يمضي رفيق علي أحمد في تجربة "المونودراما" بعدما وجد فيها حلاً أو حلولاً لبعض الأزمات التي يعانيها المسرحيون في لبنان والعالم العربيّ. فهو يظنّ أن صيغة "مسرح الشخص الواحد" تلائم ممثلاً مثله قديراً وقادراً في الحين نفسه أن يصبح مؤلّفاً للنص الذي يؤديه منفرداً. ويظنّ أيضاً أن هذه الصيغة لا تتطلّب جهداً إخراجياً كبيراً نظراً الى فردية الممثل الذي يؤدّي ما يشبه "المونولوغ" حتى وان ضمّ أصواتاً عدّة وشخصيات. وبعد أعمال مونودرامية مختلفة طغى حضوره فيها كممثل على الاخراج والسينوغرافيا وسواهما بدا رفيق علي أحمد ملمّاً جداً بأسرار هذه الإطلالة المنفردة وتقنياتها. وقد حمل معه الى الخشبة خبرته الحكواتية التي تميّز بها في فرقة "الحكواتي" التي أسسها روجيه عساف مع بعض المسرحيين الجدد. غير أنّ براعته كممثل وحكواتي جعلته يخترق الحدود المفترضة بين ما يُسمى "مسرح الشخص الواحد" و"المونودراما" و"المونولوغ"، دامجاً في اللحظة الواحدة هذه الأنواع التي يختلف بعضها عن بعض. ومن الواضح أن "المونولوغ" يفترض بحثاً في النصّ الدرامي نفسه بحسب ما فعل مثلاً المخرج الأميركي بوب ويلسون في مسرحيته "هاملت: مونولوغ" إذ أعاد صوغ نصّ شكسبير درامياً وبصرياً وقدّمه بمفرده كممثل ومخرة. أما "المونودراما" فتتطلّب بدورها بحثاً في النص والإخراج والتمثيل تبعاً لصعوبتها الشديدة ورهافتها أو دقّتها. وقد اعتمدها بوب ويلسون نفسه في مسرحيته "أورلاندو" جاعلاً من الممثلة ايزابيل هوبير عماد اللعبة المونودرامية. واللعبة نفسها أيضاً اعتمدها بدوره المخرج الألماني الطليعي غروبر حين أخرج مسرحية "حكاية الخادمة زيرلين" جاعلاً من الممثلة جان مورو بطلة مونودرامية تحتل الخشبة وتسرق الأنظار. وقد يكون "مسرح الشخص الواحد" أو "عرض الشخص الواحد" أشدّ قدرة على استيعاب طاقات الممثل الواحد وألعابه وحذلقاته وأدواره المتعدّدة والمتداخلة. وقد برع فيه أيّما براعة الممثل والمخرج والكاتب الإيطالي داريو فو ممّا جعل الناقد برنار دورت يستعيد احدى مقولات بيراندللو ليقول فيه أنّه "واحد، لا أحد وألف". ربما لم يخطىء رفيق علي أحمد في اعتماده كلّ هذه الأنواع وفي دمجه بعضها في بعض بحثاً عن مخرج للمأزق الذي يتهدّد المسرح اخراجاً وانتاجاً وتسويقاً. ولكن فاته أنّ الإصرار على هذا النوع المسرحي الخطر والصعب يتطلّب الكثير من البحث والاختبار كي لا يقع في التكرار والرتابة. فها هو منذ اللحظات الأولى يذكّر المشاهدين بما قدّم من أعمال مونودرامية وشخصيات ووجوه على الرغم من تعاونه هذه المرّة مع مخرج شاب هو ناجي صوراتي طالع من تجربة فرنكوفونية وانغلوفونية. صحيح أنّ السينوغرافيا هنا تبدّلت وكذلك الفضاء المسرحي عموماً والإضاءة إلا أنّ رفيق علي أحمد لا يزال هو نفسه واطلالته لا تزال هي نفسها وان بدا كلاهما على مزيد من الليونة والمهارة. ولعلّ ما زاد من وطأة هذه المسألة أنّ رفيق هو الذي "تجشم" مهمّة التأليف. وقد غدا نصّه ملتصقاً به وكأنّه شبه سيرة ذاتية. فهو يكتب النصّ لنفسه كممثل مستعيداً بعض همومه وذكرياته وشجونه ومستعيناً في الوقت نفسه ببعض الملامح أو القسمات التي شاهدها في وجوه الآخرين الذين يعرفهم هو وتعرفهم المدينة وأهلها كذلك، تُرى هل المطلوب من رفيق علي أحمد أن يستعين بنصوص سواه كي يتمكّن من كسر التكرار الذي يهدّد اطلالته المونودرامية؟ لا أعتقد أنّ هذا حلّ ممكن. في عمله السابق "زواريب" لجأ الى نصّ للشاعر السوري ممدوح عدوان وطغى حضوره على النص والاخراج معاً. علماً أن روجيه عسّاف أخرج العمل. ولعلّ لجوءه في هذا العرض الى مخرج آخر ومختلف عنه لم يكن إلا من قبيل سعيه الى كسر الإطار الذي بات محكوماً به. ولكن ها هو يطغى على الاخراج من جديد، لا كممثل فقط وانما ككاتب للنصّ أيضاً. اختار رفيق علي أحمد لنفسه هذه المرّة شخصية ممثل يُدعى رضوان جاعلاً منه ذريعة لتبرير لعبته المونودرامية. لكنه عوض أن يجعله في مسرح أو ساحة عامة سجنه في مصحّ عقليّ. اللعبة إذاً ستكون معقّدة: ممثل... في مصحّ! وان كان يفترض في بناء شخصية مماثلة الانطلاق من بعض الأبعاد النفسية والنزعات البسيكولوجية فأنّ رفيق علي أحمد اعتمد مبدأ التداعي الشخصي والنفسي ليرسم صورة هذا الممثل مانحاً اياه حرية في التذكر والاستدعاء والانتقام والادانة والنقد والهذيان والثرثرة... لا يتمتع به عادة شخص مريض في مصحّ. وربما لم يشأ الممثل والكاتب شخص رضوان مريضاً نفسياً في المعنى العميق مقدار ما وجد في عزله داخل المصحّ عوض السجن مثلاً سبباً لدفعه الى التداعي مستعيداً تفاصيل من سيرته شبه الذاتية ومن سيرة المدينة والوطن والذاكرة الجماعية... ولم يدفع رفيق علي أحمد "قرينه" الى ممارسة دوره كممثل يكتب نصّاً مسرحياً في المصح ليمعن في لعبة المسرح داخل المسرح بل هو أمعن في فعل التداعي ليقول ما يبغي أن يقول محمّلاً شخصية رضوان طوال 70 دقيقة أكثر مما تحتمل. وقد استهلّ المونولوغ استهلالاً شعرياً عبر مخاطبته القمر متلبساً قناع الذئب الذي يعوي. وانطلاقاً من سرير المصحّ المغطّى بالقماش الأبيض راح يسترجع قصصه وبعض الشخصيات التي حفلت بها حياته وذاكرته "المثقفة" جداً. وكعادته لم ينسَ رفيق علي أحمد القرية الجنوبية والمأساة التي يعانيها الجنوبيون والآثام الإسرائيلية والأم والأب القرويين والبراءة القروية وصدمة المدينة... ويعلن رضوان على طريقة بعض الشخصيات الرحبانية أن "الوطن" هو "مشكلته". وهذا طبعاً كلام كبير لم يعد يصدّقه أحد وربّما لم يعد يقوله إلاّ المصابون بمرض "العظمة". ورضوان على ما بدا لم يكن من هؤلاء. فهو مواطن مسحوق ومتمرّد في الحين عينه. حمّل إذاً رفيق علي أحمد شخصية رضوان تاريخاً شخصياً وتاريخاً شبه عام وتاريخاً ثقافياً. فإذا به يتنقل بسهولة من الكلام عن القضايا الكبيرة الطائفية، الجنوب، اسرائيل... الى الكلام عن مآسٍ ذاتية موت الأخت، المعاناة اليومية، الحرب، الغربة.... ولم يفته ككاتب وممثل أن يتذكر شكسبير وهاملت وجلجامش وسقراط والحلاج وغاندي... علاوة على بعض الأشخاص "البيروتيين" من مثل عادل السكّير وفصيح السوري والرفيق في الحزب... ولم يتوان رضوان أيضاً عن "اصطناع" بعض النكات أو القفشات التي بدت نافرة جداً في سياق النصّ المونودراميّ. ولعلّ بعض ما تميّز به النص اسقاط طيف والد "هاملت" في مسرحية شكسبير على طيف شقيقة رضوان وتدعى أميرة. وبدت مأساتها مأساته الحقيقية إذ قتلها والدها والده بالسمّ ليلة عرسها المتأخّر بعدما انتهكت تقاليد العائلة... وان جسّدت أميرة في موتها القاسي ذروة المأساة في حياة رضوان فأنّ موتها أو قتلها يذكّر ببعض القصص "الوطنية" الهادفة الى الإصلاح ولو عن طريق المأساة. وقد أصرّ رضوان نفسه على أن الوطن لا ينهض إلا بجناحيه... كلّ هذا الكلام قاله رضوان في المصحّ قبل أن يتلقى الحقنة المهدّئة. وقال أيضاً ما يناقضه تماماً حين وصف نفسه بالجرذون والعاجز والمنحلّ. وحين هدم منزل العائلة قصفاً عبر المخيلة وعجز عن قتل والده عبر المخيّلة أيضاً. وان بدا أوديبياً في معنى ما ولكن عبر نزعته الى الأخت وليس الى الأم فهو لم يستطع أن يقتل والده ولو مجازاً أو تخييلاً. فهو محافظ وتقليدي وذو أصل كما يقال حتى وان جرفه السكر والفنّ ولوثة المدينة. حاول المخرج الشاب ناجي صوراتي أن يعتق رفيق علي أحمد من اطار اطلالاته المونودرامية السابقة وأن يحرّره من أسر المونولوغ القائم على التداعي واللعب وعلى استحضار بعض الوجوه والشخصيات وهذا ما يفعله رفيق علي أحمد دوماً، جاعلاً من "المونودراما" عرضاً مسرحياً عرض الشخص الواحد. لكنّ ظلّ الممثل والكاتب بدا أشدّ وطأة عليه كمخرج. وعوض أن يفرض رؤيته الإخراجية عليه وجد نفسه مسوقاً الى لعبته وربّما أسير فخاخه التي ينصبها ببراعة الممثل الكامن فيه، بل بغريزة الممثل القادر على الدمج بين منتهى العفوية ومنتهى البراعة. غير أنّ المخرج استطاع أن يحيط الممثل بجو شبه جديد وفضاء اخراجي مختلف ولا سيما عن فضاء روجيه عساف. ونجح كثيراً في توظيف المرايا التي شكّلت ما يشبه الجدار المتوهم. وفي احدى اللقطات الرائعة جعل المخرج الممثل أكثر من شخصية من خلال لعبة المرايا التي عبّرت بوضوح عن حال الانفصام التي يعانيها وبدا كأنّه واحد وأكثر من واحد في اللحظة الواحدة. أما اطلالة الممثل والمخرج زكي محفوض في دور الممرّض فلم تكسر هالة المونودراما إذ كانت سريعة ومتقطعة. وبدا الممرّض كأنه شخص من الأشخاص الذين يستحضرهم رضوان في سجنه. لم تخل مسرحية "قطع وصل" من بعض التحدّي تمثيلاً وكتابة واخراجاً. فالممثل الذي اعتاد الإطلالة الفردية راهن من جديد على هذه الإطلالة "متنكّباً" أيضاً مهمّة الكتابة. وكذلك راهن المخرج الشاب على اخراج رفيق علي أحمد من شرك الرتابة والتكرار وسعى جاهداً الى أن ينجح في مراهنته. غير أن الرهان يظلّ رهاناً وربّما يكفي الممثل - الكاتب والمخرج أن يراهنا على عملهما متكبدين مشقة المخاطرة في مرحلة تكاد تخلو من المراهنات الجريئة والمخاطرات. * تقدم المسرحية في المركز الثقافي الفرنسي.