زميليه قاتلين حقيقيين فيما هو بريء. إن "التمثيل" هو تمثيل الجريمة أو وهم الجريمة. هذه المفارقة واضحة، لكن النص مبني على لعبة مرايا هي أكبر من مفارقة. منير وأحمد تابعان للريس سامي الخوري المهرب الشهير ألمع مافياويي لبنان وهما ظلان لريسهما، كما أن حنا السلمان المالح لأنه لعق كيلو ملح كامل تعذيباً ظل للقاتل الحقيقي. إنه لقاء تابعين، أو ظلين، بممثل... نرى ظلال سامي الخوري والمجرم الحقيقي ولا نراهما. كما نسمع طقطقة كعب نورما ولا نراها. فالزنزانة مجمع ظلال، ومن الظلال يتكون وهم الريس. حنا السلمان الذي ضاق به أحمد ومنير يصبح ريساً عليهما، وينتهي مصراً على براءته إنما مفتوناً بكونه ريساً. وعند هذه اللحظة يغدو مرآة للريس الحقيقي سامي خوري، فيهِب نورما لأحمد ومنير باللفتة نفسها التي يهب بها سامي الخوري نساءه "حلالك!"، ويستبد بهما استبداد سامي الخوري. ممثل المجرم هو أيضاً ممثل الريس. أحمد ومنير يعكسان على وجه حنا السلمان صورة لسامي الخوري. إنها لعبة مرايا، والمسرح هنا: في تقابل المرايا هذه وانعكاسها على بعضها بعضاً وتبادلها وتراسلها. من هنا جدل المسرحية وهو جدل مركب. الجريمة الملحمية في مرآة الجريمة العادية، القاتل الوهمي في مرآة القاتل الفعلي، ريس الوهم حيال ريس الحقيقة، ظلال الريس حيال مرآته. في هذا الجدل دراما الجريمة الوهمية التعذيب، التمثيل، القتل المجاني، الرهبة، مقابل ميلودراما الجريمة العادية الحيلة، الحربقة، القتل العادي. والارجح أن لعبة المرايا هذه تستدعي مساحة لعب ومقابلة ومفارقة نشك في أن يكون الاخراج استوفاها تماماً. تبعية أحمد ومنير و"ظليّتهما" وعاديتهما والرسم الكوميدي للشخصيتين، كان يمكن أن تقابلها شخصية حنا السلمان في أداء مختلف... شبه كوميدي. فمثل هذا التقابل بين أكثر من أداء وأكثر من وجه يخدم تركيبية المسرحية ولعبة المرايا والايهام المسرحي. الارجح أن ذلك لم يفت روجيه عساف الذي لعب دور المهدود المليء ملحاً، بتوتر داخلي جدل كل كيان الممثل، بحركته وصوته وادائه الجسدي. ولعب دور العاشق بخفة راقصه. واستقر في الفصل الثاني على صورة الريس الواثق المسيطر. أما نزيه محفوض وفادي أبي سمرا فقابلا درامية دور حنا السلمان بتوتر صوتي طبع إداءهما غالباً، توتر ضيق فضاء المسرحية وجعل بين حنا السلمان من ناحية وأحمد ومنير من ناحية أخرى قدراً من التشابه مسخ الفرق بين هذا وهذين، وجعل التقابل والتضاد بينهم ضئيلاً. وشوّش ذلك بالتأكيد جانباً من علاقات النص، وأفقده جانباً من تركيبيته، وجعل من منير وأحمد أحياناً صدى لحنا السلمان لا بعداً ثانياً في المسرحية. نتذكر كيف مثل أحمد ميرفت بعد حنا السلمان فلم يضف لتمثيل حنا بقدر ما شوّشه. بين نص الياس المتطلب، وتمثيل روجيه المتجدد، يبدو أننا نطلب فوق ما يجب من ربيع مروة وفادي أبي سمرا ونزيه محفوض...