1 منْ "شعر العرب" إلى "شعر الغرب" تبدّل ما لا يقبلُه المشرقُ إجمالاً. في الخطابات التي يعسُر حصرُها. كتاباتٍ. حواراتٍ. دراساتٍ. تعاليق. تحقيقاتٍ. ما لا يقبله، وقد تبدّل، هو مصيرُ القصيدة العربيّة. كان ابنُ خلدون تناول مسألة اللغة العربية والأعمال الشعرية في المغرب بدلالته الواسعة وإفريقيا، فكتب "وأما منْ سواهُم من اهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجْرَوْا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النّظر عن التفقّه في تراكيبِ كلام العرب". ثمّ كتبَ في فقرة لاحِقة "وكذلك أشعارُهم كانت بعيدةً عن الملكة نازلةً عن الطبقةِ ولم تزلْ كذلك لهذا العهد". قوْلتان تصِفان علاقة أهلِ المغرب وافريقيا بلُغة العَرب وشعْرهم. يتحاشَى ابنُ خلدون المْطلقات، عندما يتناول الأندلس منفصلة عن المغرِب وإفريقيا، فيما هو يرصُد وضعاً شعريّاً يقف عند العصر الذي عاش فيه. هناك من يعتقدُ أن وصفَ ابن خلدون ينطبق على الأندلس والمغرِب وإفريقيا، ثم يتوهّم ان هذا الوصف يمتد عبر الزّمان، وأن الوضع اللغويّ والشعريّ في المشرق أبديٌّ. لا محيد عنه. وهما معاً لا يصيبان في معرفة ما الذي جرى. لأن اللغة العربية والشعرَ تاريخيّان. كان الأصمعيُّ ثم ابنُ الأعْرابيّ أكثر صواباً في وصْف الحالات المتبدّلة. لكنّ الأسبق هنا، في التحليل، ليس القديم، الذي لهُ تاريخٌ لا نعرفُ لحدّ الآن كيف نتعامل معه ولا من أين نبدأُه هل من اللّغةِ، أم من الجغرافية. لا نهتمُّ بهذا القديم. كل شيءٍ لدينا جاهزٌ ومنتهٍ. الأسبقُ، الذي أتناوله، هوَ الحديثُ الذي لم يعُد فيه "شعرُ العرب" مصدرَ القالَب ولا المَلَكَة. أقصدْ الشعر الحديث بالعربيّة الفُصحى وبالعربيّات الخاصّة، دونما نسيان ما حدث في اللّغات غير العربيّة، المتواجدةِ في المغرب والمشرق على السّواء. وهو ما لا نفكّر فيه ايضاً. لنقل إن الانتقال من "شعر العرب" الى "شعر الغرْب" أقام حاجزاً بين الزّمنيْن، القديم والحديث. العربيةُ الفصحى هي أول إشارة على وجود زمنين عربيّين متباينيْن، لغوياً. شعرياً وأدبياً. هذه الواقعةُ الكبرى تُهيْمِن عليها التّرجمة، وهي تتطلّب الإبرازَ بما يكفي من الإلحاح. وهو أوّل ما لا يقبلُه العرب ويُجاريهم المستشرقون في هذا الزّعم عندما يصفون العربيّة بمعيار واحدٍ هو ما يُطلقون عليه اسم العربية الكلاسيكيّة. إن العربية الحديثة ذات بُنْيةٍ ليست هي القديمة، رغم عودة المعجم وقواعد النّحو والصرف. 2 ما تبدّل هو ما ننْساه، ونُلْقي به الى هاوية اللاّمفكّر فيه. إنّه الترجَمَةُ وفعلُها في التّحديثِ الشعريّ. في القالَب والملَكَة. فالانتقالُ الى "شعر الغَرْب" يعْني المعرفة باللّغات الأجنبية، الفرنسيّة والإنجليزية في المقام الأول، من حيث التّحقيبُ التاريخيُّ، ثم المعرفةَ باللغات الأخرى، التي أصبح العربُ يُتقنونها، منذ الثمانينات. تاريخٌ آخر، لا نطلُّ عليه حتى الآن. المعرفة باللّغات معناها تعلّم اللغات، في المدارس والجامعات. من هاتين المؤسّستين الى القراءة الشخصيّة الفردية، تلك هي طريقُ التّرجمة من لغة الى لغة. ومن قصيدة غربيّة الى قصيدةٍ عربية. تعلّم ا للغات، بهذه البنْيات التّعليمية والثقافية، كان فيه للمشرق سبقٌ تاريخيٌّ. لكنّ زمن تعلُّم اللغات لم ينحصر في المشرق ولم يثبُتْ فيه. هو زمن متحرك من المشرق الى المغرب. فالمغاربةُ تعلّموا وأتقنوا الفرنسيّة أولاً ثم فئة تعلّمت وأتقنت الإسبانيّة والإنجليزية في الفترة ذاتها أو في فترةٍ لم تبتعد عن الأولى. إن ظهور البعثات التعليمية الى فرنسا ثم إنشاء الجامعة المغربيّة كان له الأثر الحاسمُ في الإبدال الثقافي والشعري بالعربيّة. ذلك هو العنصر الأساس الذي حقّق ما لا يقبل به المشرقُ. أي أنّ المرجعية الغربية، التي قامتْ عليها عمليةُ الانتقالِ منْ "شعر العرب" الى "شعر الغرب"، أصبحت ممكنةً في المغرب كما كانت في البداية مصدراً للتّحديث الشعري في المشرق. لا أعني هُنا معنى امتلاكِ اللغة ولا درجةَ امتلاكها من فترةٍ الى أخرى ولا من مجموعة شعريّة الى سواها. ما أرمي إليه هو ما تحقّق. في المعرفةِ باللغات الغربيّة. في المغرِب بعد المشرق. ثمةَ واقعةٌ تحتاجُ بدورها الى تدقيق. إذا كان المشارقةُ نظروا، في العصور الخمسة الأولى من الزّمن القديم، الى الشعر المغربيّ من حيث هو شعرٌ لا يتطابقُ والنموذج المعترف به من طرفِهِم، فإن الحدِيثِينَ منهم، في زمننا، لم يُدركوا ما وقع في المعرفة باللغة الفرنسية في العصر الحديث. ثمة حكمٌ عام، سائدٌ لديهم، يتمثّل في كون المغاربةِ لم يعرفوا العربيّة في القديم ولم يعرفوها في الحديث. معرفتُهُم في الحديث مقتصرةٌ على اللّغة الفرنسية. كُتّابُ المغرب يكتبون بالفرنسية، أو يعرفون الفرنسية جميعاً. هذا ما يميّزُ الحكمَ السائد. تلك، مثلاً، قصة أبي القاسم الشّابي الذي تراسل معه زكي أبو شادي معتقداً أن الشّابي يعرفُ الفرنسية ويُتقنها. وهو ما يستمرُّ في الاعتقاد لدى شُعراء في زمنِنا. ولا أحد يصحّحُ أو يتدارَكُ. فالشابي، عكس ذلك، لم يكن يعرف الفرنسية. ولربّما بدون هذا الاعتقاد لم تكن للمُراسلة بين زكي أبي شادي والشّابي ان تتحقق. 3 ذلك تدقيقٌ يستدعيه الحكم السائد. معرفةُ المشرق بالمغرب ضعيفةٌ. بل إنّ المغربَ، في المنظور المشرقيّ السائد، معلومٌ. هو اسمٌُ لمنطقة لن تحيد عن تعلّم "شعر العرب". في ضوء متخيّلِ كهذا يكون أول الجاهلين بالثقافة العربية هم العرب. نطمئنّ الى جهلنا بأنفسنا وليضحكِ العالم. ثمة تدقيقاتٌ اضافيّة، لا بدّ منها، ليتّضحَ ما نجهَل. حتى حدود الستينات كانت النخبةُ المغربيِة منقسمةً على ذاتها من حيثُ التكوينُ اللغويّ. فئةٌ كانت تعرفُ العربيّة وحدَها وفئةٌ كانت تعرفُ الفرنسيّة وحدها. هذا هو العائقُ الكبير الذي جعل التحديثَ بالعربيّة معطوباً. لكنّ ذلك لا يعني ان الإبداعية المغربية مُفتَقَدة. إن كتاباتٍ إبداعيةً كبيرةَ الشأن كتبَها ونشرها كُتّاب مغاربةٌ بالفرنسيّة. تفسير ذلك لا يحتاج الى اجتهادات نظريّة مُعجِزة. فالمرجعيّة الفرنسيّة، التي اعتمدها هؤلاء الكتّاب، كانت متقدّمة من حيثُ الوعيُ بالتّحديث الشعريّ والثقافيّ عامة. وابتداءً من أواسط الستينات، ظهرت الجامعةُ المغربية ومعها نخبةٌ أصبحت، شيئاً فشيئاً، تمتلك اللغتيْن، العربيةَ والفرنسيّة أو العربية والإنجليزية. بهذا الامتلاك تهيّأ الوضع الشعريُّ الجديدُ بالعربيّة في المغرب. قصيدةٌ ستشرَعُ معالِمُها في الاتّضاح، مع السبعينيّات. قصيدةٌ أدركتْ أن التّرجمة ملازمةً للحداثة. في التّجربة الشعريّة الإنسانيّة الحديثة. خطوةٌ تليها خطوة. فعلُ التعلُّم. ان الشعر تعلُّم. ذلك هو الاكْتساب الذي تناوله ابن خلدون. و"المَلَكَاتُ اللسانيّة كلّها إنما تُكتسبُ بالصّناعة والارْتياض في كلامهم حتى يحصل شبهٌ في تلك المَلَكة". اكتسابُ اللغة واكتساب الشّعر. معاً. "شعر الغرب" في زمننا. بهذا اصبح التحديثُ الشعريّ بالعربيّة ممكناً باكتساب لغة غربية حديثة، ذات تجربة مرجعية على المستوى الدولي، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولغةٍ تسمحُ بالتعرّف على التجربة الشعرية العالمية في آن. التحديثُ الممكن بالعربية في المغرب هو ما يناقض الرّؤية الى الوضع الشعري العربي من حيث هو بسيط ودائم. المركّب والمتبدّل هو وحده الذي يحكُم هذا الوضع. منتقلاً من مكان الى مكان. مفاجئاً، لا تعرِفُ الخطاباتُ المشرقية السائدةُ كيف تقرأُه. تلك هي الوضعية التي لم تعد تخضع للقيم الشعرية القديمة، عند العرب، فيما هي تظلُّ مبعدة عن القراءة. وفي الحالتين معاً، هناك المُربِك. كيف نقرأُ ما يحدث في القصيدة المغربية الحديثة بالعربية؟ سؤالٌ لا يُطرح إلاّ إذا كنا، حقاً، مهمومين بمسألة التحديث الشعري وكنّا. في الآن ذاته، نستشعر اهمية مصير ثقافي عربي برمّته. في التّخلي عن تأملٍ كهذا نكون تقليديين، حتماً. ألم تكن زيارةُ احمد شوقي الى الجزائر شهادةً على وعي غافل. متكبّر مندَحر؟ بلى. إنّ احمد شوقي، الذي زار الجزائر، لم يرَ فيها إلا ما يمكن لأوروبي استعماريّ أن يراه. شوقي الواصلُ من باريس، قصْد الاستشفاء، بتوصية من طبيب فرنسي، لم يكن متواضعاً في الاقتراب ممّا هو مصيره الثقافي. نموذج أحمد شوقي تكرّر دائماً. في مراحل. وفي كتاباتٍ. وفي آراء. وهو ما يزال يفْعلُ في الوعي الجماعيّ للمُثقّف المشرقيّ عموماً. 4 في الانتقال، من "شعر العرب" الى "شعر الغرب" إذن، ما يُربك افتراضَ البسيطِ والدائم، الذي لم يكن حتى في القديم بسيطاً ولا دائماً. تلك رواية معجِبة. لكن الزمن الحديث يدلّنا على ما نريد ان نبلُغَه. مساءلةً. في استقراء ما يهمُّنا جماعياً. وعندما نلاحظ أنّ الخطابات المشرقيّة لا تكفّ عن تجنّب المعرفة نتساءل: هل ثمة وعيٌ ثقافي عربي حديث؟ هل الوعي السّائد مهمومٌ بمصير عربي؟ أو هلِ المصيرُ العربيُّ هو فقط ما يقتصر على منطقة دون سواها. المشرقُ، المهد واللّحد؟ شيء غيرُ قليلٍ من الشكوك. وأنا أرى ما يتكرر. في تجنّب المعرفَة. أي في عدم التّواضَع أمام ما حدث ولم يكن في الحسبان. هي بدايةٌ جديدةٌ لتاريخ شعريّ عربيّ في زمن ليس هو الزمن القديم. البداية تسمية لزمن وعالَمٍ بلغة تختلف عن لغة القديم. إن التسمية، هنا، وليدةُ منظومة ثقافية تتفاعل عناصرها. ونحن لا نقترب منها إلا من اجل إخفائها. تسمية تبحث عن قالبٍ وعن ملكة. في لحظة أولى. هي لحظة التعلّم. الاكتساب. وفي التاريخ المجهول لمغامرة القصيرة الحديثة بالعربيّة في المغرب يبقى السّؤال معلّقاً عما نعنيه بالثقافة العربية وبالمصير العربيّ. في البداية الجديدة ما لم يعد يخضع للقيم الشعريّة القديمة، وما لم يعد يخضع، أيضاً، للمتخيَّل المشرقيّ السائد الذي لا هو قديم ولا هو حديث. إنّه متخيل يتجنّب المعرفة بهِما معاً. فالتاريخ هو المحدد للمعرفة الشعريّة، وغير الشعريّة. مرجعيةٌ لا بد من النظر إليها كمُهَيْمِن: "شعر الغرب". وفي ذلك ما نُدركه ونحن نعثُر، الفينة بعد الفينة، على خطاباتٍ مشرقيّة تختزل "شعر الغرب" في النموذج الذي تخْترِعه للغرب. أو تمنعُ المغامرة التي لها حرّيتها. في الحالتينْ معاً تظل هذه الخطابات المشرقية معطوبةً. والتّواضع المطلوب في المعرفة الشعرية وسواها مُلغىً. في التاريخ الحديثِ نشأ المركزُ الثقافي العربيُّ. وفي التاريخ وحده تبدّل المركزُ ثم تفتّت. لا وجود، الآن، لمركزٍ ثقافي عربي. هذه واقعة اخرى يصعُب على متخيّل ما يزال ينظُر الى الزّمن الحديث في ضوء "شعر العرب" ان ينقُلها من المطلق الى النسبيّ. فالمركز، عبر العالم وعبر التاريخ، كان نسبياً وسيظل كذلك، فيما المشارقة، المشمولون برعاية المُغْلَق، يتمسّكون باللاتاريخيّة كلّما فاجأهم ما حدث ولم يكن في الحسبان. 5 حداثةٌ مركّبةٌ ومتبدّلة. لا يُلغي فيها المغربُ المشرق. دائماً. ولكن ما لا تقبل به هذه الخطاباتُ المشرقيّة يفيد ان شيئاً ما. تهدَّد. ولربما أصبح ماضياً بحدّ ذاته. خشية تُرعبُ وأنا أتابع يوماً بعد يوم. هذه العولمةَ التي تدمّر بفائق السّرعة ما لا نريدُ المحافظة عليه والدفاع عنه. بقوّة اعتقادٍ في مصير. مهما تهاوت قلاعٌ واختلط الرّماد بالرماد. في زمنٍ وفي ثقافة. أو وأنا أتابعُ خطاباتٍ مطمئنة الى وثوقيّة لا نفع فيها. كأنّما الصرخةُ. صرخةُ المعرفة لا تكفي. كأنّما الدمارُ حصادُنا الأبهى. باسمِنا يُنشأ. على أرض لها تاريخٌ مركّب ومتبدّل. في الجهات كلّها. هذا المصيرُ الذي يختنِقُ. على أيدي من يُنادون بملْكيتهم لحقيقة ان نكون. في مصيرٍ واحدٍ. ربما لن يكون مصيراً. ولن يكون واحداً. أيها الأصدقاء.