أمريكا: العثور على الطائرة المفقودة في ألاسكا ومقتل جميع ركابها    «إيلون ماسك» يشارك تغريدة قائد فريق النصر    «فائق وشريفة»: رفع علم المملكة حلم لكل رياضي    24 مليون مشاهدة تجسد تأثير كريستيانو رونالدو    جون دوران يدخل تاريخ النصر    ورشة التوعية برؤية واستراتيجية وزارة الموارد البشرية بالمدينة    الهلال يُحافظ على سالم الدوسري    على كأس خادم الحرمين الشريفين سباقات القدرة والتحمل العالمي في العُلا    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    ترودو يدعو إلى أخذ تهديد ترامب بضم كندا على «محمل الجد»    "الأونروا" تؤكد تعرض سكان غزة لعملية تهجير ممنهجة    إيمري يتطلع للتحدي الضخم بإعادة ماركوس راشفورد لمستواه    جوجل تضيف علامات مائية خفية للصور للكشف عن التعديلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي    إنجاز أكثر من 80% من مشروع الطريق الدائري الأوسط في الطائف    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    ثنائية توني تمنح الأهلي الفوز على الفتح    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    فعالية "حكاية شتاء" تجمع أكثر من 14,000 زائر في قاعة مكة الكبرى    بدء تسجيل رغبات الحج للمواطنين والمقيمين لموسم هذا العام.. إلكترونياً    الفيفا: الإنفاق في الميركاتو الشتوي قياسي        فريق الوعي الصحي بجازان يشارك بمبادرة "سمعناكم" لذوي الإعاقة السمعية    ضبط شخص في جازان لتهريبه (60) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    «سلمان للإغاثة» يوزع 492 سلة غذائية في منطقة بإقليم خيبر بختون خوا في باكستان    مصرع شخصين في تحطم طائرة صغيرة في «البرازيل»    «تعليم الرياض» يحصد 39 جائزة في «إبداع 2025»    تتويج السعودي آل جميان بلقب فارس المنكوس    درجات الحرارة الصفرية تؤدي لتجمد المياه في الأماكن المفتوحة بتبوك    وزير الصناعة يختتم زيارة رسمية إلى الهند    أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    "احمِ قلبك" تنطلق لتعزيز الوعي الصحي والتكفل بعلاج المرضى غير المقتدرين    نددت بالعقوبات الأمريكية.. «الجنائية الدولية» تتعهد بمواصلة إحقاق العدالة    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    السجن 45 ألف عام لمحتال «بنك المزرعة»    مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات.. الحلم تحول إلى واقع    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    «الشورى» يوافق على 5 مذكرات تفاهم مع دول شقيقة وصديقة    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    ما العلاقة بين لقاحات كورونا وصحة القلب ؟    أضرار الأشعة فوق البنفسجية من النافذة    الأردن: إخلاء 68 شخصاً حاصرهم الغبار في «معان»    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    دور وزارة الثقافة في وطن اقرأ    كيف كنا وكيف أصبحنا    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصولية عسكرية ضاغطة لمواجهة الأصوليات الاسلامية والكردية . تركيا : ديموقراطية هزيلة وامرأة وحلق شوارب
نشر في الحياة يوم 23 - 08 - 1993

كما يقال ان روسيا الاتحادية الجديدة نموذج مصغر للاتحاد السوفياتي، بمشاكله العرقية والمذهبية والسياسية، فإن الجمهورية التركية تحمل بامتياز "التركة" العثمانية الثقيلة بهمومها الاجتماعية ونزعاتها العرقية واختلافاتها المذهبية وصراعات المجددين والتقليديين. ولكل مرحلة من تاريخ تركيا الحديث، الوانها وشعاراتها ورجالاتها وانقلاباتها. تاريخ متحرك، يطوي صفحة ليفتح اخرى، يدفن زعيماً ليرفع آخر.
لكن ما يميز الاتراك ساسة وعامة، انهم "يضخمون" الاحداث ويعلقون الآمال مضاعفة فاذا ما اصيبوا بخيبة او صدمة، فكأنما هي "ام الكوارث". وما يشاع عن "عنجهية" تركية موروثة لأن الأتراك كانوا سادة امبراطورية امتدت من الكويت الى المغرب ومن السودان الى القرم ومن حدود ايران الى وسط اوروبا، ليس سوى "فقاقيع صابون" يحملها بعض النخبة السياسية او الفكرية، لكنها تخفي مساحة واسعة من الفقر والتخلف والتفاوت، الجغرافي والفردي، في توزيع الثروة القومية.
ان استمرار نظرة "الاستعلاء" حيال الاشقاء السابقين ودول الجوار، الناتجة ايضاً من التباهي ب "نموذج تركي" يجمع الديموقراطية واقتصاد السوق والعلمانية، لم يؤدِ بأبناء الاناضول سوى الى هزائم. وما تقره الدساتير والقوانين - وشوائبها كثيرة جدا على صعيد حقوق الانسان - يتناقض مع الممارسات والنيات. ان النموذج التركي للديموقراطية، لا يمت بصلة الى جوهر العملية الديموقراطية في الدول الغربية. لذلك يمكن طرح اكثر من علامة استفهام حول الجوهر الفعلي للديموقراطية في تركيا.
حكومتان علنية وسرية
تساءل عبدالله اوجلان آبو زعيم حزب العمال الكردستاني، في مؤتمره الصحافي الشهير في 17 آذار مارس الماضي، عمن يكون مخاطبه في تركيا: هل هو رئيس الجمهورية الراحل تورغوت اوزال، ام رئيس الحكومة السابق سليمان ديميريل، ام مجلس الامن القومي. وقال ان في تركيا حكومتين: واحدة علنية واخرى سرية يمثلها مجلس الامن القومي.
وفي الواقع لا يبتعد اوجلان كثيرا عن واقع الامر، فعندما يشير الى مجلس الامن القومي فإنما الى مؤسسة يرأسها رئيس الدولة وتضم رئيس الحكومة وقادة الجيش ووزراء الداخلية والدفاع والخارجية. ويشكل العسكر اكثرية هذا المجلس الذي يجتمع دورياً ويتطرق الى شؤون هي، في الدولة الغربية الديموقراطية، من صلب صلاحيات "المدنيين"، أكانوا وزراء أم موظفين، وهم من العناصر المنتمية الى الحزب الذي يتسلم السلطة بعد كل انتخابات اشتراعية عامة.
واذا كانت الحكومة التركية تجتمع اسبوعياً وتصدر قرارات وتعد خططاً وتقترح موازنات، واذا كان البرلمان التركي يجتمع ليصادق - اكثر منه ليناقش - على القرارات "ذات المساس بالامن القومي"، مثل القواعد الاجنبية في تركيا، و"قوة المطرقة" او غير ذلك، الا ان مؤسسة اخرى هي مجلس الامن القومي تجتمع دورياً وتتطرق الى القضايا المختلفة بما فيها الفكرية والجامعية، وتصدر "توصيات" و"نصائح" الى الحكومة هي اشبه بمشاريع قرارات تتحول قرارات في اجتماعات الحكومة. ومجلس الامن القومي ليس، بالطبع، هيئة ينتخبها الشعب، والاكثرية العددية داخله للعسكر. اي ان آلية اتخاذ القرارات الفعلية ليست في يد الحزب الذي يؤلف الحكومة ونال تفويضاً من الشعب في انتخابات عامة. والدليل الاكثر وضوحاً على وجود هذه "الحكومة السرية" هو التحذير الذي وجهته مطلع الربيع الماضي الى الجامعات التركية بضرورة ايلاء اهتمام أكبر للمواضيع التي تنمي الحسّ الوطني والمصلحة القومية التركية. وانتفض عدد من رؤساء الجامعات التركية آنذاك وحذروا من استمرار "عقلية 12 ايلول" في السلطة في اشارة الى انقلاب 12 ايلول سبتمبر 1980 الذي نفذه العسكر.
في بلد ديموقراطي، يختفي ظهور الجيش الى ادنى الحدود، وتقتصر مهمته على تنفيذ السياسات المدنية. أما في تركيا، فتستمر الاشاعات عن احتمال حصول "انقلابات" عسكرية. ففي ايلول سبتمبر 1992، بعد اشتداد الاشتباكات الدموية مع الاكراد، ولا سيما منها احداث شيرناك في اواخر آب اغسطس 1992، انتشرت اشاعة عن قرب حدوث "انقلاب" عسكري. وبالفعل "جُمع" الصحافيون في "رحلة" الى جنوب شرقي البلاد و"أُبلغوا" ضرورة مساندة السلطة العسكرية وعدم التشويش أو زرع الاحباط في النفوس وقيل ان رئيس الحكومة آنذاك سليمان ديميريل "ايد" خطط الجيش لضرب الاكراد، اذ تلت ذلك عملية غزو لشمال العراق مطلع تشرين الاول اكتوبر.
تشيلر في امتحانها الأول
وبعد احداث سيواس في 2 تموز يوليو الماضي التي اسفرت عن مقتل حوالى 40 مواطناً من الطائفة العلوية خنقاً بالدخان وحرقاً بالنيران داخل فندق في المدينة من جانب جماعات اسلامية، وبعد انتشار الذعر من صدامات سنية - علوية، وبعد الارتفاع الكبير في عدد ضحايا المواجهات اليومية بين الاكراد والجيش في جنوب شرقي البلاد وشرقها، ساد انطباع عام ان الحكومة الحالية التي ترأسها تانسو تشيللر عاجزة عن مواجهة الاحداث. وسرت اشاعات عن احتمال حدوث "انقلاب" عسكري في اواسط الشهر الماضي رافقها استدعاء الصحافيين، كما في المرة السابقة، و"تحذيرهم".
ويبدو ان تشيللر، وكما ديميريل في المرة السابقة، انحنت امام العاصفة، وفي مبادرة معبرة زارت رئاسة اركان الجيش، في لحظة غضب "القوميين الاتراك" على نشاطات الاسلاميين والاكراد. وعندما جرى تجاوز قطوع "الانقلاب الجديد"، سارعت رئيسة الحكومة الى تحصين مواقعها، فعقدت لقاءات مع كل الاحزاب لاعداد خطة مشتركة لمواجهة حزب العمال الكردستاني. وتابعت حملتها المضادة، فوجهت كلمة بواسطة التلفزيون الى الشعب لكسب عطفه، وهو الذي، كما اظهرت استطلاعات الرأي في حينها، كان له الاثر الاكبر في انتخابها زعيمة لحزب الطريق المستقيم، وبالتالي تكليفها رئاسة الحكومة في مواجهة "نادي الشوارب" الذي يشكل الاكثرية الساحقة في الحزب.
حضور الجيش قوي
ان حضور الجيش التركي، في الحياة السياسية التركية ما زال قويا، على رغم محاولات اوزال التي حققت نجاحاً محدوداً في تحجيم دوره. لقد قامت الجمهورية التركية على اكتاف الجيش وبقيادة أحد ضباطه مصطفى كمال، اتاتورك لاحقاً، الذي حكم بصلاحيات مطلقة، ورسخ تجربة الحزب الواحد. وبما ان مهمة لملمة اشلاء تركيا بعد الحرب العالمية الاولى ومعاهدة سي÷ر، وتأسيس دولة جديدة موحدة وقوية وذات سمات عصرية، انجزهما مصطفى كمال وجيشه، فقد بات هذا الجيش، بعد وفاة المؤسس في 10 تشرين الثاني نوفمبر 1938، "الامين" على ارث "الكمالية" وحارسها المهيب.
وتسود قناعة لدى القادة العسكريين الاتراك ان الغاء دور الجيش من الحياة السياسية سيؤدي الى انهيار الاسس التي قامت عليها الجمهورية. لذا تعاند الطبقة العسكرية وتقاوم محاولات اقصاء دورها او حتى تحجيمه. ويقال ان الجيش كان شديد الاستياء من المجرى الذي اتخذه "الحوار" - بالواسطة - الذي كان بدأ بين اوجلان وبعض اوساط السلطة خصوصاً اوزال في آذار مارس الماضي. وقيل ايضا ان وفاة اوزال اعادت الى البلد "توازنه" التقليدي ووفرت عليه الدخول في مرحلة جديدة لا يعرف احد نتائجها، واخطارها على وحدة البلد ومستقبله.
قبضة ضاغطة بعد اوزال
بعد وفاة اوزال، عادت قبضة الجيش تضغط بثقل اشد على الحياة المدنية في تركيا. واشتد "حضور" هذه القبضة بعد انتخاب تشيللر زعيمة لحزبها وتأليفها الحكومة. لقد وجد الجيش، في غياب اوزال القوي والحازم، فرصة لاستعادة حضوره، ولم يتوان ونجح في استغلال استئناف حزب العمال الكردستاني عملياته العسكرية، واندلاع حوادث سيواس التي اظهرت احتمال تعرض البلاد لشرخ اجتماعي وسياسي وكبير قد تفوق خطورته المشكلة الكردية نفسها.
واذا كانت قيادات الجيوش في الدول الديموقراطية، لا تصدر بيانات تؤيد او تعارض موقفاً لزعيم سياسي او رئيس الدولة او رئيس الحكومة، فإن هذه المواقف والبيانات الصادرة عن قيادة الجيش التركي أصبحت أمراً مألوفاً اعتاد عليه الناس ولم يعودوا يعتبرونه ظاهرة "غير ديموقراطية".
في حزيران يونيو الماضي نشرت مجلة "بانوراما" التركية مقابلة طويلة مع اوجلان مرفقة بصور عدة لجوانب غير معروفة من حياة الزعيم الكردي. وحاولت هذه الصور الايحاء بان صاحبها "انسان" مثل أي فرد آخر وليس "ارهابياً". فهو تارة متمدد على سرير فخم في غرفة نومه يطالع مجلة، وتارة يغسل الفناجين والصحون في المطبخ، وتارة يتناول اطعمة من ثلاجة ويهيىء المأكولات على الطاولة، وصورة اخرى تظهره وهو يحلق ذقنه ويضع كولونيا على يده تمهيداً لمسح وجهه بعد الحلاقة، وصورة أخرى وهو يربط شريط حذاء اسود جديد لماع ليس حذاء عسكرياً على اي حال... لكن هذه الصور التي أظهرت اوجلان انساناً يتحرك "فوق الارض" لم ترق للقيادة العسكرية التي استدعت رئيس تحرير المجلة وابلغته "الموقف المناسب"، بعدما صادرت العدد.
أصولية عسكرية
ان الديموقراطية في تركيا، على رغم كل المظاهر والانتخابات وحرية الصحافة، ما زالت طرية العود، وآلية اتخاذ القرار السياسي والعسكري التي هي جوهر العملية الديموقراطية، ما زالت غامضة جداً ، لئلا نقول مغلولة بمواقف السلطة العسكرية. لذا فان اية محاولة لبث الوعي الديموقراطي في المجتمع المدني التركي لن تنجح اذا لم تواكبها محاولة تحديث الذهنية التقليدية السائدة في المؤسسات الاخرى. وتشير معلومات الى ان عملية التحول في الذهنية التقليدية غير غائبة عن بعض المؤسسات المحصنة، ومنها المؤسسة العسكرية. لكن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً، وان محاولة الجيش في هذه المرحلة تشديد قبضته والعودة بالتفكير الى "اصول" الدولة والجمهورية، سببها شعوره بأن الزمن لا يعمل لمصلحته، وان رياح التغيير بدأت تهب من داخل المؤسسة العسكرية. ان النزعة "الاصولية العسكرية" في مواجهة "الاصوليات الاسلامية والكردية" مرشحة في الفترة المقبلة للاشتداد، ولن تكون تشيللر والديموقراطية في وضع يحسدان عليه. لكن التساؤل الذي يطرحه المراقبون هو كيف يمكن تحويل "فلسفة اوزال" التغييرية والتحديثية من مجرد فلسفة فرد الى تيار عام يغلب الاتجاه المدني ويبعد شبح العسكر عن قيادة تركيا على عتبة القرن الواحد والعشرين؟
مسألة الزعامة
عندما انتخبت تشيللر في 13 حزيران الماضي زعيمة لحزب الطريق المستقيم، تساءل كثيرون عن العوامل التي ساهمت في فوز امرأة جميلة وشابة في مجتمع وحزب ذكوري بامتياز، وفي مواجهة عتاة اشداء وذوي باع طويل في العمل السياسي، امثال عصمت سيزغين وكوكسال طوبتان وجاويد تشاغلار وبدر الدين دالان.
وفي الواقع، ان انتقال سليمان ديميريل الى منصب رئاسة الجمهورية، ووفاة اوزال، وقرب موعد تقاعد اردال اينونو، وانطفاء بولنت اجاويد، تطرح جدياً مسألة الزعامة في تركيا، في مرحلة حساسة من تاريخها الحديث تشهد تحولات واعادة حسابات اقليمية ومحلية تحت عنوان "تصفية الحساب مع التاريخ"، سواء في ما يخص المسألة الارمنية او المسألة الكردية او النزاعات المذهبية داخل تركيا.
كان مسعود يلماز زعيم حزب الوطن الام، يتمنى في سرّه ألا تتولى تشيللر زعامة حزب الطريق المستقيم. ذلك ان احد ابرز أسباب اختيارها كان محاولة الوقوف امام زعامته الشابة التي كانت استطلاعات الرأي تشير الى انه سينتصر في أي انتخابات نيابية عامة. وتتفوق تشيللر، في هذا المستوى من التنافس، على مسعود يلماز. فهي تبزه فتوة ووسامة وديناميكية، خصوصاً ان تسويق الزعامة اصبح في الدول الغربية اختصاصاً قائماً بذاته. ذلك ان المظاهر الخارجية للمرشح وسلوكه تتغلب على الافكار التي يدعو اليها. وهذا ما برعت في استغلاله خريجة جامعة ييل الاميركية ذات الابتسامة الفولاذية والمعرفة والثقافة العاليتين. فشيللر أدركت دور وسائل الاعلام في هذا المجال حتى يمكن القول ان ما رجح كفتها، هو "حملة الاستطلاعات" والتأييد الشعبي الكاسح لوصولها الى الزعامة.
وشكلت تشيللر لافتة براقة وجذابة لدعاة التجديد والتغيير داخل حزب الطريق المستقيم لمواجهة "حرس قديم" يتحكم به منذ عشرات السنوات.
الأنوثة ونادي الشوارب
لكن احد الاسباب المهمة لنجاحها في قيادة الحزب والحكومة وتركيا في هذه المرحلة هو انها... امرأة. فالمواصفات الاخرى التي "تميزها" من حيث الفتوة والعلم، قد نجدها لدى مرشحين آخرين، يتفوقون عليها ايضاً بما لا يقاس لناحية الخبرة في العمل السياسي. لكن عامل "الانوثة" كان له دور حاسم في الاختيار. فهي كانت ستكون "اول رئيسة حكومة" في تاريخ تركيا، ولم تكن لتحظى بدعم وسائل الاعلام لو انها كانت رجلاً.
لقد احدث وصولها الى رئاسة الحزب والحكومة بروز ظاهرة غريبة، ولو في "كلام الجرائد"، عن انقسام المجتمع الى "نادي التشيلليريين" و"نادي الشوارب"، اذ بدأت حملة ضد ظاهرة اطلاق الشوارب لدى الرجل التركي، كان ابرزها تخلي رئيس تحرير صحيفة "حريت" ارطغرل اوزكوك عن شاربيه وجهوده الدؤوبة "لتلميع" صورة تشيللر السياسية.
ولكن صفة "المرأة" لدى تشيللر بدأت تستغل للتعريض بها وتشويه سمعتها. وفي مجتمع محافظ، ورث مجتمعاً عثمانياً لم تحظ فيه المرأة بأية فرصة للعمل السياسي والاجتماعي، من الامور الرائجة، كما في بعض الصحف، كذلك لدى العامة ان تنعت رئيسة الحكومة ب "المرأة" للدلالة على صنعة وحطة.
واذا كانت "زوبعة تشيللر" قد عصفت في لحظة انبهار ورغبة في التجديد فإن اعتقاداً يتسع تدريجاً ان ما حدث كان زوبعة في... فنجان. وان العاصفة في طريقها الى الخمود وصولاً الى انطفائها في المؤتمر العام المقبل لحزب الطريق المستقيم في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وان المعارضة الداخلية في الحزب بدأت منذ الآن التحضير لتصفية الحسابات.
وتربط المعارضة الداخلية استمرار التأييد لتشيللر بثلاثة شروط: عدم التمييز بين اعضاء الحزب، وقف التدهور الاقتصادي، ولجم الارهاب. واذا لم تنجح رئيسة الحكومة من الآن وحتى موعد مؤتمر الحزب في تحقيق هذه المطالب، فإن المعارضة الحزبية ستحشد قواها ليكون رئيس البرلمان الحالي حسام الدين جيندوروك هو الرئيس المقبل للحزب، فاذا امتنع عن خوض المعركة، يحل محله كوكسال طوبتان.
وتجد تشيللر نفسها أمام اتهامها بقلة الخبرة السياسية، وضعف الحكومة التي شكلتها، وتفويضها الى الجيش "انهاء هذا الشأن"، اي مواجهة حزب العمال الكردستاني، وخططها لتصفية القطاع العام وتحويله الى قطاع خاص، وامام الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات العمالية... تجد نفسها محاصرة وسط زوبعة من المشكلات فيها ما هو مزمن ومنها ما هو مستجد وطارىء وخطير في آن، مثل احداث سيواس.
وفي مواجهة هذا الجدار من الازمات، تحاول تشيللر ان تظهر في صورة الزعيمة الحديثة القادرة على الخلق والابتكار، والايحاء بأنها هي البديل الوحيد.
ويعرف الجميع ان تركيا في عقد الثمانينات شهدت تحولات اقتصادية وفكرية وسياسية مهمة جدا لم تكن لتحدث لولا شخصية طورغوت اوزال الحديثة المنفتحة والجريئة والطموحة. فإصلاحاته الاقتصادية كانت بمثابة ثورة، وآراؤه السياسية في الكمالية لم يسبقه احد اليها في جرأتها، وتصوره لسبل حل المشكلة الكردية، بما في ذلك اقامة فيدرالية، جرت عليه وابلاً من الاتهامات الخطيرة. ويدرك الاتراك الآن حجم الفراغ الكبير الذي خلفه الرئيس الراحل.
إرث اوزال
وطرح رحيل اوزال مسألة "ارثه" في صورة علنية، فمسعود يلماز الذي تمرد عليه في السنة الاخيرة من حياته يقول ان فلسفة اوزال حية و"سنواصل العمل بروحها"، فيما يستعد يوسف بوزكورث اوزال، شقيق الرئيس، لتأسيس حزب يحمل اسم "الامانة". اما الصحافي المعروف جنكيز تشاندار الذي كان بمثابة المستشار الاول للرئيس الراحل و"حامل افكاره" ومطلق الدعوة الى "العثمانية الجديدة" فيبدو ان وفاة اوزال لم تخفض من اسهمه بل جعلته "الوحيد" الذي قد يكون قادراً على فهم فلسفة الرئيس الراحل وبالتالي اعادة بعثها وتطويرها واطلاقها الى آفاق جديدة.
هنا، يربط كثيرون داخل تركيا، سلوك تشيللر بما كان عليه سلوك اوزال، كأنها محاولة قد تكون حقيقية لا مجرد تقليد ومحاكاة لاستكمال - لئلا نقول اصطناع - صورة الزعامة في تركيا خلال التسعينات نحو القرن الواحد والعشرين.
تشيللر، كما اوزال، من اشد مؤيدي مبدأ خصخصة القطاع العام. واذا كان الرئيس الراحل توقف عن ذلك بعد خسارة حزبه انتخابات عام 1991، فإن رئيسة الحكومة، بدعم من البنك الدولي وغرف التجارة والصناعة التركية، مصممة على تنفيذ "عملية جراحة مؤلمة" أياً كانت ردود الفعل، لان العواقب في حال بقاء الوضع كما هو الآن سيكون وخيماً بعد بضع سنوات.
وتشيللر، في موقفها الذي اعلنته يوم 12 تموز يوليو الماضي، من المسألة الكردية تذكّر كثيراً بسلوك الرئيس الراحل. فقد اعلنت انها تريد مناقشة امكان السماح بتدريس الكردية في المدارس، وكذلك اقامة بث اذاعي وتلفزيوني بهذه اللغة. واذا كانت لم تدع الى تطبيق ذلك بل الى مجرد "مناقشة" الفكرة، فإنها تذكر بدعوة اوزال الى "مناقشة" فكرة اقامة فيديرالية بين اكراد تركيا واتراكها.
واذا كان الرئيس الراحل احد افرازات نظام 12 ايلول العسكري، لكنه نجح في تحجيم دور الجيش في الحياة السياسية. واذا كانت تشيللر اطلقت يد الجيش ل "حل" المشكلة الكردية، الا انها، من خلال التسريبات الاعلامية، تحاول ان تقول انها الى جانب وقف تدخل المؤسسات الامنية في اتخاذ قرارات هي من صلاحيات مؤسسات اخرى مدنية.
فبعد يلماز، نشرت صحيفة "حريت"، بناء على معلومات رئيس تحريرها اوزكوك، ان تشيللر طلبت من يلماز تشكيل "جبهة مدنية" لمواجهة رئاسة اركان الجيش التي تقول ان "لا مشكلة كردية بل مشكلة ارهاب وبالتالي لا ضرورة لحل مدني". وعندها اجاب ان في الامكان مناقشة كل ذلك، ولكن لا بد من البحث والتفاهم وتوحيد الرأي مع مؤسسات أخرى لأجل ذلك. وعندما سألته عن المؤسسات التي يقصدها اجاب انها مجلس الامن القومي، فردت: "انا ارى ان المؤسسات الديموقراطية كافية" فبادرها: "لكن مجلس الامن القومي مؤسسة دستورية"، فعلقت: "لكن مهمته امنية وعلى كل مؤسسة ان تقوم بوظيفتها هي لا بوظائف غيرها".
واظهر هذا الحوار من جهة، ان تشيللر تحاول كما اوزال، بث "الوعي المدني" في المجتمع التركي، ومن جهة اخرى انها، بخلاف ما يشاع، تختزن من "الافكار" ما هو جدير بها كزعيمة جديدة لتركيا. لكنها، كما اوزال، وحيدة تصارع ضد جبهات عدة: رئيس الجمهورية الذي لا يترك فرصة الا وينتقدها، والجيش الذي يعارض "نياتها"، والاحزاب المعارضة، بما فيها حزب الوطن الام الذي يحاول اظهار يلماز انه نموذج للزعيم "الشاب والمعاصر"، فيما تسريب محور اجتماعه معها ودعوته اياها للتفاهم مع العسكر، هزّ كثيراً "نموذجه" واظهره، بتعبير احد المعلقين، انه متخلف عنها بمئة سنة ولا يختلف في شيء عن ديميريل.
الموقع والصورة والأسلوب
وتحاول تشيللر ايضاً تعزيز موقعها وصورتها بالاسلوب نفسه الذي كان اوزال يتبعه. وكما كان يطل من على شاشة التلفزيون ليتحدث الى الشعب مباشرة وعلى الهواء، كذلك فعلت تشيللر مساء العشرين من تموز الماضي عندما وجهت خطاباً الى الشعب مباشرة من على شاشة التلفزيون. ولم يستوقف حديثها المراقبين بقدر ما استوقفتهم "مظاهر" الحدث. فكل شيء، من المفردات المستخدمة الى نبرة الصوت وحركات يديها وتعابير وجهها كان يذكر بالرئيس الراحل. فقد كررت كثيرا مفردات كان يستخدمها مثل: "هو نوع من"، "بإذن الله"، "اعبر لكم بصراحة". الفارق الوحيد عنه هو انها كانت تحمل بيدها اليمنى نظارات فيما كان اوزال يحمل عادةً في مثل هذه الحالات قلما. وحاولت في خطابها الذي استغرق 25 دقيقة بدلا من 15 دقيقة كانت مقررة له، ان تكون بسيطة في مظهرها، فلم يلحظ اي "ماكياج" بارز لا على وجهها ولا على عينيها، وارتدت ثياباً بيضاء مع قميص بلون "الكريم". وعلى الطاولة امامها مزهرية والى طرف الطاولة كان يظهر كومبيوتر.
وهنا يتداول بعضهم "نوادر" عن تشيللر لكي تتمكن من مواجهة جيش العاطلين عن العمل بالقول انها تسألهم هل تعرفون الانكليزية؟ وهل تجيدون استخدام الكومبيوتر؟ فيضطرون الى الانصراف موحية بصورة الزعمية العصرية. وكما كان يفعل اوزال، جمعت كفيها مثل قبضة واحدة ثلاث مرات عند الحديث عن "التعاون والاخوة، والسلام والوحدة"، وهي حركة اشتهر بها الرئيس الراحل وتحولت الى ما يشبه "تحية" لحزب الوطن الام. وعندما وصلت في خطابها الى الحديث عن "جيران تركيا" وعلاقتهم ب "الارهاب الكردي" خبطت بيدها على الطاولة في اشارة الى انها ستكون سيدة "حديد" بالفعل، وهو ما كان يفعله ايضا اوزال.
لكن تشبيه تشيللر بأوزال لا يرضي الاوزاليين بل يثير غضبهم. ويتساءلون اين هي من سعة افق اوزال وحزمه وشجاعته وطيبته. حتى تحويل مؤسسات القطاع العام الى قطاع خاص هي عملية بدأها هو وكانت في اساس اصلاحاته الاقتصادية. وينقل بعض المعلومات ان المرأة الهادئة المظهر تخفي احيانا عصبية زائدة حتى انها لا تستطيع السيطرة على نفسها. ففي اجتماع لحزب الطريق المستقيم في 15 تموز احتد النقاش بين تشيللر من جهة وزعيم صقور الحزب السفير السابق جوشكون قيرجا الذي يفتخر بتلقيب نفسه انه "جنرال مدني". وسبب المواجهة هو اعتراضه فكرتها مناقشة تدريس الكردية في المدارس، ودعوته اياها الى عدم استخدام حتى كلمة "كردي" في احاديثها وحواراتها وخطبها، متهماً اياها بقيادة تركيا الى المجهول. وكان ان ردت عليه بعنف متهمة معارضيها داخل الحزب ب "الهذر"، فيما كانت تخبط بيدها في صورة متكررة على الطاولة، وكان صوتها ويديها ترتجف بصورة متواصلة وحادة.
ان "الارث الاوزالي" الذي هو الآن موضع تجاذب، لا يجد بعد من يبلوره في حركة سياسية منظمة. وباستثناء دفاعات جنكيز تشاندار المتواصلة التي تحاول تذكير الناس دائماً بأهمية "اكثر رجل احبته تركيا في القرن العشرين"، من خلال المقارنة بين ما كان يفعله اوزال وما تفعله الطبقة السياسية الحالية، فلا يبدو ان هذا الارث في طريقه الى الانبعاث في المستقبل القريب. وها هو احمد اوزال، ابن الرئيس الراحل، ينعي الاصلاحات الاوزالية، بل يقدم دعمه الى تشيللر. ويقول ان حزب الطريق المستقيم بقيادتها، يبدو اقرب الى مفاهيم اوزال من اي حزب آخر. وشدد على ان والده وحزب الوطن الام كانا بمثابة التوأم، ولا يمكن أحدهما ان يعيش بمعزل عن الآخر. لذا فقد حزب الوطن بعد خلافه مع اوزال ديناميته وثوريته.
ان تركيا، بعد رحيل اوزال، امام مرحلة جديدة سياسياً وفكريا واجتماعياً. فهل سيتاح لتلك "المرأة" ان تفي بوعودها في التغيير ام سيبقى ذلك مقتصراً على "حلق الشوارب"!
* باحث لبناني في الشؤون التركية، يصدر نشرة "شؤون تركية" في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.