كان الكاتب والمخرج اللبناني جلال خوري الذي رحل ليل أمس عن ثلاث وثمانين سنة، في طليعة المسرحيين العرب الذين وصفوا ب «البرشتيين» تبعاً لانتمائهم إلى مدرسة الكاتب المسرحي الألماني الكبير برتولت برشت (1898-1956) تأليفاً وإخراجاً، عطفاً على نظرياته التي أحدثت ثورة في تاريخ المسرح العالمي. ولئن استهل خوري مساره مطلع الستينات في المسرح الفرنكوفوني الذي أطلقته مدرسة الآداب العليا، فهو لم يلبث أن اختار الهوية البرشتية التي تعرّف إليها عن كثب خلال دورة التحق بها في المسرح الوطني الفرنسي في باريس، وعندما عاد في عام 1967 إلى بيروت شاء أن يكون عمله المسرحي الأول «وايزمانو بن غوري» مقتبساً عن مسرحية برشت الشهيرة «صعود أرتيرو أوي»، لكنه انتقل بها من هجاء النازية إلى هجاء دولة إسرائيل عقب هزيمة حزيران (يونيو) التي خضت الوجدان العربي العام. (راجع ص17) ولم يلبث خوري أن التحق بدورة مسرحية في برلينالشرقية ورافق أعمال مسرح «البرلينر أنسامبل» الذي كان أسسه برشت واستمر بعد رحيله. أصر خوري على انتمائه إلى مدرسة «الأستاذ» كما كان يصف برشت، قائلاً: «أنا تلميذ متواضع لبرشت، حاولت اتباع تعاليمه مئة في المئة». وكان عمله الاحترافي الثاني «سوق الفعالة» الذي قدمه في 1969 مقتبساً عن مسرحية برشت «السيد بونتيلا وخادمه ماتي». وعام 1971 شاء أن يخرج عن السياق البرشتي فكتب مسرحية «جحا في القرى الأمامية» التي لقيت نجاحاً وكرسته كاتباً على رغم استيحائه بعض معالمها من مسرحية «الجندي الطيب شفايك» للكاتب التشيخي المعروف ياروسلاف هاشيك. لم ينكر خوري أنه أسقط ملامح من شخصية الجندي شفايك على شخص جحا مانحاً إياه مواصفات النضال في مزيج درامي زاد من لبنانية جحا الجنوبي. إلا أن النص المسرحي الذي كتبه من غير عودة إلى أي مرجع غربي كان نص «الرفيق سجعان» الذي أخرجه عام 1974 أي قبل سنة من اندلاع الحرب الأهلية التي كان لها أثر عميق في مسار الكاتب والمخرج البرشتي، بل اليساري غير المؤدلج، والذي تحتاج برشتيّته إلى قراءة نقدية هادئة. خلال هذه الفترة بين مطلع الستينات ومنتصف السبعينات، شارك خوري في تأسيس ما سمي المسرح السياسي اللبناني مع نخبة من المسرحيين الطليعيين من أمثال الكاتب عصام محفوظ ويعقوب الشدراوي وروجيه عساف ونضال الأشقر وأسامة العارف وسواهم. هذا المسرح السياسي الذي انبثق من صميم مرحلة الالتزام والنضال والتحرر، مرحلة صعود القضية الفلسطينية، رافقته حركة مسرحية لبنانية رائدة أيضاً مع أعمال منير أبو دبس وأنطوان ملتقى وشكيب خوري وريمون جبارة وسواهم. وكان جلال غالباً ما يؤثر صفة المسرح الملتزم التي أخذها عن برشت عوض المسرح السياسي، وقال مرة موضحاً رأيه هذا: «إننا ملتزمون بالواقع وليس بأي أيديولوجيا». ولعل واقعية خوري هي التي جعلته ينتقل، بعدما اندلعت الحرب الأهلية إلى مسارح المنطقة الشرقية من بيروت، وراح يقدم أعمالاً اختلفت تماماً عن مرحلته الذهبية ومنها ما هو كوميدي شعبي وتجاري في أحيان (كذاب، فخامة الرئيس...). ثم اختار أن يمارس اليوغا ففتحت له طريقاً إلى المسرح الآسيوي والمسرح الروحي فقدم «هندية راهبة العشق» و «مختار» وهي رحلة متخيلة إلى عالم الروحانيات الهندية. غير أن المسرحية التي أثارت جدلاً واسعاً كانت «زلمك يا ريس» التي قدمها عام 1981 في جونيه برعاية قائد «القوات اللبنانية» حينذاك بشير الجميل، وهي اقتباس لمسرحية برشت «صعود أرتيرو أوي» التي كان اقتبسها في بعدها اليساري عام 1968. انقسم النقد حول هذه المسرحية وحول صاحبها وأخذ عليه انتقاله المفاجئ من موقع اليسار إلى موقع اليمين. لكنّ جلال التزم في هذه المسرحية التعليمات البرشتية بحرفيتها. لم يكن يضير جلال أن يقدم أعماله خلال الحرب في المنطقة الشرقية التي يسكنها أصلاً، فهو كان مسرحياً ملتزماً وغير مؤدلج وغير حزبي، كان مثقفاً حراً ومنفتحاً على رياح التغيير.