بعد الجولة التي قمنا بها على بعض العواصم العربية، والوقفة المتمهّلة عند اضافات العام 1994 وأحداثه الاساسية على مستوى السينما والرواية والفن التشكيلي والشعر، نصل في هذه المحطة الاخيرة من الجردة الثقافية الى المسرح العربي: ما جديده، وما هي السمات والاسئلة المهمّة التي تعكسها أبرز تجارب العام؟ وكيف ينعكس الواقع العربي، بأزماته ومخاضاته على هذا الفن الاجتماعي بامتياز، الذي يعكس وعي الجماعة ومشاغلها وتطلّعاتها؟... قد لا تكون حصيلة السنة المسرحية المنصرمة بمستوى سابقاتها. لكنّها شهدت مجموعة أحداث بارزة، بعضها مأسوي والبعض الآخر يحمل بعض علامات التفاؤل، وأغلبها يشير الى أن المسرح العربي يواجه تحدياً صعباً، ويتردد بين التراجع والانحسار من جهة، ومواصلة الابتكار والتجذر في تربته من جهة أخرى... يبقى العام 1994 قبل كل شيء، عام اغتيال المسرحي الجزائري عبد القادر علّولة، وارتماء زملائه في أحضان الهجرة أو الصمت. كأن هذه المرآة الاجتماعية بامتياز، التي تعكس الاسئلة وتشخّص الجراح وتحدد المشاغل، باتت عنصراً زائداً، أو عنصراً محرجاً في قلب الاتون المشتعل. لكن العام 1994 شهد افتتاح قاعات مسرحية جديدة - وهو أمر لم يحدث منذ فترة طويلة - على رغم الازمة التي تعصف بالخشبة وتحد من حجم الانتاج النوعي. في العاصمة التونسية، صار ل "المسرح الوطني" مسرحه الثابت، بعد تحوّل سينما "باريس" المهجورة الى "فضاء الفن الرابع" الذي افتتحه المخرج محمد ادريس باقتباس لافت لنص ألفريد جاري الشهير "أوبو ملكاً". كما تسلّم الثنائي رجاء بن عمّار/ المنصف الصايم قاعة سينما "قرطاج" التي ستصبح قاعدة عمل "مسرح فو" المميّز. وفي بيروت أيضاً حققت الفنانة نضال الاشقر أخيراً حلماً عزيزاً، بتحويل قاعة ""كليمنصو" الى "مسرح المدينة" الذي افتتح باقتباس لرواية أمين معلوف "صخرة طانيوس" من اخراج جيرار أفيديسيان. هنا أيضاً تكثر التساؤلات: هل ستتكامل هذه المؤسسة الجديدة مع "مسرح بيروت" الحاضر بقوّة منذ موسمين، أم أن عملية امتصاص واستيعاب ستحصل تدريجاً وتكون "الغلبة" فيها للمؤسسة الاغنى مادياً، في مدينة تكاد لا تتسع لمسرح طليعي واحد؟! وهل سيلعب "مسرح المدينة" دوراً في انعاش حركة مسرحية متصدّعة، أم أنه سيسلّط الضوء على عوراتها وأزماتها؟ فالمسارح هنا لكن أين الرواد وماذا يقدّمون؟ وأين الجيل الذي يرثهم، ويواصل تجاربهم، ويعيد فرز جمهور مسرحي راق؟ جلال خوري في "البولفار" الذي يحتل مكان الصدارة الى جانب "الشانسونييه"، ميراي معلوف ربيبة بيتتر بروك عندما عادت الى بيروت لم تجد ما تقدّمه سوى "خبيصة" من عيون المسرح الاستهلاكي، أنطوان ملتقى وريمون جبارة مستغرقان في الصمت، وحدهما روجيه عسّاف "مذكرات أيوب" وشكيب خوري حققا حضوراً، لكنّهما غير بعيدين عن الجدار المسدود... الاسدي وجان جينيه في بيروت لا بد من الاشارة الى تجارب سهام ناصر وشكيب خوري وجيرار أفيديسيان وجواد الاسدي، وهذا الاخير باتت بيروت قاعدته الاساسية بين دمشق وعمّان. ترك المخرج العراقي موقتاً عالمه المتأرجح بين تشيكوف وشكسبير، ليحقق في "مسرح بيروت" مشروعاً قديماً فيخوض في مغامرة اخراج مسرحية لجان جينيه هي "الخادمتان" مع رينيه ديك، رندا أسمر وجوليا قصّار. وجينيه لا يمثّل في العالم العربي الا نادراً، لصعوبة نصوصه أولاً، ولما تحتويه أيضاً من جرعات تحريض واستفزاز راديكالية مقلقة. ولا شك أن الاسدي هو، بين مخرجي جيله، من أقرب الناس الى عالم جينيه، بسبب خياراته الاخراجية القديمة القائمة على مسرح القسوة. فهل نجح حقّاً، في الابتعاد عن عالمه الشكسبيري، لدخول زنزانة جينيه المقفلة النتنة التي تحتضن طقوسية العنف، وتفوح برائحة الهامش المتطرف والمريض؟ هل نجح أفيديسيان من جهته في تحقيق مشروعه الطموح، أم أن "صخرة طانيوس" - هذه المسرحية التي فرضتها الموضة والمناسبة اعادة اكتشاف الثقافة اللبنانية لنفسها من خلال جائزة غونكور - ستبقى في الذاكرة كسجل من النوايا الطيبة والرغبات الطموحة التي تجسّدت في خليط من أساليب التمثيل والمناحي الاخراجية المتضاربة التي لا يربط بينها أكثر مما يربط بين مختلف النزعات ودرجات الوعي في الثقافة اللبنانية الراهنة؟ أما مسرحية "ميديا" التي قدّمتها سهام ناصر، فتعتمد خيارات اخراجية واضحة، وتقوم على رهان أسلوبي ورؤية خاصة: اللغة البصرية كوسيلة لتفكيك العالم، واعادة النظر في المشاعر والاهواء البشرية ونسج العلاقات الخفية بين الاسطورة والواقع، بين الرغبة ومادتها الاولى. فباعتمادها الاقتباس الذي قام به الكاتب الفرنسي المعاصر جان آنوي لمسرحية "ميديه"، بدل الرجوع الى النص الاغريقي الأصلي، تختار المخرجة اللبنانية الدخول في لعبة الانعكاسات والمرايا، وتبني عرضها على تدرّج مستويات القراءة. تعانق سهام ناصر بطلتها "ميديا" رويدا الغالي، "المرأة الملعونة بامتياز في تاريخ الادب المسرحي"، وتجعل منها امتداداً لأسئلة وجودية ومشاغل جمالية متشابكة. أشباح وصور وأخيلة تخرج من الشاشة البيضاء وتعود اليها، ومشاعر عشق وخيبة وحقد وخيانة وندم وغضب تتفجر من خلال الجسد الذي يفصّل الفضاء بلغته الكوريغرافية المتفجرة. إنه الطقس التراجيدي كانعكاس للواقع، كصدى لمعاناة الانسان المعاصر. الطقس التراجيدي نفسه، يلجأ اليه المسرحي اللبناني شكيب خوري في مسرحية "أمام الباب"، لكنه يعطيه بعداً أكثر تجريدية وتقشفاً. فمخرج "أرانب وقدّيسون" يمضي في طرح أسئلته الفلسفية، وفي سبر أغوار الذاكرة الدامية لشعب خارج من حرب مريرة. شكيب خوري لم يتخلّص من هذا العبء الذي يثقل ضميره ويطلق عنان مخيلته الابداعية المحمومة، ويخصب أعماله بتساؤلات وجودية طالما شغلته منذ الستينات. وهو لا يريد أن ينسى، لا يريد أن يطوي الصفحة بهذه السهولة، لذا تراه يُقبِل على ملامسة الجراح الطازجة بمازوشية من يريد أن يفهم، أن يتطهّر من ذنوبه وذنوب الآخرين. ينطلق خوري من نص للالماني ÷ولفغانغ بورشرت 1921 - 1947، وهو "شاعر وقصّاص قاسى ويلات الحرب العالمية الثانية وشاهد وطنه خراباً"، ترجمها الكاتب والاذاعي المصري مجدي يوسف، وأعاد هو تفصيلها على قياس رؤيته المسرحية. من المسؤول عن جرائم النازية يسأل الكاتب الالماني؟ من قتل فينا الروح يجيبه صدى العرض اللبناني؟ بِكمان بيتر سمعان ضابط صف يعود مهزوماً من جبهة ستالينغراد، ليجد أن عالمه انهار وزوجته تركته، ولم يعد لوجوده أية قيمة أو معنى. وهذا البطل المسحوق، الضائع في فوضى الذكريات والهواجس، تنتظم مواجهته مع الخارج عبر قدّاس أسود وحده شكيب خوري يملك سرّه ومفاتيحه. فنحن في مسرحية "أمام الباب" في مكان ما بين المأساة الاغريقية وطقوس وثنية غامضة. ومن الجوقة تخرج الشخصيات لتعود فتذوب فيها: انها الاحتفالية كما يطبقها خوري الذي يصوغ مشاهده كلوحات قائمة بذاتها، كفسحات تأمل يختلط فيها الارضي بالسماوي والسامي بالمدنّس، وتعانق فيها الروح أدران المادة ودنس الجسد. روميو فلسطيني وجولييت اسرائيلية على صعيد المسرح الفلسطيني، هناك بلا شك مسرحية فرنسوا أبو سالم "أريحا سنة الصفر" التي قدّمها "مسرح الحكواتي" في "خان العمدان" في عكا، وانتقلت الى فرنسا. لكن الحدث الأبرز كان مسرحية "روميو وجولييت" التي اشتركت في تقديمها فرقتان الاولى فلسطينية من القدسالشرقية "مسرح القصبة"، والأخرى اسرائيلية من القدس الغربية "مسرح خان". أما اخراجها فيحمل توقيع مسرحيين هما: الفلسطيني فؤاد عوّاد والاسرائيلي إران بانيل. من الظلم طبعاً القول إن الموضة "التطبيعيّة" مرّت من هنا، مع أن التطورات السياسية بعد "اتفاق اعلان المبادئ" ساهمت في دفع كلا الطرفين الى القيام بهذه الخطوة الحاسمة بعد طول تردّد. إن هؤلاء الفنانين الفلسطينيين المقيمين في الاراضي المحتلّة نشير بينهم الى خليفة ناطور، جورج ابراهيم، محمد بكري... والموسيقى لفرقة صابرين يعيشون هذا "الجوار" بشكل يومي، ومن الطبيعي أن يحاولوا - انطلاقاً من مسرحية شكسبير الشهيرة - مد جسور الحوار والبحث عن آفاق سلام آخر. والتجربة ليست الاولى في الاراضي المحتلّة. فخلال العام 1994 قدّمت مسرحيّة "حلقات" التي أعدّها وقدّمها فريق "مختلط" من الممثلات، يضمّ كلاً من رائدة غزالة، وايمان عون، كورين ماركوف ونعومي أكرمان. ومن الطبيبعي أيضاً أن تطرح مسرحيّة "روميو وجولييت" مجموعة من الاسئلة، وتسلّط الضوء على مفارقات عدّة في العلاقة بين طرفي الصراع. فهل يتقاسم الشعبان الفلسطيني والاسرائيلي مسؤولية الحرب والنزاع بالنسبة نفسها التي تتساوى فيها عائلتا كابوليه ومونتيغو في النص الشكسبيري؟ أما على مستوى التمثيل، فتبدو الهوّة واضحة بين الفرقتين: تمثيل العرب قائم على التضخيم والخطابية والصراخ والتشنّج الجسدي وغياب التقنية، فيما يمتاز الممثلون الاسرائيليون بالخفّة والعفويّة والسيطرة على أدواتهم الفنية. ويتقن الفلسطينيون التمثيل باللغتين العربية والعبرية، بينما تقتصر مشاركة زملائهم على العبرية فقط! من جهة هناك التقنية والخبرة، ومن الاخرى تفوّق الخاضع للاحتلال، فهو يعرف لغته المتجذرة في المكان، ولغة جلاده الدخيلة. في القاهرة أحرز "مهرجان المسرح التجريبي" نجاحاً ملحوظاً، فيما جاءت الدورة الاولى من "الملتقى العلمي لعروض المسرح العربي" لتعكس فشلاً صارخاً وأزمة مستفحلة، ومرضاً اسمه البيروقراطية. بين العروض المصرية، نشير الى مسرحية "كونشرتو" التي تعكس همّاً درامياً فعلياً، وهاجساً جمالياً واضحاً في البحث عن معادلات ممكنة للنص المسرحي، تساهم في خلق مناخ وايصال حالة. المسرحية مأخوذة عن نص "الاخرس" ايردينسكي، قام باخراجها انتصار عبد الفتاح وهو موسيقي ومسرحي في الآن نفسه. من هنا أنه بنى عمله - بنجاح - على تقاطع المسرح والموسيقى. انتصار عبد الفتاح بنى قراءته على الموسيقى، وجعلها العمود الفقري للعرض، تعبر عن الحالات الشعورية وترافقها. لكن رؤيته الاخراجية بقيت عند عتبة النضج، عاجزة عن فرز عناصر ومفردات تنتظم في سياق لغة متكاملة. فالتصوّر السينوغرافي لا يساعد الصورة على التمكن من اطارها، وادارة الممثلين هي عرقوب أخيل مسرحية "كونشرتو" ونقطة ضعفها الصارخة. ولعل هذا النقص في "كونشرتو" يكشف نظرة مجتزأة الى العمل الاخراجي، كحرفة نحت داخلي، وشغل على المشاعر والاحاسيس وتطوّرها، وعلى الحركة الداخلية بما هي ايقاع وتسلسل تصاعدي للحالات أو الاحداث والمواقف. كارولين خليل: ولادة مخرجة وتجدر الاشارة الى أن أغلب العروض المصرية الجادة موسميّة - اذا استثنينا "مسرح الورشة" الجريتلي/ الاخوان جويلي الذي أعاد صياغة آخر مسرحياته "غزير الليل" في حلّة سينوغرافية جديدة - ما يفسّر قلّة النضج الفني الذي هو ثمرة عمل دؤوب وبحث متواصل وتراكم في التجارب. من هنا أننا نتساءل مثلاً ما مستقبل مخرجة شابة مثل كارولين خليل التي اكتشفنا خلال العام الماضي، مسرحيتها المفعمة بالرهافة والطراوة "سكة القطّ خل" عن نص للبريطانية كارين تشرشل؟ فالعمل يعكس جهداً ابداعياً واضحاً، والماماً بأولويات فن المسرح، وتمكناً من أدوات هذا الفن: من التعامل مع النص والتصور السينوغرافي وتقطيع الفضاء وتوليف المشاهد وادارة الممثل وتركيب الشخصيات واستغلال الاضاءة وعرض السلايدات... "سكة القط خل" توجه اصبع الاتهام الى البنى المتخلفة بعيداً عن أي ديماغوجية. إنها مسرحية عن المجتمع الريفي الذي لا يرحم، بقساوته وعنفه، بتقاليده وعاداته وخرافاته. وعن صراع الافراد والغرائز والرغبات والمصالح، ومفهوم الخير والشرّ والخطيئة، وعن علاقة القوي والضعيف، الفرد والجماعة، وعن موقع المرأة من كل هذا. وفي مصر أيضاً قدّم المسرحي والكوريغراف اللبناني وليد عوني، مع "فرقة الرقص المسرحي الحديث"، عرض "حفريات تدعى أغاتا" الذي يجمع بين الرقص والمسرح. يبني عوني استعراضه كالعادة، انطلاقاً من مجموعة صور وحالات ومشاهد وانطباعات، من هنا أن قراءة أعماله تكون عبر الاحساس أو لا تكون. فهو يغرف عناصره من التاريخ والأدب والاغنية والسينما، كما فعل في السابق مع البياتي ورابعة العدوية وجمهورية فايمار... منطلقاً هذه المرّة من عالم الكاتبة أغاتا كريستي، يستوحي منه هيكل الحبكة البوليسية المشوقة التي تحوّلت قالباً لعمله القائم على الكولاج والتوليف. وقد يكون عوني بالغ بعض الشيء في لعبة الكولاج مسترسلاً في الابتكار، مسرفاً في الثرثرة البصرية وفي تكرار المؤثرات نفسها. فهو يطلق لجنونه العنان، ويخترع بحرية فائقة عملاً يبدو خلاصة أعمال ورؤى متعددة. ولهذا ربّما ولأسباب أخرى! حورب في القاهرة عمله الجريء والطريف الذي يتجاوز قدرة المتلقّي العادي على التجاوب والاستيعاب. أما جديد المسرح المغاربي فقليل. من المغرب نشير الى تجربة "مسرح اليوم" الاخيرة: مسرحيّة "أيام العزّ" التي أخرجها عبد الواحد عوزري النص اقتبسه يوسف فاضل عن رواية هامبسون "الجوع". بعد "بوغابة"، وهو عمل سابق للفرقة مقتبس عن مسرحية بريخت "السيد بونتيلا وتابعه ماتي" اعداد محمد القاوتي، ها هي ثريا جبران تقف من جديد على الخشبة لتؤدي دور رجل. لكن الممثلة المغربية المعروفة تدخل هنا في مراهنة جديدة. ذلك أن شخصية هام التي تؤديها، تفترض حضوراً خافتاً، وتتشكل ملامحها من خلال التفاصيل الخفية المرهفة، بعيداً عن الرخامة والاطناب في التمثيل. فهذا المتسكع الذي يخرج من لامكان، ليلتقي صديقه هوبو عبد اللطيف خمولي على قارعة عالم يتصدّع، يبدو جارحاً في امحائه، وطاغياً في حضوره الهاذي. متسكعان اذاً هما العمود الفقري لمسرحية "أيام العز". هام وهوبو المتسكعان الهاربان من مصح للامراض العقلية، هما ضحيتا انسحاق ملموس، في مجتمع نتبين ملامحه بسهولة. ولعل الآلة الغامضة التي يحركها حارس العمارة محمد بصطاوي، خير دليل على انسحاقهما حتى التماهي مع آداة القمع. القمع أيضاً هو محور مسرحية زياني شريف عيّاد "التمرين"، وهي الاولى التي قدّمها "مسرح القلعة" الجزائري منذ هجرته الى فرنسا تحت وطأة الظروف. "التمرين" من تأليف محمد بن قطاف وتتناول وضع فرقة مستقلة من الممثلين الجزائريين يتمرنون على مسرحيتهم بانتظار تقديم عرضهم أمام الجمهور. لكن التمرين مسألة صعبة ومعقدة جداً في بلد تخضع فيه الثقافة لأجهزة الدولة، وحيث الفن اداة في يد الدولة، ولا يمكن أن يقوم أي نشاط خارج اطار السلطة. ففي كل مرة يضطر الممثلون الى اخلاء القاعة التي استطاعوا بصعوبة أن يحصلوا على إذن باستعمالها، لأن منظمات ولجاناً حزبية تعتزم اقامة اجتماع أو مؤتمر أو احتفال. ثلاث شخصيات في المسرحية: المخرج ويلعب المخرج زياني شريف عياد هذا الدور، والممثل مؤلف النص محمد قطاف، والعازف محمد حيمور تنقل لنا الوضع المسرحي والوضع العام في الجزائر، حيث نجحت البيروقراطية في خنق آخر رمق من الحياة. وصاحب "الشهداء يعودون هذا الاسبوع" عاش هذه الاجواء خلال ادارته ل "المسرح الوطني" في بلاده، قبل أن يستقل عن المؤسسة الرسمية ويطلق أوّل فرقة خاصة في الجزائر. لكن هل نجح في منفاه الفرنسي في المحافظة على المستوى الذي بلغه في "العيطة" التي استبقت أحداث أكتوبر 1988؟ كنّون: الهم المشهدي ومسك الختام في حصاد هذا العام، مسرحية "المصعد" للتونسي عز الدين كنّون، مدير "المسرح العضوي"، الذي ينتمي الى الجيل اللاحق لمحمد ادريس وتوفيق الجبالي والفاضل الجعايبي. القضية الاساسية التي يطرحها هذا المخرج تتمحور حول الاسلوب. لا نقول إن العملية المسرحية لديه لعبة شكلانية صرف، ولكنها تقوم على خطاب جمالي متكامل يضع الجانب المرئي والحركي في قائمة أولويّاته. كل مشهد لدى كنّون لوحة قائمة بذاتها، لها ايقاعها وتنفسها الخاص في الفضاء، ألوانها واضاءتها وتركيبتها المميزة. كأن "الحكاية" نتيجة لتوليف هذه المشاهد، وليس العكس. وكأن المسرحية تبدأ من الهم المشهدي لتصب فيه. لكن "الموضوع" اذا جاز التعبير، ينعكس عبر الحالات والمواقف التي يصوّرها ويركّبها هذا المسرحي، بحيث يمكن للمشاهد أن يستغني عن الاحاطة بالقصة بشكل دقيق... هناك شخصيات يتناهش بعضها بعضاً في عالم مقفل، لا خلاص فيه للجلاد ولا للضحية. مواجهات حادة وتصفية حسابات، وصراعات دامية عنيفة في مناخ دائم التوتر. استعادة دائمة لعناصر الذاكرة التي تحدد الحدث في كثير من الحالات. فالاسلبة هي قوام أسلوب كنون التعبيري الذي يستمد زخمه من الشحنات الانفعالية. لكن اسلوبه يذكر في نواحٍ كثيرة بعالم "المسرح الجديد" وتحديداً بالفاضل الجعايبي وأسلوبه. وهذا يقودنا الى طرح قضية شائكة من قضايا المسرح التونسي لا مجال لمعالجتها في هذا السياق.