منذ سنوات وبرهان علوية، أحد أبرز وجوه السينما الجديدة في العالم العربي وفي لبنان، صامت بعيد عن الكاميرا. آخر ما حققه يعود الى العام 1991. وربما كان يصح ان نقول ان أزمة برهان علوية هي ازمة السينما العربية الجديدة، السينما التي تبحث، من دون هوادة، عن منتجها، العنصر الأساسي في قيامها وحلقتها المفقودة، بعد ان بات كل عناصرها الأخرى متوافراً: المؤلف، الموضوع، الجمهور والنقد، والحضور الذي لا يتوقف في ساحة السينما العالمية. ولكن لئن كان برهان علوية صمت، مرغماً، كل هذه الفترة، فإنه لم يخلد، مع ذلك الى الراحة، بل انكب يكتب السيناريو اثر السيناريو ويرسم المشروع اثر المشروع، من "حي بن يقظان" الى "ثلاثية البحر الأبيض المتوسط" ومن رواية "بناية ماتيلد" لحسن داود، الى عمل كبير عن حسن فتحي يستطرد ويطور فيلمه القديم "لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء". وفي خضم ذلك كله ظل برهان يشتغل سنوات على كتابة مشروعه الأثير: فيلم جبران خليل جبران، الذي ينطلق من حياة الكاتب اللبناني ومن كتابه "النبي" ليصب في حياة ومنفى برهان علوية نفسه. هذا المشروع الذي انضم اليه فيه، أخيراً، الكاتب جان بيار دحداح، صاحب سيرة لجبران صدرت أخيراً بالفرنسية وأثارت ضجة، هذا المشروع اكتمل كتابة وثمة آفاق جدية لتحقيقه سينمائياً. وفي انتظار انجلاء تلك الآفاق يخوض برهان علوية تجربة جديدة مختلفة تماماً، يفضل الا يتكلم عنها كثيراً الآن، تجربة قادته أخيراً الى المملكة العربية السعودية والى مصر، ويمكن فقط ان نقول عنها منذ الآن انها ربما ستسفر عن أول فيلم روائي سعودي طويل. اذن بين الاهتمام بالمشروع السعودي الأول، وبين العمل الجديد والدؤوب على مشروع جبران، أمضى صاحب "كفر قاسم" و"أسوان" و"بيروت - اللقاء" و"رسالة من زمن المنفى" هذين العامين الأخيرين. و"الوسط" التقت به في باريس، قبل سفره الى السعودية ومصر، لتطرح عليه اسئلة حول فيلم جبران، في انتظار تكامل ملف المشروع السعودي والايذان بالحديث عنه بشكل أكثر توسعاً. جبران... لماذا الآن؟ برهان علوية، لماذا جبران خليل جبران… الآن؟ - بل لماذا ليس قبل الآن؟ على أي حال سأقول لك ان جبران يبدو مهماً الآن بسبب الحرب اللبنانية وبسبب الأوضاع العربية، لولاهما لما كان بإمكاني ان أفكر، أنا شخصياً، بفيلم عن جبران. فجبران هو بالنسبة الي الكاتب العربي - مع أل التعريف - والكاتب العربي بامتياز. ولولا هذا الواقع لما كان الاقتراب منه ممكناً. كان من شأنه لولاه ان يبقى كما تعودنا ان نتعلمه: مجرد مواضيع انشاء ترطن بالفصاحة اللغوية، قضية أدبية خالصة. باختصار: جو جبراني معتاد. ولكن ما اكتشفته هو انه بعد الحرب اللبنانية، وسلسلة المآسي والكوارث التي تمر بها شعوبنا والمنطقة، صار جبران أشبه بپ"البروفة" المسرحية الأخيرة. جبران في الظروف التي عاشها، وسط الأحداث التي اختبرها، المجاعة، منفاه، سفره الى أميركا، احساسه بأنه مطارد على الدوام، كل هذا كان "بروفة" عامة لما حدث بعد ذلك بزمن طويل. في تلك الأيام كانوا قلائل أولئك الذين يرحلون وخصوصاً من بين ذوي التطلعات الأدبية. اليوم اذا نظرنا الى جبران سنجده نوعاً من الاعلان المسبق عن اوضاعنا. هذا هو بالنسبة الي السبب العقلاني، الظاهر، لمشروعي الجبراني. لجبران بكل تأكيد، مخزون كبير، لأنه الى جانب مسألة الهجرة والحالات المتشابهة بيننا وبينه، هناك عبقرية الرجل، عبقريته التي اتاحت له، وبشكل باكر جداً، ان ينظر الى الأمور نظرة شمولية. نظرة يلوح لي انها لم تفارقه منذ خرج من رحم أمه حتى وصوله الى القبر. كانت نظرته الى الأمور، دائماً، نظرة ثاقبة ترى بشكل مسبق، وفي هذا ما فيه من امكانات للوصول الى صورة سينمائية وعمل سينمائي متكامل. فجبران كان سينمائياً قبل السينمائيين، هو الذي رسم وكتب ومزج بين الرسم والكتابة وكأنه كان يحقق سينما من دون سينما. ولنتذكر هنا ما قاله مرة من ان الكلام الذي يكتبه، سوف يُرى ذات يوم، بلغة أوضح من اللغة التي يكتبه بها، ويعمم بشكل أفضل. وأخيراً أقول ان اختياري لموضوع جبران ينبع من حالة وعلاقة هوس بيني وبين هذا الموضوع. سيكون منجم مواضيع لماذا أنت بالذات، خصوصاً وان معظم أفلامك انطلق دائماً من رؤى موضوعية للواقع وقضاياه؟ - أعتقد ان بامكاني هنا ان أسألك: لماذا غيري وليس أنا؟ أنا أرى ان جبران نافذة ومرآة يمكنني ان اتناول عبرهما أموراً كثيرة. في اعتقادي ان جبران سوف يكون في المستقبل، في المنطقة وفي لبنان، منجم مواضيع. سيتم تناوله بأكثر من طريقة: الرسم سوف يعود اليه، الكتابة عنه ستتواصل وتزداد. مهما يكن، ان الكتابة عن جبران لم تتوقف أبداً. فقط كل ما كتب عن جبران حتى الآن كتب على شكل تصفية حساب معه أو ضده. كتب كأن جبران لا يزال حياً وكأنه خصم يجب افتراسه. ربما يصح ان نقول ان الحرب الأخيرة في لبنان هي التي قتلت جبران وأجهزت عليه، وجعلتنا قادرين على ان ننظر اليه خارج عاطفتي الحب والكراهية، خارج ما اذا كان الكلام الذي قاله لماري هاسكل صحيحاً أم خطأ، خارج اطار محاسبته ولومه وكأنه لا يزال يرتع بيننا. حتى كتاب ميخائيل نعيمة فيه هذه العلاقة مع جبران. فقط بعد الحرب صار جبران شيئاً آخر. الحرب أعطت كلامه ونظرته ابعاداً ثانية. هو حين يقول: "لكم لبنانكم ولي لبناني" كنا نقرأ هذا الكلام قبل الحرب وكأنه نوع من السفسطة اللغوية. اليوم صارت العبارة شيئاً آخر تماماً. وهذا هو جوابي عن سؤالك: لماذا أنا بالذات. لنبق عند البعد الذاتي… ماذا يعني لك جبران في سيرتك الخاصة؟ - بكل بساطة، عاش جبران سفراً يشبه سفري. ومنفى يشبه منفاي. عندما أقرأ جبران أحس كأنه يتحدث عما عشته وعما حدث معي. مثلاً حين يتحدث جبران عن الحي الصيني في مدينة أميركية، أشعر وكأنني أنا الذي أتحدث، بلسانه، عن الحي الصيني الذي عشت فيه في بروكسيل، حيث شاهدت وعشت نفس ما شاهد وعاش. قصة حياته تبدو لي وكأنها تحمل الكثير من ذاتي: السفر، الهجرة، المنفى القسري، مراحل الرحيل المتعاقبة، سفر الجسد وحيرة الروح، سفر المقيم، اقامته آخر حياته في غرفة واحدة حتى يحقق فيها أهم كتبه وأضخمها. نعرف انه في سنواته الأخيرة، بالكاد كان يخرج من غرفته التي أطلق عليها اسم "الصومعة". لم يكن يبارحها حتى حين اراد ان يعود الى لبنان، وحتى حين صار قادراً على السفر لرؤية مي زيادة في مصر، وعلى زيارة العالم، حتى حين صار يملك ما يكفي من المال ليقوم بكل ذلك… يومها فضل نسيان هذا كله والبقاء في صومعته منصرفاً الى الكتابة وكأنه يعيش سفر المقيم الدائم. في ذلك الحين كان العالم خرج من الحرب وانفتح على بعضه، فاذا بجبران يفعل عكس ما يفعله بقية الناس، اذ به يتقوقع على ذاته مختاراً الاقامة داخلها، مع تلك الذات لا يغادرها. قبل ذلك حين كان الجسد مؤهلاً، لم يكن هو قادراً على الرجوع الى لبنان، لبنان الذي كان واقعاً تحت احتلال عثماني يطالب برأس جبران. في ذلك الحين جرى اعدام عدد كبير من رفاقه واصدقائه، وحكم على كثيرين، من بينهم ايوب ثابت الذي هرب وانضم اليه في نيويورك ليشكلا مع ميخائيل نعيمة "الرابطة القلمية". أيوب ثابت صار كما نعرف رئيساً للجمهورية، ودعا جبران للرجوع فرفض، وبهذا يتبدى لنا ان سفره المقيم وجموده فيه شيء من ذاتيتنا. هل كان بإمكانك ان تحقق فيلماً عن جبران قبل عشرين سنة، محل "كفر قاسم" مثلاً؟ - أكيد… لا. معنى هذا ان العلاقة بينك وبين جبران علاقة جديدة؟ - بالأحرى… العلاقة بيني وبين الحياة هي التي تجددت وتبدلت وصارت شيئاً آخر تماماً. لماذا لم يهتم بالثورة الروسية بعد تجربتك السينمائية التي عاشت، حتى الآن، مسيرة تصل الى عشرين عاماً، هل تعتقد ان وصولك الى جبران يمكنه ان يكون نوعاً من جردة حساب، أو تصفية حساب مع نفسك؟ - ابداً… ابداً. لنقل انه لون جديد اضيفه الى اللوحة السابقة نفسها. أو كأنني أنظر الى مشهدي نفسه من وجهة نظر اخرى. انه، الهم نفسه الذي كان يشغل بالي في كل أفلامي السابقة. ربما تغير الموضوع لكن الهم هو هو. وجبران، في اعتقادي، هو جزء من ذلك الهم. سؤالي الأساسي: ما هو الشكل الذي يتخذه الهم اليوم. هذا الهم كان، في الماضي، الهدف والحلم معاً… وهما تحولا الى مجرد منفى. وفي هذه النقطة بالذات التقيت بجبران الذي لم يهتم، في مساره، بما هو خارج ذاته. تصور انساناً عاش زخم حياته في العام 1917 لم يهتم ايما اهتمام بالثورة البولشفية. عاش الحرب ولم يهتم بها، واكبته القضايا الكبيرة فلم يلتفت اليها. اهتم فقط بقضية الاستعمار العثماني، وعروبة المنطقة خصوصاً في سورية ولبنان. وهذا كله قاده الى منفاه الطوعي والقسري في آن معاً. مقابل هذا، نحن انطلقنا بأحلام كبيرة وبأهداف أكبر وكان لدينا اقبال هائل على الحياة، مشاريع لنا ولغيرنا كثيرة. هو لم يكن مشروعه مشروع الناس، كان مشروعاً شخصياً، مشروعاً وهمياً حول شخصيات يخترعها ويعطيها كل رونق الحياة. نحن كنا ضد التخييل والتركيب، هو كان مع التخييل والتركيب. كان أول ما فعله، ان اخترع لأبيه اسماً هو "خليل الكافر" وكتب عنه وكتب "الأجنحة المتكسرة" التي أتت تركيباً في تركيب. مقابل هذا كنا نحن نريد ان نصنع السينما انطلاقاً من الواقع والحقيقة، فيما كان هو يريد ان تحول الحقيقة الى سينما وخيال. كان هذا هو الفارق الرئيسي بيننا. في نهاية المطاف اعتقد اننا كنا ممسكين بالخيط نفسه ولكن كل واحد من طرف. والطرفان كانا يقودان الى المنفى. في اعتقادي ان المكان الذي وصل اليه جبران هو الزمن، الزمن الحقيقي الذي يسيطر علينا. وكان هو أفضل منا وأوعى، لأنه أحس ذات لحظة انه لم يعد قادراً على ان يعيش في زمن الآخرين. نعرف ان المشروع ولد لديك منذ ثلاث سنين. والغريب ان هذه السنوات كانت هي التي شهدت الاهتمام المتجدد بجبران، فازدادت ترجمة كتبه والحديث عنه وصولاً الى السيرة التي كتبها له جان بيار دحداح بالفرنسية وصدرت قبل فترة في باريس، تمهيداً لصدور أعمال جبران الكاملة مترجمة الى الفرنسية. هل تعتقد، مثلاً، ان المصادفة وحدها هي التي جمعت بين مشروعك ومشروع الدحداح، وجعلتكما تلتقيان في العمل على كتابة الفيلم في نهاية الأمر؟ - جان بيار دحداح يقول ان جبران هو الذي جمع بيننا. لقد قلت لك على أي حال ان جبران في طريقه لأن يصبح موضوعاً كبيراً. المصادفة، هنا، لافتة على أي حال. بالنسبة الي لاحظت منذ 5 أو 6 سنوات ان هناك مسرحية اقتبست عن كتاب "النبي" لجبران وظلت تعرض على احدى الخشبات الفرنسية طوال سنة بنجاح. فاكتشفت ان هناك، في العالم، اهتماماً بجبران وادراكاً لعصريته. وأدركت ايضاً ان الاهتمام بجبران يتركز من حول كونه متمرداً ومثالياً. متمرد على العنف من جهة، ويخوض من جهة ثانية في كافة المواضيع التي لئن كانت تبدو لوهلة مثالية، فإنها سرعان ما تكشفت عن كونها المواضيع الحقيقية، مثل: البيئة، فردية الانسان، الحروب، وكل ما حولنا من شؤون: الثياب، الأكل، الحب، العواطف… هذه الأمور كلها علينا ان نلاحظ ان جبران لم يتناولها كمواضيع تأمل، بل كجزء من حياته. قيمة العمل على جبران هو ان جبران لم يكن مفكر اللامعنى واللاجدوى والعبث، بل مفكر المعنى والجدوى والسر الذي يوصل الى المفيد، الى المعنى. هذا هو جبران، جبران الذي كتب نصوصاً سماها "النبي" وتمتلئ بالنبوءات. اليوم بعد ان مات جبران، بعد سبعين عاماً من كتابته لنصوصه التي كانت تدعي النبوءة والتبصر والتوقع والبصيرة، نتساءل ما الذي فعله الزمن بنصوصه ونبوءاته؟ بكل بساطة: لم يضف الزمن الى ما قاله جبران شيئاً، بل أكده وجعله يبدو حقيقياً وواقعياً. وجبران كان يقول على أي حال ان كلامه سوف يتخذ كل معناه بعد كذا عقد من السنين. وأعود الى سؤالك الأول، أذاً لماذا أنا أهتم بجبران منذ ثلاث سنوات انا الذي أبلغ الآن الخمسين من عمري؟ العودة الى جبران تعني ان كلامه الذي كان حين كتبه ادعاء، أصبح الآن جزءاً من الحقيقة. الحقيقة فيها ادعاء ولكن ليس كل ادعاء فيه حقيقة. جبران… لبناني وعربي فقط هذه أول مرة اراك تندمج في موضوعك الى هذا الحد، حتى من قبل بدء تحويل السيناريو المكتوب الى شريط… - لأن هنا ثمة تحديات كثيرة، في الكتابة وفي الاقتراب من جبران، من العالم الجبراني المؤلف من أكثر من 2500 صفحة، ومن صور ورسوم وخيالات. من حياة ظاهرها عدم. حياة جبران متفرعة متشعبة مليئة بالثغرات. ثغرات لا معنى لها في الظاهر. كل هذا يشكل تحدياً كبيراً. مثلاً التحدي الأول، هل لنا ان نحقق فيلماً عن حياة وآلام جبران. عن الفكرة الأولى التي نحملها عن حياته وآلامه، عن معاناته وعذابه. عن موت الكثيرين من حوله وعن هجرته. هل نحقق فيلماً عن كتبه عبر اقترابات عديدة ممكنة؟ بالنسبة الي، اقترابي الخاص من جبران هو الأساس ولا أريد ان أحكي منذ الآن عن ذلك الاقتراب… لانني لم أتأكد منه كلياً بعد. التحدي الثاني هو الانتاج. كيف تنتج جبران. هل تنتج جبران أميركياً أم لبنانياً أم فرنسياً؟ فرنسا يهمها جبران لكن لا يهمها ان تنتجه وأميركا بدورها يهمها جبران لكنها غير مهتمة بانتاجه، والا لكانت انتجته منذ زمن بعيد. الاثنان لا يهمهما ان يأتي سينمائي عربي لبناني ينتج جبران. جبران ليس أميركياً داخل أميركا. انه أميركي خارجها فقط… كل هذا يجعل انتاج فيلم جبران عملاً في غاية الصعوبة. اعتقادي الخاص هو انه لا يمكن ان يكون هناك فيلم عن جبران خارج لبنان. سيكون فيلماً لبنانياً اذاً؟ - ليس تماماً. سيتكلم لغات عدة. جبران أصلاً لم يتقن أية لغة لكنه عبر بكل اللغات بشكل عبقري. هذا ما قربه من ويليام بليك مثلاً. كانت كتابته تنطلق حتى تصل الى حدود مسدودة، وحين كان يريد ان يذهب اكثر فتعجز اللغة عن مطاوعته كان يرسم. من هنا كان اقترابه من بليك كتابة ورسماً. وهنا ألاحظ أمراً مدهشاً وهو ان كل الذين كتبوا عن جبران بالعربي، وخصوصاً في لبنان، وترجموا "النبي"، جعلوا النصوص من دون صور. فالحقيقة ان كتاب "النبي" يظل ناقصاً ان نشر من دون صور، فالكتاب هو أشبه بمعبد متكامل يلعب فيه الرسم دوراً أساسياً. المعبد هنا له علاقة أساسية ببناء الكتاب. المعبد اسمه معبد الانسان. وفي الرسم كما في الكتابة حالات الانسان من الولادة حتى الموت. المعبد يعبر عن هذا كله. منذ فكر جبران وهو في السابعة عشرة بكتابة "النبي" فكر به رسماً وكتابة في الوقت نفسه. جمع من كل مرحلة من حياته فكرة، بما في ذلك مرحلة قراءته لنيتشه. بعد ذلك حين اكتمل موضوعه وسافر كل سفراته تعمق موضوعه وطلع من كل ذلك بأربعين صفحة. في رأيك، اذن، كل ما كتبه جبران أوصله الى "النبي"؟ - بالأحرى ان العلاقة بين جبران والنبي هي علاقة النقطة بالمحيط. كتبه صبت كلها في "النبي" مثلما تصب النقاط في المحيط. "النبي" هو كتاب الكتب. كتبه الأخرى موضوع، قصة، صرخة، خطاب… وكل هذا يبدو لنا غير ناجح. ما نجح لدى جبران هو العلاقة بين حياته والكتابة. هنا قيمة جبران الأساسية. جبران لا قيمة له في كتاب واحد. بل قيمته تنبع من ان حياته مرتبطة بكتبه، و"النبي" هو خير تعبير عن ذلك كله. برأيك هل ستضيف السينما الى جبران، أم ان جبران هو الذي سيضيف الى السينما؟ - في رأيي ان المسألة مع فيلم جبران، هي هي مسألة كل المبدعين العرب الذين رحلوا انطلاقاً من سؤال يقول: متى ننقل التراث العربي الى السينما، أعني الى صورة؟ فالحقيقة انه اذا لم ينقل جبران أو المعري أو المتنبي او ابن رشد الى السينما سيكون معنى ذلك ان كلامهم سيظل خارج الواقع والعصر. خارج لغة العصر، تماماً مثل الزمن العربي الذي يبدو انه من المحظور عليه ان يعبر عن نفسه بالصورة. انا أتساءل، مثلاً، كيف لم ينتج في عالمنا العربي فيلم عن الجاحظ، عن النهضويين، عن الأفغاني عن عبدالناصر؟ لا أفهم السبب. فقط ألاحظ ان هناك فيلماً عن غاندي، وغاندي يشبه جبران كثيراً، وثمة كلام مشترك لهما وعنهما، وليس هناك فيلم حقيقي عن جبران بعد. السينما أدخلت غاندي الى العصر والى لغة العصر. في أيامنا هذه من يريد ان يقرأ؟ من لديه وقت للقراءة؟ ان قراءة كتاب عن حياة جبران أو غاندي تستغرق شهراً، أما مشاهدة فيلم عن هذا وذاك فلا تستغرق أكثر من ساعة ونصف ساعة. التاريخ بأفكاره وشخصياته وأحداثه ومعضلاته صار سينما في الغرب. أما عندنا فإن لا شيء دخل السينما أو عالم الصورة بعد. ترى أفليس معنى هذا اننا نمنع ذاكرتنا نفسها من دخول لغة العصر؟