مع ظهور النتائج شبه النهائية لكن غير الرسمية، للانتخابات النيابية التي جرت يوم الاحد الماضي، تدخل تركيا مرحلة جديدة بالكامل من تاريخها. وبعد السقوط المدوي والانهيار الشامل لأحزاب مركز اليمين واليسار الديموقراطي الاجتماعي والاسلاميين، تتركز كل الانظار على الملامح التي سترتسم في افق العلاقات بين القوى المحلية، كما في السياسة الخارجية، في ظل الصعود المفاجئ للقوميين اليمينيين المتشدّدين ممثلين بحزب الحركة القومية. وانعكس ذلك مخاوف في الأوساط السياسية والاقتصادية عبّر عنها العديد من المراقبين ورجال الأعمال. رغم اتضاح الملامح الرئيسية للرابحين والخاسرين في الانتخابات بعد ثلاث ساعات فقط على اقفال صناديق الاقتراع مساء الاحد الماضي، الا ان فرز النتائج والتدقيق ببعضها ما زال مستمراً، ولا يتوقع اعلانها رسمياً قبل مرور ايام عدة. وحملت بعض النتائج اللاحقة تعديلات، طفيفة ومحدودة. ومع احتمال تبدل بنسبة مقعد او اثنين زيادة او نقصاناً، لكل حزب فان الصورة الحزبية تبدو على الشكل الآتي: حزب اليسار الديموقراطي 22.2 في المئة و133 مقعداً، حزب الحركة القومية 18.2 في المئة و130 مقعدا، حزب الفضيلة 15.1 في المئة و112 مقعداً، حزب الوطن الأم 13.4 في المئة و88 مقعداً وحزب الطريق المستقيم 12.5 في المئة و85 مقعداً، وتأكد نهائياً سقوط حزب الشعب الجمهوري بعدما نال 8.5 في المئة فيما نال حزب ديموقراطية الشعب الكردي حوالى 4.4 في المئة، وحزب الوحدة الكبرى 1.5 في المئة، ونالت باقي الأحزاب ما بين 0.1 و0.2 في المئة. وفي النتائج التفصيلية، سيطر حزب اليسار الديموقراطي بزعامة بولند اجاويد على المدن الثلاث الكبرى في تركيا. ففي اسطنبول حصد الحزب 27 من اصل 69 مقعداً، تلاه "الفضيلة" ب16 مقعداً والوطن الأم ب14 مقعداً، والحركة القومية ب8 مقاعد. وبالكاد نجحت طانسو تشيللر مع ثلاثة من اعضاء حزبها، والفضل في ذلك يعود الى سقوط حزب الشعب الجمهوري. وفي انقرة، تقدم اجاويد ب9 من اصل 28 مقعدا يليه حزب الحركة القومية ب7 مقاعد والفضيلة ب6 مقاعد. وفي ازمير كانت سيطرة اجاويد واضحة فنال 14 مقعداً من اصل 24 يليه الوطن الأم بخمسة مقاعد ولم ينل الفضيلة اي مقعد في هذه المدينة. واستطاع حزب الحركة القومية ان يسيطر على عدد كبير من الدوائر في وسط البلاد وساحل البحر المتوسط والبحر الأسود. فكانت له الغلبة في 26 من اصل 80 محافظة، وكان ذلك على حساب كل من حزبي الفضيلة والطريق المستقيم. ومن المحافظات التي كانت للفضيلة وانتقلت الى حزب الحركة القومية: قره مان، اقصاراي، نيفشهر، قصيري، قهرمان مراش، يوزغات، تشوروم، أماسيا، طوقات، نشانكيري، ارزبخان، غوموش خانه. وخسر الطريق المستقيم، لصالح حزب الحركة القومية محافظات: نيغده، أنتاليا، بوردور اسبارطة، أفيون وقره بوك. وكذلك خسر حزب الطريق المستقيم لصالح حزب اليسار الديموقراطي المحافظات التالية: دينزلي، موغلا، آيدين، مانيسا، بأليق اسير، بورصة، بيلجيك، تشاناف كاله، كماستامونو، اردخان، ومعظمها في مناطق غرب البلاد. فيما احتفظ الفضيلة بمحافظات معظمها في مناطق وسط وشرق البلاد: قونيه، سيواس، ملاطيا، آدي يمان، ايلازيغ، ديار بكر، بينغول، بتليس، فان، ارضروم، بايورت، اضافة الى إزميت وأضه بازاري قرب اسطنبول. وقد استفاد الفضيلة من عدم حصول حزب ديموقراطية الشعب الكردي على نسبة العشرة في المئة الضرورية لدخول البرلمان ليرث اصواته، وينال عدداً اكبر من النواب. وهذا كان قد تكرر عام 1995. لكن الفضيلة لم يكن وحده المستفيد من هذا الوضع اذ شاركه في ذلك حزب الطريق المستقيم. حقق حزب ديموقراطية الشعب تقدماً واضحاً في معظم المحافظات الكردية في جنوب شرقي البلاد. فحل اولاً في محافظات: آغري 31.53 في المئة، دياربكر 36.15 في المئة"، مقاري 48.94 في المئة"، قارصي 22.84 في المئة، ماردين 22.14 في المئة، موش 35.97 في المئة، سعرت 22.43 في المئة، فان 35.34 في المئة باطمان 46.3 في المئة، وحل ثانياً في محافظات ايغدير 26 في المئة بعد الفضيلة، وبينغول 13.72 في المئة بعد الفضيلة وبتليس 13.6 في المئة بعد الوطن الأم، وفي اسطنبول نال الحزب الكردي 4 في المئة وكذلك في ازمير، بينما اقتصرت اصواته في انقرة على 2 في المئة. غير ان خريطة توزيع القوى اختلفت بصورة جذرية على صعيد الانتخابات البلدية. وتقاسم مراكز المحافظات، احزاب ثلاثة هي: الفضيلة والحركة القومية وديموقراطية الشعب الكردي. ففاز الاسلاميون برئاسة بلديات 16 عاصمة محافظة، ولا سيما في اسطنبولوانقرة وقونية وسيواس، وقهرمان مرش وآدي يمان وشانلي اورفة وطرابزون وتشوروم، فيما فاز حزب الحركة القومية ببلديات 21 عاصمة محافظة منها: قرقلا رالي، افيون، يوزغات، اسبارطة، كماستامونو، اماسيا، ارزنجان، ارضروم، موش، ايغدير، ملاطية. فيما سيطر حزب ديموقراطية الشعب على بلديات: ديار بكر، آغري، بينغول، مقاري، ماردين سعرت، فان وباتمان. وتعتبر بلدية ديار بكر احدى البلديات الكبرى في تركيا وعددها 15 بلدية. ردود الفعل اثارت النتائج المفاجئة للانتخابات النيابية والبلدية ردود فعل واسعة على مختلف الأصعدة. والسؤال الأول الذي طرح حول مصير زعماء الأحزاب التي شهدت انهياراً او تراجعاً مثل مسعود يلماز وطانسو تشيللر ودينيز بايكال ورجائي قطان. ودعت معظم عناوين وتعليقات الصحف هؤلاء الزعماء الى التنحي. وكانت ردة الفعل الأقوى من اوساط احزاب مراكز اليمين، فطلعت صحيفة "صباح" امس بالعنوان الآتي: "يكفي. طانسو هانم، مسعود بك، دينيز بك، الأمة لا ت…ر…ي…د ان ترى اي واحد منكم" و"بحق الله اخرجوا"، فيما كان عنوان صحيفة "آقيت" الاسلامية المتشددة: "انذار جدّي للفضيلة" و"تراجع اصوات الفضيلة اظهر ان الشعب غير موافق على "الخطاب الجديد" و"الواجهة الجاذبة" للحزب". واذ اعتصم معظم زعماء الاحزاب الخاسرة بالصمت فان دينيز بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري في طريقه لاعلان استقالته. ومع ان الاحتمال الغالب هو تشكيل حكومة من حزبي اليسار الديموقراطي والحركة القومية، فان الخيارات مفتوحة على سيناريوهات اخرى. ويتساءل المراقبون: كيف يمكن لهذين الحزبين المتناقضين ان يجتمعا، فيما دعت اوساط اليمين الى تشكيل حكومة يمينية من الحركة القومية، والوطن الأم والطريق المستقيم، يستبعد عنها أجاويد اليساري. واستعداداً لاحتمالات تشكيل حكومة تضم اليسار الديموقراطي والحركة القومية اضافة الى حزب ثالث، بدأت بوادر غزل بين اجاويد وزعيم القوميين دولت باغجلي. اذ صرح اجاويد ان ما جرى هو "خيار الأمة وتقديرها" وان الشعب اقترع "ضد مستغلّي الدين ومنتهكي الأخلاق". وعن المخاوف من استقطاب ايديولوجي بعد انتصار الحركة القومية قال اجاويد: "تجاوزت تركيا عهد الاستقطابات الايديولوجية. ولا ارى خطراً في ذلك". في حين اعرب دولت باغجلي، عن ضرورة انفتاح الاحزاب ودخولها في حوار متبادل، وان الصدام لا يفيد احداً. وقال بأنه لا موقف مسبق من احد. "وسنتحرك من اجل حكومة تضمن للأمة الوفاق والمصالحة. واعترف باغجلي بأنه لم يكن يتوقع هذه النتيجة. وطمأن باغجلي بأن حزبه ضد الاستقطاب. وانه مع اعادة تعريف احزاب "المركز" واعتبر ان حزبه هو حزب المركز، ورأى انه من المبكر الحديث عن سيناريوهات الحكومة. مخاوف اقتصادية وعبّرت اوساط اقتصادية عن مخاوفها من صعود اليمين القومي المنغلق، على الخارج، في زمن العولمة، خصوصاً ان الحزب لا تجربة اقتصادية له ولا سياسة واضحة. وقد تنعكس الطروحات القومية المتطرفة لحزب الحركة القومية على علاقة تركيا بالاتحاد الاوروبي والوحدة الجمركية. كما ان بورصة اسطنبول شهدت هبوطاً في اسعار الأسهم في اثر الاعلان عن نتائج الانتخابات. من خرج من البرلمان؟ اظهرت نتائج الانتخابات مفاجآت كذلك على صعيد المرشحين الذين فشلوا في دخو البرلمان ومعظمهم من نواب حزب الشعب الجمهوري. ومن هؤلاء: زعيم حزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال، ورئيس البرلمان السابق حسام الدين جيندوردك، ورئيس حزب الوحدة الكبرى محسن يازجي أوغلو، وكوركوت اوزال شقيق الرئيس الراحل طورغوت اوزال، وعصمت سيزغين، وناهد منشتيه، أولتان سونغورلو. في المقابل دخل البرلمان عدد من الصحافيين مثل ارول آل، ورئيس تحرير مجلة "نقطة" معصوم توركير، وسليمان ياغيز ومصطفى فورال عن حزب اليسار الديموقراطي، ونازلي ايلجاق عن حزب الفضيلة. نساء نائبات ومع اكتمال اعلان النتائج النهائية، يتوقع ان يدخل البرلمان ما بين 20 و24 امرأة، من بينهن 13 عن حزب اليسار الديموقراطي، وأربع عن حزب الطريق المستقيم من بينهن تشيللر، وثلاث عن حزب الفضيلة وواحدة عن كل من الوطن الأم والحركة القومية. واثنتان من هؤلاء محجبات: نسرين اونال، عن حزب الحركة القومية، وهي طبيبة امراض داخلية، وترشحت عن انتاليا، ولها من العمر 38 عاماً ولها ثلاثة اولاد، وقد اعلنت انها ستخلع غطاء الرأس عند دخولها البرلمان، اما المحجبة الاخرى فهي المهندسة في الكومبيوتر الدكتورة مروى صفا قافقجي، عن حزب الفضيلة ونجحت في الدائرة الاولى في اسطنبول، وصرحت بعد انتخابها انها ستدخل البرلمان وهي محجبة، الا اذا تعدّل النظام الداخلي ومنعها. عندها لن تدخل. وسوف تكون مروى قافقجي محط انظار افتتاح البرلمان، لجهة ما الذي سيحدث حين دخولها البرلمان محجبة: هل سيسمح لها ام هل ستُمنع؟! "الذئاب الرمادية... قادمة" مفاجأة انتخابات 18 نيسان ابريل 1999 في تركيا كان حزب الحركة القومية. وهذا الحزب الذي ارتبط اسمه بزعيمه الأبرز ألب ارسلان توركيش، ويُعرف اتباعه ب"الذئاب الرمادية" بوزكورت، تعود نواة تأسيسه الى العام 1948 تحت اسم "حزب الأمة" وكان رئيسه الفخري فوزي تشانماف وما لبث ان اغلق وتأسس تحت اسم جديد "حزب الأمة الجمهوري". ثم توحد مع الحزب الفلاحي لتركيا تحت اسم حزب الأمة الفلاحي الجمهوري عام 1957. وفي الأول من آب اغسطس 1965 انتخب لرئاسته ألب ارسلان توركيش، أحد قادة الانقلاب العسكري عام 1960. وفي العام 1969 اتخذ الحزب لنفسه اسمه الحالي: "حزب الحركة القومية". عام 1980 أغلق الحزب بعد انقلاب 12 ايلول سبتمبر، وفي 7 تموز يوليو 1983 أعيد تأسيس الحزب تحت اسم الحزب المحافظ، ثم أصبح اسمه عام 1985 حزب العمل القومي. وبعد رفع الحظر عن الزعماء السياسيين عام 1987، عاد ألب ارسلان توركيش لتزعمه، مع انتخاب دولت باغجلي أميناً عاماً له في العام 1987. تحالف الحزب عام 1991 مع حزب الرفاه وغيره في الانتخابات النيابية ونال 18 مقعداً. وبسبب دعم الحزب لإئتلاف الطريق المستقيم - واليسار الاجتماعي، عام 1991، انفصل عنه بعض النواب بزعامة محسن يازجي اوغلو. وفي 24 كانون الثاني يناير 1993، قرر الحزب تغيير اسمه الى "حزب الحركة القومية". وخاض انتخابات 1995 منفرداً بعد فشل المفاوضات مع حزب تانسو تشيلر، لكنه فشل في الحصول على عشرة في المئة وبقي خارج البرلمان. وبعد وفاة زعيمه التاريخي توركيش في 4 نيسان 1997 انتخب الحزب دولت باغجلي زعيماً له. ولد باغجلي في العام 1948 في احدى قرى محافظة أضنة، من عائلة فلاحية. درس الاقتصاد في اكاديمية العلوم الاقتصادية والتجارية في أنقرة ثم انهى الدكتوراه في المعهد العالي للعلوم الاقتصادية والتجارية. وعام 1987 دخل حزب العمل القومي وانتخب أميناً عاماً له الى ان حلّ محل توركيش بعد وفاته، وذلك في 23 تشرين الثاني نوفمبر 1997. وكانت أصوات الحزب ترتفع باستمرار مع كل انتخابات تجري. فنال عام 1965 2 في المئة، وعام 1969 3 في المئة، وعام 1973 3.4 في المئة، وعام 1977 6.4 في المئة وعام 1987 2.9 في المئة وعام 1994 7.9 في المئة، وعام 1995 8.2 في المئة الى ان حقق انفجاره الكبير في الأصوات في انتخابات الاحد الماضي حين قفز الى 18.2 في المئة مع حوالى 130 نائباً. يرفع أنصار الحزب شعار الذئب والعلم الأحمر بأهلّة ثلاثة ويوصفون بالمحافظة، حيث قسم كبير قاعدتهم متدينة، لكن الشعور القومي التركي طاغ عندهم وهم من دعاة إقامة "الوطن الكبير" من الأناضول الى وسط آسيا. ومن المعارضين الأشداء للنزعة الكردية الانفصالية في تركيا، وشاركوا كمتطوعين في الحرب الدائرة مع حزب العمال الكردستاني منذ العام 1984، وكانوا الطرف الاساسي في المواجهات المسلحة في الشوارع في تركيا السبعينات بين القوى اليسارية والكردية من جهة والقوى اليمينية من جهة اخرى. مع صعود حزب الحركة القومية من جديد واحتمال دخوله شريكاً اساسياً 130 نائباً مقابل 133 لأجاويد تجددت المخاوف من استعادة الشارع والمجتمع التركي استقطاباته الاجتماعية والايديولوجية، وانغلاق البلاد على الخارج، كما اتخاد سياسات خارجية تركية أكثر تشدداً، خصوصاً حيال قبرص واليونان وروسيا والبلقان، لا سيما وأن أحداث كوسوفو كانت من عوامل صعود الحركة القومية في الانتخابات الأخيرة. ويتوقع المراقبون انعكاس نجاح القوميين على قضية عبدالله اوجلان لجهة الضغط لإعدامه وعدم إصدار قانون عفو عن المقاتلين الأكراد في الجبال.