حين قصدنا الأديب السعودي غازي القصيبي في مناسبة صدور آخر مجموعاته الشعرية "واللون عن الأوراد" منشورات "إيكوز"، لندن، كان يدور في ذهننا الكثير من الاجتهادات والتساؤلات. وما ان استقبلنا الاديب بابتسامته المعهودة، خالعاً قبعة السياسي والديبلوماسي ليعود ذاك الشاعر الذي بدأت مغامرته مع الشعر وهو في الخامسة عشرة من عمره ... حتى تفرعت الأسئلة لتشمل الشعر والأدب وقضايا ثقافية وفكرية عامة. تناول صاحب "شقة الحرية" دار الريس، الطبعة الثانية، 1995 مسائل وقضايا عدة بينها: شعر الحب والرومانسية، الحداثة والتحديث، الذاتية في الادب، روايته كشهادة عن زمنها، المسافة بين الشعر والرواية، خيبات جيله، نجاح الدولة القطرية، اسئلة الهوية التطبيع الثقافي مع اسرائيل. وتطرق الحديث ايضاً الى عظمة المتنبي، هاجس دخول التاريخ، علاقة الشعر بالسلطة، المراكز الثقافية في العالم العربي، الشعر العامي، الاحساس بمرور الوقت، علاقة النقد بالابداع، أذواقه الشعرية ورأيه بمعاصريه. وننشر في ما يأتي الحلقة الثانية والأخيرة من هذا الحوار الطويل الذي تميز بالجرأة والصراحة والتنوع. هناك سؤال لا بد أنه طرح عليك مراراً، لكننا لا نقاوم اغراء طرحه مجدداً. كيف يوفق غازي القصيبي بين الديبلوماسية كعمل عقلاني وعادىء، والشعر بما هو فعل تمرد دائم وابتكار يتخطى أحياناً حدود العقلانية؟ - هذا السؤال كان له مبرر في مرحلة تاريخية سابقة لم يكن للشاعر فيها من عمل سوى الشعر ... ايام كان عمله الوحيد في بلاط الخليفة، ولا اقول ذلك في معرض الذم. كانت تلك الوسيلة الوحيدة امام الشاعر كي يعيش. قصة بشار بن برد مشهورة كما تعرف، عندما سأله سائل ماذا تعمل؟ فأجابه: "قبحك الله. ترى شيخاً اعمى، ينشد الخليفة شعراً ... وتسأله ما عملك؟". وهذه الظاهرة وجدت في الغرب ايضاً حيث كان الشاعر يعيش في البلاط. وهكذا فالسؤال عن التوفيق بين الشعر وعمل اخر، ناشئ من مرحلة تاريخية كان يسود فيها الاعتقاد ان على الشاعر ان يكون شاعراً فحسب. اما الآن فتغيرت الحياة، وأصبح لا بد ان تكون شاعراً وأشياء أخرى. لم يعد الشعر وظيفة، ماذا تريد للشاعر ان يفعل؟ اذا كان مدرساً، ستسأله كيف يوفق بين التدريس والشعر، كما سئل ابراهيم طوقان حين قال: "أقعد فديتك هل يكون مبجلاً من كان للنشء الصغار خليلاً؟" وذا كان جزاراً، سيأتي من يقول: "العياذ بالله ... جزار وشاعر؟!". واذا كان صحافيا سيجد من يسأله عن التوفيق بين الصحافة والشعر. واذا كان سياسياً هناك الطامة الكبرى ... لكن التدريس والصحافة أقرب في نظر البعض الى الشعر من السياسة ... - لكن يجب ان تكون شيئاً ما. قد تكون طبيباً وشاعراً. اعتقد ان هذا السؤال لم يعد مطروحاً منذ توقف الشعر من ان يكون مهنة. الديبلوماسية مهنة مثل سواها. الديبلوماسية عمل. ليس هناك تعليمات ثابتة وضعها مجلس اعلى تحدد مواصفات الديبلوماسي على هذا الشكل او ذاك. لو جلست في حضرة جمع من الديبلوماسيين، لوجدت احدهم سمجاً والآخر خفيف الظل، أحدهم عصبياً والآخر هادىء الاعصاب، احدهم غبياً والآخر ذكياً. وهكذا فالشاعر يتعايش مع الديبلوماسي، كما يتعايش مع الطبيب والمهندس والجزار، وفي تراثنا يقول الشاعر الجزار: "كيف لا اعشق الجزارة ما عشت حياتي وأكره الآدابا وبها صارت الكلاب ترجيني وبالشعر كنت أرجو الكلابا؟". لنطرح السؤال بشكل اخر إذا. ما مدى تأثير عملك كديبلوماسي في الخارج، بما يفترضه من علاقات واحتكاك بأوساط ومجتمعات من بيئة أخرى، تختلف عن البيئة التي تأثرت بها وكتب لها وعنها؟ ... كيف تتجلى تلك التجربة الجديدة في ا لشعر؟ هل يكتب غازي القصيبي من موقعه في بريطانيا اليوم، بالطريقة نفسها التي كانت يكتب بها في البحرين، أو في السعودية؟ أم ان هناك تأثيرات أخرى دخلت الى التجربة الشعرية لتمنحها خصوصيتها؟ - كل تجربة تمر على الشاعر لا بد ان تنعكس بنحو أو باخر على ادبه، سواء كان تجربة حب او صداقة. بطبيعة الحال، الشاعر الذي عاش في مختلف البلاد تجتمع لديه حصيلة من التجارب لا يعرفها الشاعر الذي لم يخرج من قريته. لكن الشاعر الذي ظل ملتصقاً ببيئته، قد يعبر عن دقائق هذه البيئة افضل من ابن بطوطة. اما انا فيصعب علي ان احلل التأثيرات التي طرأت على تجربتي. لا استطيع ان اقول نعم ان وجودي في لندن واحتكاكي بالمسرح الانكليزي أضاف الى شعري هذه العناصر أو تلك ... لا استطيع ان اعي مدى تأثير هذه الاقامة على نفسي. شعري، كما قلت مرات عدة، ينبع عن تفاعل مع البشر، والبشر لا يتغيرون. وأعتقد ان تأثير كوني دبلوماسياً على شعري، أقل بكثير جداً مما يخطر على البال، وقد لا يوجد. أنت كشاعر من شبه الجزيرة التي انبتت العربية وشعرها الجاهلي، ومعظم شعر صدر الاسلام والعصر الأموي، هل تشعر بارتباط خاص بأصحاب المعلقات، كما بمجانين الحب العذري والعشاق الباحثين عن الجمال على طريقة عمر بن ابي ربيعة؟ وهل لديك كشاعر خليجي ارتباط خاص بهذا التراث الشعري، يختلف عن ارتباط شعراء من بلدان عربية اخرى؟ - أولاً الجزيرة، بمعناها الواسع جداً هي لكل العرب، هي مهد الحضارة العربية، مهد الجميع شعراء وغير شعراء. بهذا المعنى استطيع ان اقول ان الجزيرة، في وجدان كل عربي مهما كان دينه أو انتماؤه او ميوله. في ما عدا هذا الحقيقة التاريخية، لا استطيع ان اقول ان الجزيرة العربية بمعناها الجغرافي، لها مكانة شعرية متميزة عن بقية الاماكن في الوطن العربي. الكثير من الشعراء منذ عهود مبكرة أبدعوا في مناطق لا نعتبرها الآن من الجزيرة في جغرافيتها الحالية. في الاندلس مثلاً كانت هناك حركة شعرية مزدهرة. إذا، في ما يتعلق بالشعر، أنا لست شوفينياً. ولا اعتبر ان هناك حبلاً سرياً خاصاً يشدني الى شعراء الجزيرة دون غيرهم من الشعراء. بقدر ما يسعدني ان اقرأ شعر ابن هاني الذي لم ير نجد. اذا ليس هناك اي انحياز ولو امكننا تفكيك بنيتي الشعرية على طريقة البنيويين، لا اتصور أنني سأجد فيها جذوراً من شبه الجزيرة العربية اكثر من بقية الجزور التي ساهمت في تكوين شخصيتي الشعرية. حتى في ما يتعلق بطريقتك في تناول الحب في شعرك؟ - لا اعتقد ان الجزيرة احتكرت شعر الحب، فهذا الشعور البشري عرفه الاسكيمو كما عرفه أهل الجزيرة، وعرفه الناس في عصور ما قبل التاريخ، كما سيعرفونه مستقبلاً في كل زمان ومكان اشتهر بعض الشعراء في الجزيرة بشعر الحب، لكن ذلك لا يلغي شعر الحب عند غيرهم. هناك نقطة مهمة اسمح لي ان اوضحها. يسود الاعتقاد لدى البعض ان الشاعر يحب اكثر من غيره، وهذا هراء. المشاعر الانسانية ليست حكراً على الشعراء. أقول دائماً ان ألابكم مثلاً قد يكون اكثر انسان يعاني من مشاعر الحب او السعادة او الألم، وعنف هذه المشاعر ناشئ عن عدم قدرته على التعبير عنها. أعرف ان هذا الكلام لا يعجب كل الشعراء، ولا يعجب كل النقاد. ولكن أرجو ان نتخلص من هذا الوهم. لا يتميز الشاعر عن الآخرين بحساسيته او برهافة الشاعر عن الآخرين بحساسيته او برهافة مشاعره او بمقدرته على الحب. ما يميزه هو انه يملك الموهبة الشعرية لا أكثر ولا أقل. لم نسمع بمجنون ليلى لأنه اعظم عاشق في التاريخ، بل لأنه كتب شعراً مميزاً. قد يكون هناك عاشق اعظم منه بكثير، وقد يكون هؤلاء بين الذين يعملون معنا في المكتب. من أحببت من الشعراء القدماء وشعراء التجديد؟ - لو حاول اي منا ان يحصي الذين أثروا فيه، او ان يرصد العوامل المؤثرة على شخصيته وابداعه، لواجه فشلاً ذريعاً. أنا أردد دائماً انني تأثرت بكل كتاب قرأته، وبكل شاعر قرأت له. هناك في دماغ كل منا عشرة آلاف مليون خلية، وبين هذه الخلايا هناك خمسة وعشرون ألف قناة اتصال. وأعتقد ان اعظم كومبيوتر في العالم لا يستطيع ان يحلل التأثيرات المختلفة ويتابع حركتها في كل هذه الخلايا. قد تأتيك كلمة أو عبارة احياناً، سمعتها وأنت في الخامسة من العمر، او سمعتها في أغنية بعد سنين طويلة. لا بد اذاً من التسليم بأن عملية استقصاء التأثر مستحيلة، يبقى ان هناك شعراء يحبهم الانسان أكثر من سواهم ... من أحببت مثلاً؟ - في فترة طفولتي كنت معجباً بأشخاص، ومع تقدمي في السن راح اعجابي يتحول الى قطع محددة. هناك ربما استثناءان: ابراهيم ناجي في الشعر الحديث، والمتنبي في الشعر القديم أقرب الي من الآخرين، ولكن ليس في كل ما يكتبون. المتنبي عنده قصائد كاملة تافهة - اللهم احمني من مغبة هذا الرأي! - وابراهيم ناجي ربما كان خمس ديوانه قصائد مديح في وكلاء وزارة الأوقاف! لكن لو خرجنا عن هذين الاستثنائين، فأنا ألاحظ مع مرور السنوات، ان اعجابي هو بالشعر الجيد لا بالأشخاص. لذلك هناك عدد لا يحصى من الشعراء المعروفين او غير المعروفين الذين اعجبت لدى كل منهم بقصيدة، او حتى ببيت أو مقطع من قصيدة. اما اذا كان لا بد من تحديد الاسماء، فهناك المتنبي بين القدماء كما اسلفت، وناجي بين المحدثين، وان كان لا بد من اضافة شاعر من شعراء التفعيلة، فسأضيف اليهما أمل دنقل. الذوق الشخصي والمعيار الموضوعي ما هي، في الشعر القديم، القصيدة التي تمنيت لو انك كتبتها؟ - "الأطلال" لابراهيم ناجي. واذا طلبت واحدة ثلاثة قلت لك "لا تصالح" لأمل دنقل. ولو طلبت أكثر لأجبتك "انشودة المطر" واكتفيت بهذا القدر. ليس هناك اية قصيدة لأحد الشعراء الأحياء، تتمنى لو انك صاحبها؟ - كل الذين ذكرتهم أموات؟! ... - لم أكن أقصد تمويتهم يضحك. ليس هناك اية غيرة من الاحياء كنت اتمنى مثلاً ان اكتب قصيدة "أتعلم ام انت لا تعلم" لمحمد مهدي الجواهري وهو حي يرزق. كنت اتمنى ان اكتب قصيدة رثاء ... لكن عمر ابو ريشة مات رحمه الله كنت سآتي على ذكره. كنت اتمنى لو انني كتبت: "المسا شلال فيروز ثري وبعينيك ألوف الصور وأنا منتقل بينهما ضوء عينيك وضوء القمر". وكاتب هذه القصيدة هو الشاعر نزار قباني أمد الله في عمره. ليس عندي اي غيرة من الشعراء الاحياء. وأدونيس، هل هناك في شعره قصيدة تمنيت لو أنك كاتبها؟ - كلا. لكنني أفرق بين الاعتراف بموهبة وعدم التجاوب معها. ماذا تقصد؟ - عبدالوهاب البياتي شاعر عظيم بكل المقاييس، ولكني لا اتجاوب مع شعره. هذا ليس انتقاصاً من قيمة البياتي. عندك أدونيس، وهو شاعر عظيم بكل مقاييس العظمة الشعرية، ولكني لا استطيع ان اتجاوب مع شعره على الاطلاق. هناك ايضاً محمود درويش، وهو ربما من اكبر شعراء العرب في القرن العشرين. اما انا فلا أستطيع ان اتجاوب مع شعره. نحن نخلط دائماً، للأسف الشديد، بين ذوقنا الشخصي وبين المعيار الحقيقي والموضوعي. انا احسن التفريق بين هذين الامرين. هؤلاء الشعراء الثلاثة متفوقون، بكل مقاييس التفوق الشعري. ولكن ثمة مشكلة بين جهاز الارسال لديهم وجهاز الالتقاط عندي. هناك شيء في الجو يخلق التنافر. وفي الواقع كثير من المشاكل تنتج عن سوء التفاهم هذا. اذا سمعت شخصين يتحاوران بالفرنسية، لا اقول هذان الحيوانان عاجزان عن افهامي، بل اقول انني لا افهم اللغة الفرنسية. هناك شعراء لا استطيع ان اتجاوب معهم والسبب بسيط، اعتقد انه لا بد من نوع من الالفة بين تجربتك كقارئ وتجربة الشاعر. وبقدر ما تزداد درجة الالفة وأنواعها، بقدر ما يكون التجاوب بين الشاعر والقارئ أكبر. ولذلك انا اعتبر ان اعظم وسام يمنح لي هو شهادة قارئ يأتيني قائلاً: "عبرت عما يجيش في نفسي". او ان يأتي شخص ويقول لي: "قرأت قصيدتك البارحة وبكيت". هذا اعظم من ان تعطيني جائزة الدولة التقديرية. فمعنى ذلك ان هذا الرجل استطاع ان يجد ألفة نفسية بيني وبينه. أنا لا اتذوق عبد الوهاب البياتي مثلاً، مع انه يكتب كلاماً افهمه، كلاماً جميلاً وممتازاً ... وأشياء صوفية وتهويمات، وشيراز وفاطمة وغير ذلك ... ولكني لا أشعر معه بتلك الألفة النفسية. الكلام نفسه ينطبق على قصائد محمود درويش. خذ مجموعته الأخيرة "لماذا تركت الحصان وحيداً؟". قرأتها ثلاث مرات، والله كلمات رائعة وصور ومفردات جميلة، ومزج بين المعاصرة والتراث واللغة العربية ومكتسبات الحداثة، واستعمال لرموز بديعة جداً. لكن هناك حاجز بيني وبينه. هناك سد يمنع التواصل. وهذا طبعاً لا يقلل من قيمته. وعلاقتي بشعر أدونيس تدرج ايضاً ضمن هذا السياق. هو رجل متمكن من التراث. عندي اعتراض على مواقفه من التراث طبعاً اذ اعتبر ان موقفه اساساً معاد للتراث، ولا أظنه ينكر هذا فتجديده يقوم على نقض التراث، لكن لنتفاد الدخول في هذا الموضوع مكتفين بالكلام عن شعره. عندما أقرأه أشعر أنني امام شاعر عظيم، ولكن لا أشعر بأي تجاوب، بأي تآلف نفسي مع هذا الشعر. الشعراء يسعون الى دخول التاريخ، حتى لو لم يعترفوا بذلك. الى اي مدى عندك هاجس التاريخ في الكتابة؟ - ليس هناك اي انسان يكتب - حتى أنتم معشر الصحافيين - من دون هاجس التاريخ. بمجرد ان تكتب شيئاً وتنشره على الناس، وخصوصاً اذا كان ذا طبيعة ابداعية، لا بد ان تفكر في التاريخ. وكما ذكرت قبل قليل، فإن المعيار الوحيد للحكم على الأدب، هو المعيار التاريخي. هناك من يقول لي "لأنك فلان يضعونك في الصفحة الأولى"، صحيح. لكن في المعيار التاريخي، هذا ليس له اية قيمة. لا يحكم على الأدب في اعتقادي، الا بعد وفاة صاحبه، بفترة طويلة. لو أخذنا شكسبير، لرأينا انه بقي مغموراً لعقود طويلة، ثم عرف أدبه مرحلة طويلة اخرى من الهجوم، قبل ان يعود الناس فيكتشفوا انه اعظم شاعر انكليزي، وأن اللغة الانكليزية لم تنتج مثل شكسبير. تلاحظ اذاً ان البشرية استغرقت اربعة قرون كي تحسن تقييم شكسبير. والمتنبي على رغم الشهرة التي عرفها حورب بشدة في زمنه وكثر حساده. وفي قرننا هذا جاء من حاول ان يسيء الى المتنبي. بنت الشاطىء كتبت "المتنبي في قفص الاتهام"، وطه حسين وضع واحداً من أسخف الكتب عن المتنبي ... الآن نعيد اكتشاف المتنبي ونعترف اننا اسأنا تقييمه. خذ الروايات التي تعرف اليوم رواجاً منقطع النظير فتصل ارقام مبيعها الى ملايين النسخ، هل سيبقى منها شيء؟ ربما بعد عام او عامين لا يعود يسمع بها أحد. المعيار الحقيقي للقيم الأدبية يجب ان يندرج في سياق زمني تراكمي، يعبر عنه المعيار التاريخي. الضجة الآنية موقتة وزائلة. بامكانكم ان تنشروا قصائدي وصوري في الصفحات الأولى، وتمجدوني ليل نهار ... وطبعاً سيقول الناس ان الصحافة تجاملني لأنني سفير ووزير سابق. لكن بعد قرن اذا اعيد طبع شعري هل سيذكر الناس ماذا كنت؟ عندما تقرأ ابن المعتز، لكن ذلك لا يهمك، أنت تقرأ النص. اعتقد ان اي شاعر يزعم ان ليس لديه هاجس التاريخ يكذب! على ذكر المتنبي، ما يمثل بالنسبة اليك هذا الشاعر؟ ما هي الأبيات التي تخطر على بالك سريعاً حين يرد اسمه؟ - تعرف انه لم يكد يقول شيئاً في الغزل، باستثناء أشعار قليلة لا تذكر. اعتقد ان سر عظمة المتنبي - ولهذا كان يسمى ب"الحكيم" - انه استطاع ان ينقل التجربة بطريقة فنية فذة استطاع ان يحول تجربته الشخصية الى تجربة انسانية نابضة على نحو ندر ان نجح فيه شاعر آخر. ما أكثر الشعراء الذين حاولوا ان يعبروا عن لا جدوى الحب أو مأسويته. لكن من الذي توصل الى مثل هذا البيت: "نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال"؟ هكذا عبر الشاعر عن تجربة نفسية يمر بها كل انسان، وحولها الى حقيقة شعرية ملموسة وصورة أخاذة. أو خذ مثلاً قوله: "ولقد بكيت على الشباب ولمتى مسودة ولماء وجهي رونق حذراً عليه قبل حين فراقه حتى لكدت بدمع عيني أشرق". هذا الخوف المبكر من الآتي لا محالة، عبر عنه وهو شاب صغير. والمتنبي خير من عبر عن الضعف البشري في مختلف نواحيه. يقول مثلاً: "ألف هذا الهواء أوقع في الأنفس أن الحمام مر المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز والأسى لا يكون بعد الفراق". اعتيادنا على الحياة جعلنا نخاف من الموت، ولكن في الواقع لا داعي للخوف. المتنبي شعره مليء بهذه الومضات، التي تنقلنا من التجربة الذاتية الى قانون عام للسلوك البشري، وذلك بطريقة رائعة. وهذا هو السر الحقيقي لموهبته. اعتقد ان مرور الزمن يجعلنا نعي اهمية شعره اكثر فأكثر. هناك من سيجد في هذا الشعر انعكاساً لاجتهادات فرويد ولما أثبتته نظريات علم النفس الجديدة يقول المتنبي: "اذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عداته وأصبح في ليل من الشك مظلم" تصور مثل هذا الكلام كيف كان سيفهم تلك الأيام؟ اذا عرضت هذين البيتين على طبيب نفسي الآن، سيقول لك بالفعل هذه هي "البارانويا"! المتنبي عبر بروعة عن الضعف البشري. ما اكثر الشعراء الذين عبروا عن القوة ... اما شاعرنا فعبر عن الطمع مثلاً، اعترف بأنه رجل طماع، وفعل ذلك بشجاعة ونزاهة. لنسمعه مثلاً يقول: "أبا المسك هل في الكأس شيء أناله؟ فإني أغني منذ حين وتشرب ...." أو يقول: "وليس كثيراً ان يزورك راجل فيرجع ملكاً للعراقيين واليا". لم يستنكف المتنبي عن التعبير عن هذه النوازع في نفسه. وعبر عن التناقضات البشرية، وهنا سر عظمة المتنبي الذي لم يبق اسير صورة مصطنعة يملكها عن نفسه. عندما شعر بالغضب، قال شعراً في الغضب. وكذلك الامر بالنسبة الى الطمع. ولذلك فكل شعره صادق. عندما يمدح كافور فهو صادق، وعندما يهجوه صادقاً. ولكن لا ينبغي ان نحول اللقاء كله الى محاضرة عن المتنبي ... المتنبي كان ايضاً عاشقاً للسلطة ... - وعبر عن هذا العشق. تحلى بكثير من الشجاعة في التعبير عن نوازع النفس البشرية. شاعر آخر من الدرجة الثانية كان سيخجل من المجاهرة بكل تلك الاهواء. اما هو فكشف عن مواطن ضعفه من دون حرج. ولكن المتنبي لم يعشق في النهاية الا نفسه. انا أجد ان كل شعر المتنبي لا ينطوي في النهاية الا على عشق واحد، هو عشقه لنفسه. وهذا العشق هو الذي اعطى أبياتاً مثل: "أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصاً عليها مستهاماً بها صبا فحب الجبان النفس اورده التقى وحب الشجاع النفس اورده الحربا". مع انك لا تحب التحديدات الجغرافية، هل يمكن ان نطلب منك كلمة نقد، او تعريف على الاقل، بالابداعات السعودية - الخليجية عموماً - شعراً ونثراً؟ الى اين يسير هذا الابداع، وما مدى التلاقي والافتراق بين مشكلاته ومشكلات الابداع العربي بشكل عام؟ - عندنا في العالم العربي منذ القدم مراكز ثقافية وأرياف. والمراكز الثقافية ظلت نفسها عبر قرون طويلة. في العصر الحديث تراوحت بين القاهرةوبيروت، وأحياناً دمشقوبغداد. وبقية العالم العربي ظل اريافاً ثقافية من المغرب العربي الى الخليج. وكان المركز على الدوام يفرض نفسه على كل الاطراف. كل تيارات التجديد، وكل الحركات الفنية والادبية، انطلقت من المركز وأثرت على الاطراف بعد ذلك. اساساً لم يكن عندنا ما يسمى بالأدب الخليجي او الأدب المغاربي ... كان عندنا اديب عربي، وكان مركزه القاهرة، وفي الدرجة الثانية بيروت، وفي الدرجة الثالثة بغدادودمشق. أنا اعتقد ان هذه الصورة بدأت تتغير اليوم. تطور المواصلات ووسائل الاتصال والتواصل وانتشار التعليم ، جعلتنا اكثر اطلاعاً على ما يحدث. بدأنا نسمع بالتجارب الجديدة، وظهرت مواهب واسماء في المناطق التي لم تكن معروفة من قبل. لكني اكره ان اتحدث عن "أدب خليجي"، وأرجو ألا يأتي اليوم الذي يوجد فيه "أدب خليجي"... لماذا يا أخي أدب خليجي؟ انه ادب عربي، روافده ومنطلقاته واحدة ومشتركة مع سائر الاعمال والتجارب في كل ديار العرب. يعادي الأمة العربية في رأيي من يتحدث عن أدب خليجي، الا بالمعني الجغرافي المباشر. لماذا يكون للأدب الخليجي خصائص معينة؟ يكفينا التشرذم السياسي، لماذا نتركه ينعكس على الساحة الثقافية؟ الثقافة هي عنصر جمع وتوحيد. لا اعترف بوجود أدب مغاربي او خليجي، فالأدب العربي واحد. هناك بعض الخصوصيات والتعبيرات عن اشكال محلية طبعاً، كفولكلور صيادي اللؤلؤ في الخليج مثلاً، وفي الصعيد المصري هناك بصمات محلية، وهناك بعد حضاري افريقي وبربري في ثقافة شمال افريقيا. هذه روافد، ولكن الأدب العربي في توجهاته الرئيسية، في مشاكله وهمومه واحد. ماذا عن "الحركة الأدبية في الخليج" اذاً؟ أين يمكن اليوم ادراجها في السياق العربي العام؟ - الحركة الأدبية في الخليج ليست الا انعكاساً لما يحدث في المركز. الوضع في الخليج لا يختلف عما هو عليه في سائر "الأرياف الثقافية". حركات التجديد ستجد لها اصداء والنزعات المحافظة ايضاً. وانا لا استطيع ان اتبين وجود ادب خليجي، شعراً وقصة ورواية، له هوية تختلف عن بقية أجزاء الوطن العربي. وأرجو الا يأتي هذا اليوم. أرجو الا نشجع هذا الاتجاه. لماذا نخاف من الشعر النبطي؟ - ليس عندي مشكلة مع الشعر العامي. دائماً أقول ان الشعر العامي، وشعر "النبط" تحديداً، والشعر الفصيح بامكانهما ان يتعايشا، وقد تعايشا منذ مئات السنين. لو رجعت الى كتب التراث، هناك اشكال ك "الدوبيت" و"المواليا" عمرها أكثر من الف سنة. فجأة في الفترة الأخيرة حصل شيئان: من جهة انفجار على مستوى الشعر النبطي، بحيث ان كل الناس عندنا بدأوا يكتبونه، خصوصاً البنات. وحصل خوف في الجانب الآخر من تأثيره على شعر الفصحى. اما انا فليس عندي اي خوف، يسهل لهذين النسقين ان يعيشا جنباً الى جنب. الشعر النبطي، يعبر عن اشياء لها خصوصيتها في حياة الجماعة، الحياة القبلية والحياة الصحراوية. واعتقد انه سيبقى ما دامت مبررات بقائه قائمة. انا شخصياً لا أتذوق الشعر النبطي. انه مكتوب بكلمات كثير منها افهمها، لكنني لا اعرف بالضبط ماذا تعنى لقائلها، باستثناء قصائد الامير خالد الفيصل. انا دائماً أقول له: "أنت شعرك نبطي، ولكنه يختلف عن الشعر النبطي السائد، ويقترب من الشعر الفصيح ... سواء في المعاني او الصور". هل هناك علاقة بين النفط والشعر؟ - العلاقة الوحيدة التي اراها هي ان عبارة "النفط" تعني النبع. والشعر ايضاً ينبع. هل ترى اية علاقة أخرى بين الشعر والنفط؟ متى كتبت أول قصيدة - كنت في الثالثة عشرة من العمر. ما الذي يفعله العمر بالشاعر؟ أنت اليوم في الخامسة والخمسين، ما وطأة العمر عليك شخصياً؟ - الشعراء العرب بالذات، حسب اعتقادي، يعانون من مشكلة مع العمر. وربما كان السبب هو قصر متوسط مدى الحياة نسبياً ذلك الوقت. ترى الشاعر مثلاً يتصور ان الثلاثين هي نهاية الحياة. وأنا عندي مشكلة مع العمر، والارجح انها جزء من التركة التاريخية. لا يوجد شاعر عربي حسب علمي، الا وتحدث عن موضوع العمر بحسرة شديدة. واعتقد ن هذه خصوصية من خصوصيات الشعر العربي لم اجدها نفس الالحاح في الآداب الاخرى التي اطلعت عليها. في الشعر العربي، لا يمكن ان تقرأ لشاعر تجاوز الاربعين من غير ان يذكرك الف مرة في القصيدة الواحدة انه تقدم في السن. بلند الحيدري عنده ديوان اسمه "قصائد في الاربعين"، نزار قباني يقول "فقد احبك في الخمسين من عمري" ... هذا بالنسبة الى الشعراء العرب يكاد يكون خصيصة نفسية، وانا اشعر بها بشكل بتجاوز حدود المنطق، ويكاد يكون "فوبيا". "الشعرات السود في مفرقي ..." تخاف من العمر؟ - أشعر بوطأته بشكل غريب، ومرضي. والاصدقاء الذين في سني من غير الشعراء، يتضايقون مني. يذكرونني انهم مثلي ولكنهم يكبرون من غير شكوى. فلماذا لا أسكت وأريحهم؟ انا عندي شعور بمرود الوقت يتجاوز شعور الانسان العادي. هل هذا الشعور ناجم في جزء منه، عن الاحساس بأنك لم تكتب بعد ما تريد كتابته؟ أو بأن هناك اشياء تريد تحقيقها وتخاف ان يضيق الوقت ويتعذر تحقيقها؟ - ليست العملية واعية لدي الى هذا الحد، ولا اظنها نتيجة حسابات منطقية أظن انها حالة لا شعورية موروثة من تاريخنا الادبي. كتبت قبل سنوات طويلة: "الشعرات السود في مفرقي تحجب عنك الخافق الاشيبا والشمس في الافق ولكنني ألمح خلف المشرق المغربا". أتعرف كم كان عمري حينها؟ أقل من عشرين عاماً! عندما يكتب الشاعر عادةً، يضع نصب عينيه قارئ هو "القارئ رقم واحد" للقصيدة. - ليس عندي مثل هذا القارئ، ولا يدور في ذهني عندما اكتب الصيدة احد. لا يوجد انسان هو اول من يقرأني. كل قصائدي عادة يقرأها الناس في وقت واحد عندما تنشر. يندر جداً ان اضعها بين يدي احد قبل ان تنشر. الى اي مدى تتأثر بالنقد الذي يتناول نتاجك؟ - هذه الحساسية تتناقص مع العمر. عندما كنت في الخامسة عشرة كنت اذا سمعت نقداً لا انام الليل. مع مرور الوقت اصبح المدح يزعجني أكثر من اي شيء اخر. عندما تصل الي مقالة مليئة بالمدح ارميها، وأفضل ان اقرأ النقد. وهل يأتيك النقد بشيء جديد؟ - لا اعتقد ان هناك اديباً تعلم شيئاً من ناقد عبر التاريخ! درج الشعراء على نوع من التقليل من قيمة النقاد. الى اي مدى نجد عندك مثل هذا الميل؟ هل لديك انطباع ان الناقد ليس الا شاعراً فاشلاً مثلاً؟ - لا ان اقول للنقاد، لكم دينكم ولي دين. الناقد له مهمة تختلف نهائياً عن مهمة - أنا أكره كلمة "المبدع" - عن مهمة الشاعر. انا وظيفتي ان اكتب شعراً. الناقد وظيفته ان يحلل هذا الشعر، ان يصنفه وان يكتب عنه الدراسات والاطروحات الاكاديمية، وان يدرسه في الجامعة. اي ان مهمته تختلف كلياً عن مهمتي. لا أنظر اليه لا نظرة فوقية ولا نظرة دونية. لا أكرهه ولا أحبه. لا احتقره ولا احترمه. له مهمته ولي مهمتي وكما ذكرت قبل قليل، لا اعتقد ان هناك كاتباً يتعلم من النقد. الشعر عملية ابداعية، عندما تأتي لتقول لي هذه الكلمة موضعها ليس مناسباً مثلاً، فهذه عملية عقلية لا علاقة لها بالعملية الابداعية. عندما اخترت الكلمة قمت بذلك لأسباب نفسية وشعورية، لو جاء ألف ناقد طالباً تغييرها لما اقتنعت معهم اختيار الكلمة وموضعها لهما وظيفة محددة وحميمة هي التعبير عن نفسي. الادب هو عبارة عن وسيلة تعبير ووسيلة اتصال، وأحياناً قد يكون بين الوسيلتين نوع من التضارب. كوسيلة تعبير انا اعبر عم في نفسي، لا يهمني ان كان ذلك سيعجب المستمع او لا. ولكن في الوقت نفسه، لا بد لي ان آخذ بعين الاعتبار انني اعيش في مجتمع، ولا بد من بعض التسويات ومن التوفيق بين معطيات عدة حين اكتب كي اصل الى الناس. وهذه التسوية بحثاً عن حل وسط تتم بطريقة عفوية لا شعورية. انا اكتب للناس، فلا بد اذا ان اكتب شيئاً يفهمه الناس. ولكن اذا تعارض الشعر كوسيلة ايصال، مع الشعر كوسيلة تعبير، فسوف تبقى الأولوية للشعر كوسيلة تعبير. ولهذا السبب لا يستطيع الشاعر ان يتعلم من النقاد، لأن الناقد لا يستطيع ان يضع نفسه في المختبر الذي انتج القصيدة. أرحب بعمل الناقد، لكن يجب الا تختل المقاييس، فالأديب يؤدي مهمته، وكذلك يفعل الناقد. "كلانا ناظر قمراً ولكن ..." هل وجه ما يسمى بأزمة التواصل مع القراء؟ - يبدو انني لم اواجه هذه المشكلة. اكتب الشعر منذ ما يزيد على الاربعين عاماً، ولم اسمع يوماً ان هناك من لم يفهم شعري. ليس في شعري ألغاز وطلاسم ... حتى ان هناك من النقاد من قال اني لا استطيع ان اكون غامضاً، او ان اكون رمزياً، حتى لو حاولت. وهذا في النهاية هو حكم النقاد وانا لا استطيع ان اعرف موقع نصى الشعري من النقاد. ولكنني لم أجد يوماً من الايام صعوبة في الوصول الى الناس. الشعر كأي عمل أدبي، يجب ان يكون غامضاً الى حد ما وقابلاً لأكثر من تفسير. اعتقد ن هذا من شروط الأدب الحقيقي، والا فسيصبح مثل نصوص القوانين. لا بد ان تجد في الشعر اشياء قابلة لأكثر من تفسير، لكن قابلية الشعر لأكثر من تفسير لا تعني عدم فهم الناس له. خذ بيتي الشعر العربي الشهيرين: "رأت قمر السماء بذكرتني ليالي وصلها بالرقمتين كلانا ناظر قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني" لم أجد اثنين اشتركا في فهم واحد للبيت الأخير. الشعر جميل وقابل للفهم، لكن بوسعك ان تخضعه لأكثر من تفسير. أنا لم يواجهني يوماً قارئ بقوله "لم أفهم ما قلت" قد يقول لي انه فهم شيئاً آخر يختلف عن قصدي او عن فهمي، ولكن هذا لا يجوز. من حق القارئ بقوله "لم أفهم ما قلت". قد يقول لي انه فهم شيئاً آخر يختلف عن قصدي او عن فهمي، ولكن هذا يجوز. من حق القارئ او الناقد ان يفهم النص بشكل مخالف للمؤلف نفسه. رواج الشاعر يخلق دائماً عداوات. هل لديك عداوات؟ - انا طيلة حياتي ربما لم أحيي أكثر من عشر امسيات شعرية. لا أؤمن بالامسيات الشعرية. ولم اشارك في منتدى أدبي او شعري واحد، ولا انوي المشاركة. يكاد يكون اصدقائي من الشعراء معدومين. عندما كنت طالباً كان الاصدقاء يقولون: "أنظر هذا شاعر كبير"، فأجيب: "وماذا تريدونني ان أفعل؟". ليس عندي اذاً لا عداوات ولا صداقات ولم ألاحظ ان هناك اي احقاد او اية غيرة جلبها رواج شعري. هناك عداوات تأتي من مواقف معينة يتخذها الانسان نثراً او شعراً، لكن هذا موضوع اخر لا علاقة له بمسألة الغيرة. هل هناك اشخاص يغارون وأنا لا اعرفهم؟ الاكيد هو انني لا اغار، ولماذا أغار؟ من اصل خمسة بليون انسان، لماذا لا يكون هناك عشرة آلاف او عشرون الف شاعر؟ ما المانع وأين الضرر في ذلك؟ وأنا أقيم نفسي بكل موضوعية. لست شاعراً كبيراً، ولست شاعراً كبيراً، ولست شاعراً من الدرجة الاولى، وادراكي هذا أراحني كثيراً. عندما يحاول البعض مقارنتي بنزار قباني انتفض، وأرفض رفضاً قاطعاً. نزار قباني ولا أجد داعياً للمقارنة. عندما يأتي احدهم ويقول لي: انت والسياب، أوقفه عند حده فالمقارنة حرام. السياب أشعر مني بكثير. أنا انسان يدرك ان لديه موهبة شعرية متواضعة. ربما لهذا السبب ليس عندي مشكلة. لا اعتبر نفسي لا مثل عمر أبو ريشة ولا مثل السياب، ولا مثل الجواهري ولا مثل نزار قباني ولم مثل امل دنقل. أعتبر نفسي في مستوى يقل عنهم كثيراً، وليس هناك داع لأي نوع من انواع الخيرة والحسد ربما لو كنت اعتبر نفسي نداً لهم لحصل هذا الشيء. وصدقني انا اتكلم بصدق، بعيداً عن التظاهر بالتواضع. الذين يتمتعون بموهبة من الدرجة الثالثة، قد ينظرون نحوي بشيء من الغيرة. هذا يجوز. اما انا فخارج هذه الدائرة وعندما اقع على شاعر لديه نفس موهبتي، أقول له اهلاً وسهلاً. واذا كانت موهبته تفوق موهبتي، ليس عندي ادنى مشكلة في الاعتراف بهذه الحقيقة. من "شقة الحرية" تفقد كلية الحقوق شكلها الطبيعي وتتحول الى ما يشبه معسكرات الاعتقال. سرادقات هائلة تغطي الارض وتمتد في كل اتجاه الاف من الطلبة يرتعدون، كأنهم اغنام تساق الى المذبح. والجو في الداخل يزيد الموقف رهبة مفتشون غلاظ شداد في كل مكان يصرخون وعلى وجوههم شبق عارم الى اصطياد طالب لئيم متلبس بالغش. وباعة المرطبات يهرولون بين الطاولات. والعرق يتصبب من كل الوجوه. ويدخل استاذ المادة يرافقه فراش يحمل اوراق الاسئلة. وتوزع الاوراق. بغتة، تنطلق صرخة من هنا ويغمى على فتاة ويهرع اليها الممرضون. بغتة، يغمي على طالب، بلا صراخ. صوت نشيج هناك. دموع بلا نشيج هنا. الطبعة الثانية، ص 174 *** لماذا عاد الى القاهرة؟ كان الزيارة مأساة من بدايتها الى نهايتها. ترك القاهرة في الصيف وهو احد بنائها وعاد اليها، في ا لخريف، زائراً فرق شاسع بين صاحب البيت والضيف مهما كانت حرارة الحفاوة. لم يتغير شيء في الظاهر، وتغير كل شيء في الحقيقة. تغير النمط اليومي. لم يعد طالباً يجب ان يصحو مبكراً ليحضر المحاضرات. عيشه تسميه الآن "الاستاذ فؤاد" بدلاً من "سي فؤاد" القديمة الانيقة. العم زكريا البواب يحييه بقدر مبالغ فيه من الاحترام. والكلية، بدورها، لم تتغير من الخارج، ولكنها تبدلت تماما من الداخل. الشيخ ابو زهرة لا يتكلم معه كما يتكلم مع الطلاب. والجرسونات يعاملونه كما يعاملون اعضاء هيئة التدريس. يشعر وهو يتجول في ردهات الكلية كما لو كان جاسوساً أرسل من جهة معادية لمراقبة الطلاب والطالبات. الطبعة الثانية، ص 460